مجلة الرسالة/العدد 342/لعل الليالي. . .!

مجلة الرسالة/العدد 342/لعل الليالي. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1940



(رسالة مهداة إلى الروح الذي أهدي إليه (وحي الرسالة))

الدكتور زكي مبارك

ما هفا القلب لخطرة من خطرات الحب والمجد إلا ترنمت بقول البحتري:

لعلّ الليالي يكتسين بشاشةً ... فيرجعن من عهد الهوى المتقادم

ولعهد الهوى في قلبي وعقلي ألوف من الألوان والظلال. فهو تارة صورة وجدانية، وتارة صورة وطنية، وحيناً نزعة إسلامية، وأحياناً نزعة عربية. وقد يحلِّق الفكر فيرتفع إلى الأجواء الإنسانية في كثير من الأحايين

ولا أعرف بالضبط متى تثور في صدري هذه المعاني: فقد تثور للشعور بالتقصير حين أتذكر تخلفي عن أداء بعض الواجبات كالذي وقع يوم أهملت التنويه بكتاب (الأدب المصري الإسلامي) للأستاذ محمد كامل حسين، مع أن هذا الكتاب قدَّم إلى عقلي فنوناً من الأريحية حين حسبتُ نفسي على قراءته خمس ليال متواليات، وكالذي وقع حين قّصرت بكتاب الدكتور طه بك حسين عن أبي العلاء في سجنه، مع أني قرأته في سهرة واحدة وقيدت بهوامشه ملاحظات كانت خليقة بأن تفتح للقراء باباً من الدرس والتحقيق

وهل أنسى أني فرطت في التنويه بكتاب الأستاذ سعيد العريان عن حياة الرافعي، وهو كتاب شُتِمتُ فيه بغير حق لأني كنت قلت إن العريان لا يدرك أسرار الحب ولا يفهم أين يقع مثل قلبٌ الرافعي حين ينحدر في هواه؟ وكيف يدرك العريان هذه الدقائق وهو لا يصل إلى (شبرا) إلا بدليل مع أن عمله هناك؟!

وكيف أغفر لنفسي السكوت عن الأستاذ عبد المتعال الصعيدي وقد اجترأ على الدخول بيني وبين الأستاذ أحمد أمين والدكتور طه حسين؟ كان هذا الأستاذ جديراً بالالتفات إليه حين أنكر عليّ أن أقول: (إن أبا نواس في فجوره أشعر من أبي العتاهية في تقواه)؟ ولو أني التفت إليه لخلقت فرصة لتحديد الصلات بين الأدب والدين

وفاتني، مع الأسف، أن أتحدث عن كلمة قالها رفعة رئيس الوزارء يوم جمع مديري الأقاليم بمكتبه في وزارة الداخلية: فقد نبههم إلى مراعاة الكفاية قبل مراعاة الأقدمية في ترقية الموظفين، وأعلن بصراحة أن التقيد بالأقدمية يعطل مواهب الأكفاء، ويروض الكسالى على الاطمئنان إلى أن الزمن يصنع في الترقية ما لا يصنع الجهاد في أداء الواجب بأمانة وإخلاص

ولقد كانت هذه النظرة الحصيفة خليقة بأن تُقدَّم إلى القراء في مقال أو مقالين عساها تصبح من التقاليد الأساسية في الحكومة المصرية

وهل ضاعت المواهب في بلادنا إلا بسبب التقيد بالأقدمية؟

إن رفعة رئيس الوزارء فتح مجال النضال لتحطيم هذه الصخرة التي طال عهدها بتعويق خطوات المجاهدين في سبيل الواجب، فكيف نسكت وقد رأينا الكسالى الخامدين يعتمدون على الزمن في تقدير الأنصبة والحظوظ والحقوق؟

ومن الذي يشرح هذه المعاني ويصيِّر الاعتماد على الكفاية عقيدة وطنية إذا سكت عنها الأدباء واكتفوا من الأدب بوصف القمر والشمس والنجوم والأزهار والرياحين؟

وكيف يُحجب الأدباء عن درس الشؤون الأساسية في سياسة المجتمع وقد صار الأدب في بلادنا من المؤهلات الملحوظة في اختيار الوزراء؟

