مجلة الرسالة/العدد 341/الفروق السيكولوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة/العدد 341/الفروق السيكولوجية بين الأفراد

مجلة الرسالة - العدد 341
الفروق السيكولوجية بين الأفراد
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1940



للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

أشرت في المقابلة السابقة إلى التجارب التي أجراها مونستربرْج لاختيار سائقي الترام والسيارات وعاملات التليفون وإلى المقاييس التي وضعها لمعرفة الأفراد الصالحين للمهن المختلفة. وأنه لمن الأنصاف التاريخي ألا نترك موضوع (اللياقة المهنية) من غير أن نذكر كلمة عن الدكتور فرانك يارسونز أحد موظفي (إدارة الخدمة الاجتماعية) في بوستن بأمريكا.

كان ذلك في سنة 1908 حينما جمع الدكتور بارسونز التلاميذ الذين أتموا التعليم الأولى في الحي الذي يقطنه والأحياء المجاورة، وكانت الغاية من هذا الاجتماع أن يبحث مع هؤلاء المراهقين أمر مستقبلهم، ونوع المهن التي يريدون احترافها، ولِمَ يؤثرون مهنة غيرها، وما هي الصفات الشخصية والكفايات الفردية التي يتقدم بها كل منهم للمهنة التي يختارها. وما كان اشد عجبه حين ظهر له أن هؤلاء المراهقين لم يعرفوا شيئاً عن الحياة العملية التي يواجهونها، ولا السبب في تفضيل نوع من العمل على غيره، وما الذي تتطلبه كل مهنة من المؤهلات الجسمية والمقدرة العقلية والخلقية. ولقد استطاع بارسونز أن يسدي لهم نصائح فردية، وأن يوجه كلاً منهم إلى الناحية التي تتفق ومواهبه الشخصية ومعلوماته. وكان هذا الاجتماع التاريخي النواة الأولى لتكوين (مكتب الإرشاد المهني) الذي افتتح في نفس العام. وقد أسرع إلى هذا المكتب البنون والبنات بعد إتمام الدراسة الأولية للاستشارة، ومعرفة أنسب الحرف لهم ولهن. ولقد كان الدكتور بارسونز موهوباً القدرة على معرفة خواص الأفراد، ومزاياهم العقلية والخلقية والجسمية، واختار ما يناسب كل فرد من عمل. ولذلك صادف مشروعه هذا نجاحاً وإقبالاً

لم تكن نصائح بارسونز مبنية على اختبارات ومقاييس علمية ولكنها كانت نتيجة لفكرة يكونها عن طالب التوظف بعد سؤاله عدة أسئلة عن ماضيه وحاضره واستعداده ونوع دراسته وآماله

وقد شعر بارسونز بنقص طريقته هذه فوضع نظاماً أحكم ذا ثلاثة عناصر أساسية: العنصر الأول درس كل مهنة من المهن الممكنة ومعرفة نوع العمل فيها، وظروف هذه المه الاقتصادية والصحية والاجتماعية والفنية، وبذلك يعرف الطالب أو الطالبة في وضوح ما تتطلبه المهنة من الممتهن ومستقبلها. والعنصر الثاني أم يكون على صلة بنظار المدارس ومدرسيها، وأن يخبرهم بنتائج أبحاثه ودراساته الفنية المهنية، ويطلب إليهم ملاحظة التلاميذ أثناء الدراسة وكتابة تقريرات عن تحصيلهم ونشاطهم المدرسي، واستعدادهم الفردي وميولهم، والناحية الممتازة في الفرد، حتى يرجع إلى هذه التقريرات عند الحاجة. والعنصر الثالث أن يصلح من الطريقة التي كانت متبعة باستقبال طالبي المهن ووضع أسئلة عامة لهم، حتى يستطيع بالطريقة الجديدة أن يجمع أكثر ما يمكن من معلومات منظمة عنهم

كان أثر هذه الحركة أن انتبهت مجالس التعليم المختلفة وجمعياته في الولايات والمدن الأمريكية لدراسة مشكلة اللياقة المهنية، والخصائص السيكولوجية للأفراد، فعقدت المؤتمرات، وأسست مكاتب الإرشاد المهني، وعين مستشارون مهنيون لزيارة المدارس - كما يزورها الأطباء - ولإبداء رأيهم في صلاحية من أنهَوا دراستهم من التلاميذ لأنواع المهن المختلفة، كما نشطت المدارس، والمؤسسات العلمية، والمعامل والشركات، والجمعيات، لإمداد مكاتب الإرشاد المهني، والمستشارين المهنيين بالمعلومات التي يحتاجون إليها، وكثرت هذه المعلومات وازدادت. وغدا المستشارون يسدون نصائحهم مبنية على الاجتهاد والتجربة من غير أن يقوموا باختبارات لقياس الذكاء، أو الاستعداد الخاص، أو الصفات الفردية الأخرى، فكانوا ينصحون ضعاف الرئة مثلاً ألا يشتغلوا في المعامل التجارية، أو المصانع ذات الهواء الرطب أو كثير البخار، ولا يشجعون على التوظف في الشركات ذات المستقبل الغامض. وهكذا ابتعدت هذه المكاتب عن الغرض السيكولوجي الذي أنشئت من أجله، وأصبحت (مكاتب استخدام). وقد اعترف المستشارون بذلك، وكانت حجتهم أنه لم تظهر بعد المقاييس السيكولوجية المقنَّنة لمعرفة الفروق الفردية وحتى يمكن الحكم على صلاحية نوع معين من الأفراد لنوع معين من المهن