وهل يظن عاقل أن وزراءنا يرضون لأنفسهم ومواهبهم بالتخلف عن مسايرة الحياة الأدبية؟

الأديب المصري هو المسئول عن العزلة التي يعانيها بالبعد عن محيط الحياة الرسمية، فلو أنه كان اهتم بمتابعة ما يجدّ من الشؤون التي تعالجها الدولة بالطب لأمراض المجتمع لنُصبتْ لأدبه الموازين، وصار له في كل مقام مقال؛ ولكن الأديب المصري يتوهم في أغلب الأحيان أن الأدب له مجال غير النظر فيما يهتم به وزراء الدولة من خطير الشؤون

إن الزمن يُسرع، ثم يُسرع، ثم يسرع، وأخشى أن تنقضي حياتنا قبل أن نرى للقلم دولة في هذه البلاد

فمتى يعرف الأديب أن من واجبه أن يُقنع الدولة بأنه خُلق لوصف المجتمع باللغة العربية، وهي اليوم لغة مصر، وعن مصر يأخذ الحجاز نفسه علوم اللغة العربية؟

ومتى يستطيع الأديب بحسن الترفق والتلطف أن يكون له في كل معضلة قول، وفي كل مشكلة رأي؟ متى يغيِّر الأديب ما بنفسه فيدرك أن الدولة تنفق في كل سنة نحو نصف مليون من الدنانير لتخلق الأديب الذي يستطيع أن يشغل الناس بأخلاقهم وأذواقهم ومبادئهم.

والذي يستطيع بسحر البيان أن يروض الجماهير على تذوق معنى الحياة ومعنى العدل؟ الأديب في بلادنا كثير التوجع والتفجع، ولكنه لم يخط خطوة جدية في تجميل الوجود، وهل في الوجود جمال وقبح؟ الوجود هو هو لسائر الناس، ولكنه كالماء يتلوَّن بلون الإناء. والأديب الحق هو الذي يستطيع تحويل الوجود من لون إلى لون، فيُضحك قراءه حين يريد، ويبكيهم حين يشاء، وفَقاً لخطة مرسومة يفرضها الشعور بألوان ذلك الوجود

وأ ين الأديب الذي سحره جمال الريف المصري وهو يتنقَّل بالسيارة أو القطار من إقليم إلى إقليم فوصف أرض مصر وسماءها وصفاً يخلق الحرص الصادق على الاعتزاز بالمِلكية في أرجاء هذا الوطن الجميل؟

أين الأديب الذي يفكر في بناء دار بالريف يسكن إليها من وقت إلى وقت، كما يصنع أدباء الفرنسيس والإنجليز، وكما كان يصنع أدباؤنا الأقدمون؟

إن الأديب يشكو من تجاهل الدولة لحقه في الحياة، فهل حفظ هو حقه في الحياة؟

أليس من العجب العاجب أن يكون الفلاح اعرف بحقه من الأديب؟

الفلاح المصري هو المثل الأعلى في الوطنية، لأنه لا يبيع شبراً من أرضه إلا بعد أن يبلله بالدمع، وهو يشعر بالخزي أمام نفسه وأمام زوجته وأطفاله حين يبيع فداناً ورثه عن أمه أو أبيه، فأين الأديب الذي يحس هذه المعاني؟ أين وميادين الأدب تُنتقَص في كل يوم ولا تثور زفرة من شاعر أو كاتب أو خطيب؟

وللأدباء أملاك صحيحة ورثوها بأسنَّة الأقلام، كما ترث الدول أملاكها بالمدافع والسيوف، فأين من يعرف تلك الأملاك؟ أملاكنا هي الميادين الذوقية والأخلاقية والاجتماعية ومن العار أن يسبقنا غيرنا إلى العناية بشؤون المجتمع ونحن نملك من قوة الإفصاح عن أسرار المجتمع أضعاف ما يملكون، ونستطيع نقل المجتمع من حال إلى أحوال إذا صرنا من أصحاب المبادئ والعقائد، وفرضنا على أقلامنا الجهاد الموصول في تثقيف المشاعر والعواطف والأذواق