وضع بارسونز مجموعة من الأسئلة لاختبار طالبي المهن، استطاع بها أن يكشف عن عادات المختبر وميوله وتجاربه، ومن بين هذه الأسئلة ما يأتي:

هل تصرفاتك هادئة أو هائجة، حكيمة متواضعة أو ترمي للإعلان عن النفس؟ إذا كنت مع جماعة فهل تفكر في راحتهم وتعمل عليها؟

هل ابتسامتك طبيعية وبسهولة أو متكلفة؟

هل أنت صريح في رأيك، شفيق في معاملاتك، حريص على اختيار أقوالك وأفعالك؟

هل تخيلاتك وأفكارك طبيعية ومتواضعة، أو اعتدائية، أو مغرورة، أو متشائمة، أو ثائرة؟

ما مقدار درجة انتباهك للشيء إذا كانت الدرجة القصوى الممكنة للانتباه هي مائة؟ ودرجة ملاحظتك، ودرجة ذاكرتك، ودرجة تعقلك، ودرجة تخيلك، ودرجة إدراكك، ودرجة رد فعلك (الرجع) للبيئة الطارئة، ودرجة قدرتك التحليلية للظروف، ودرجة تفكيرك الإنتاجي

هل تستطيع أن تخلق علاقات طيبة بسرعة مع من تتصل بهم؟

هل أرادتك قوية أو ضعيفة، مترددة أو عنيدة؟

أتتمتع بوجودك في المجتمعات، وهل يسر الناس وجودهم معك؟

وكثير غير هذه الأسئلة

وربما كانت هذه الأسئلة مفيدة عملياً لو أن الإجابة كانت عنها صحيحة مبنية على علم المختبر نفسه وميوله وعاداته. وإلا فمن القراء من يستطيع أن يجيب عن كل هذه الأسئلة بدقة وهو مقتنع بصحة الإجابة؟ وما دامت الإجابة موضع شك فما يبنى عليها أيضاً من النتائج موضع شك. وإذاً فطريق الأسئلة هذا لا يمكن الحكم به على خصائص الأفراد وشخصياتهم، ولا أن تكشف عن الفروق السيكولوجية بينهم

وتسمى طريقة استخدام الأسئلة في الدراسات النفسية والإجابة عنها طريقة (التأمل الباطني) وهي طريقة لها عيوبها الكثيرة، ومن بينها أنها ليست موضوعية محضة ولكنها ذاتية شخصية خاضعة لعواطف الشخص وأهوائه وذاته وحالته النفسية لحظة الاختبار والعلوم إنما تعتمد في بحوثها ونتائجها على الطريقة الأولى لا الثانية

وبعد فقد عرضنا حتى الآن تاريخ الفروق السيكولوجية بين الأفراد عرضاً عاماً، وتطورت الاختبارات والمقاييس التي وضعت حتى أول القرن الحاضر. غير أن علم النفس بفروعه المختلفة قد نهج خلال الخمس والعشرين سنة الماضية منهجاً علمياً أكثر دقة، في الطريقة، وفي إحصاء النتائج. كذلك درست خصائص الأفراد العقلية والجسمية والخلقية والمزاجية، كلُّ طائفة منها على حدة، ووضعت لها مقاييس تختلف كثيراً أو قليلاً من إقليم لإقليم، وقُنِّنَ بعض هذه المقاييس

ويمكن حصر أنواع هذه المقاييس التي استخدمت لمعرفة الفروق السيكولوجية بين الأفراد فيما يأتي:

(1) مقاييس الذكاء العام. ويقاس بها الذكاء العام للأفراد

(2) مقاييس الذكاء الخاص. وتقاس بها المواهب العقلية الوراثية الخاصة، كالموهبة الموسيقية والموهبة الرياضية

(3) مقاييس الأمزجة والخلق. وهي تقيس عواطف الأفراد ونزاعاتهم الخلقية للأجرام أو الإصلاح

(4) مقاييس التحصيل المدرسي أو البيئي اللغوي والعلمي

(5) المقاييس المهنية المحضة

وسنعالج كل مجموعة من هذه المقاييس في مقالات قادمة إن شاء الله.

(بخت الرضا. السودان)

عبد العزيز عبد المجيد