والى من تلجأ الأمة في تهذيب مشاعرها وعواطفها وأذواقها إذا جف قلم الأديب؟

وما قيمة الأديب إن لم يكن لصرير قلمه صوت مسموع في الأكواخ والقصور والمعاهد والمعابد؟ وهل سيطرتْ عقيدة دينية، أو نظرية أخلاقية، أو شريعة ذوقية، بغير سناد من أسنّة الأقلام؟

أخشى أن يكون الأدباء في مصرهم (الأفندية) في فلسطين؛ فالأفندية هناك هم الذين باعوا أملاكهم، الفلاحون في فلسطين فهم الذين عرفوا قيمة الوطن فلم يبيعوا ما ورثوه عن الأباء والأجداد

أين في أدباء اليوم بمصر من يذكِّر بالشيخ محمد عبده، الرجل الفلاح الذي فرض على الدولة أن تحسب لقلمه ألف حساب؟ وهل فينا شبيه للأزهري الفلاح سعد زغلول الذي رجّ مصر والشرق بدعوته الكريمة إلى إعزاز الشخصية القومية؟

إن الأنبياء - وهم مؤيَّدون بروح الله - لم يصلوا إلى القلوب بغير البيان!

فمتى يصير إعزاز البيان في بلادنا شريعة من الشرائع؟

وهل نصل إلى ذلك إلا يوم يعرف أرباب الأقلام أنهم رسل هداية، وأن سواد الحبر في أقلامهم أنفع لوطنهم من بياض الصباح؟

حدثنا الأستاذ مصطفى عبد الرازق بك في مقال نشره بجريدة السفور منذ أكثر من عشرين سنة، أنه رأى زهرة جميلة في أحد أسفاره، وأنه لم يجد من يعرف اسم تلك الزهرة. فقال: عزاءً، عزاءً، أيتها الزهرة، فليس اسمك أول اسم يضيع في هذه البلاد!

وهل صنع الأستاذ مصطفى عبد الرازق أكثر مما يصنع من يتوجعون للحق الضائع في صمت؟

هل نزل من القطار فنقل الزهرة إلى قصره وخلع عليها اسمًا من طرائف الأسماء؟

وهل يذكر الآن مصير تلك الزهرة، وقد توسلتْ إليه أن يرعى وداد لحظة؟

ولتلك الزهرة شبيه من الجواهر المجهولة في هذه البلاد!

عندكم الأديب، وهو أنفع لكم من معدن (الولفرام)، الذي استكشف بغتة في الصحراء الشرقية، وهو معدن نفيس يغنيكم عن أخيه الذي يصدر عن بلاد الصين، وقد استكشفه رجل أجنبي في السنة الماضية. فأين الأجنبيُّ الملهم الذي توفقه المقادير إلى استكشاف العبقرية الأدبية في وطن (حابي) والحابي هو الوهاب، وهو اسم النيل قبل أن يعرفه اليونان؟ تحرَّك، أيها الأديب، ودُلُّ على نفسك كما دلُّ على نفسه معدن الولفرام!

إن ذلك المعدن هو أصلح المعادن لصياغة الأسلاك الكهربائية، ونفسك هي الكهرباء أيها الأديب، فاصعقْ من يجادلونك في عبقريتك، وسيطر بقلمك على الوجود.

زرت عين حلوان، فسمعتها تقول: منذ ألوف أو ملايين من السنين وأنا محبوسة في الصحراء، لا يحس وجودي فرعون ولا خليفة ولا سلطان ولا مَلك!

فاقتديت بالحكيم مصطفى عبد الرازق وقلت: معذرة، يا عين حلوان، فما كنت أول جوهر ينساه أهل هذه البلاد!!

وما عين حلوان؟

هي عين يشفى ماؤها من أمراض الكبد

ولى كبِدٌ مقروحة من يبيعني ... بها كبداً ليست بذات قروحِ

أباها عليَّ الناسُ لا يَشترُونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح

فأين كانت هذه العين وقد مات ألوف وملايين من أجدادنا الأكرمين بأكباد قرَّحتها مآسي الحب؟

وهذه العين أراد طمسها بعض أعداء مصر بالأسمنت في غفوة الليل ولم يفلحوا

فمتى ينتصر الأدب على خصومه الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم!

لن يكون لمصر عَلَم مرفوع إلا يوم تعرف أن الله أعزّها بالقلم، وأنه عزّ شأنه جعل في واديها شعلة الحركة الفكرية في القديم والحديث. ومن الذي يتصور للدنيا حياة بدون مصر وهي صلة الوصل بين الشرق والغرب؟ وهل كان لأنبياء الشرق سناد غير مصر وفيها عاش أعظم الحكماء والرهبان والصوفية؟ وهل اتفق لمدينة في الدنيا ما اتفق للقاهرة من رعاية الصوامع والكنائس والمساجد؟

إن وادينا هو الوادي الأخضر بين وديان العالم، ولن نزكي عن نعمة الله علينا إلا بالتغني بهذا الوادي الجميل؛ ولكن من يسمح لنا بالغناء؟

هل رأيتم جو مصر في يوم 6و11 يناير؟

هل رأيتم؟ هل رأيتم؟

حدثوني في أي بلد يرى الناس مثل هذين اليومين في فصل الشتاء؟ إن يوماً واحداً من أيام الصحو في مصر لأفضل من جميع الأيام في سائر البلاد. وبفضل أيام الصحو في مصر صح لأحد ملوكنا القدماء أن يرى نفسه إله الأرض والسماوات

ومع ذلك جاز لبعض خلق الله أن ينكر على شعراء مصر نعمة الفنون والجنون

ومتى يُفتَن المرء أو يجنَّ وهو لم ير ضحوة الربيع في ظُلمة الشتاء؟

أيامنا كلها ربيع ولكن أين من يعرف؟

ذلك يوم 6 يناير، وهذا يوم 11 يناير، فاسألوا في أي أرض عرف الناس مثل هذين اليومين؟

لعل الليالي. . .!

لعل الليالي يكتسين بشاشةً ... فيرجعن من عهد الهوى المتقادمِ

لعل الليالي. . .!

لعل الليالي تُحسن مرة واحدة فتلفت بعض الناس إلى الكأس الذي صدعوه بعد أن شربوا ما كان يحوي من رحيق!

لعل الليالي تذكِّر بعض الناسين بالوَتَر الذي قطعوه بعد أن ثملت آذانهم بما كان يملك من رنين!

لعل الليالي ترجع أحبابنا الشاردين إلى عهدهم القديم حين كانوا يحسّون ظمأ الأرواح والقلوب!

إن عشتُ - وعُمر الصادقين في مصر من عمر الورد - فسأنتقم من زماني

وهل أموت قبل أن أساعد على تأسيس دولة للقلم في هذه البلاد؟

وكيف يموت من ينقل الناس بقلمه من ضلال إلى هدى، أو من هدى إلى ضلال؟

يستطيع قومٌ أن يتناسوا فضل القلم في خلق المودّات الصحيحة لمصرفي أقطار الشرق، ولكنهم لن يستطيعوا أن يصدّونا عن الجهاد في الطب لأمراض المجتمع المصري والشرقي. ولن يُفلح من يتوهمون القدرة على تزهيدنا في تذوق معاني الحب والمجد

نحن من صُنع الله، ويد الله لا تمسُّ شيئاً أو شخصاً إلا لتهبه الخلود

لعل الليالي. . .!

لعل الليالي تُلهم شعراء مصر فكرة (نشيد العدل) كما ألهمتهم فكرة (النشيد القومي) و (الأناشيد العسكرية). ولعل الليالي تذكِّر من يسمُرون على شواطئ بَرَدى والعاصي ودجلة والفرات وسائر الأنهار العربية والإسلامية أن لهم في مصر إخواناً يُقذون أبصارهم تحت أضواء المصابيح ليقيموا دولة للقلم العربي، القلم الذي عجزت عن قصفه مكايد الصروف وعثرات الجدود

لعلّ وليت!! وهل تغني لعلّ أو تنفع ليت؟؟

(ن، والقلم وما يسطُرون)

فإلى الله الذي أقسم بالقلم أرفع نجواي وشكواي، وهو حسبي ونعم الوكيل

فيا فاطر الأرض والسماوات، ويا باعث النور في ظلمات الحبر الأسود، ويا راحمي من دسائس الكائدين والخاتلين،

ويا مُلهمي وساوس الشك وحقائق اليقين، عليك توكلتُ وإليك أُنيب.

زكي مبارك