مجلة الرسالة/العدد 342/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 342/من وراء المنظار
سافر صديقي (عين) إلى الريف ليضحي بكبشه المنوفي الأملح هناك. ولصديقي الوفي (عين) ولع بالريف عجيب. فصباباه عرائس شعره، ومشاهده مسارح خياله، ومعاهده ملاعب هواه، ومزارعه صقال خاطره، ومطاعمه عافية بدنه.
لذلك تراه كلما افترض العودة إلى الريف في ساعة من النهار أو الليل
أسرع إلى القطار أو إلى السيارة دون أن يشاور أهله ويودع صحبه
ويرتب عمله!
دخلت صباح اليوم مكتبه الذي يكتب فيه (من وراء المنظار) فوجدت الكرسي خالياً وليس أمامه خبر، والمنظار متروكا وليس وراءه نظر! فقلت لنفسي: لم لا أجرب هذا المنظار الذي تنفذ منه (عين) الصديق إلى ما وراء الصدور والستور والحوادث؟ أما يجوز أن يكون سر فنِّه في هذا المنظار فأرى به ما يصح أن أصورِّه وأنشره؟
سألت عن ذلك نفسي ولم أنتظر ما تقول، فقد أخذت المنظار وتركت الدار ووضعته على أنفي وأنا امشي على طوار الشارع الذي عرفته وألفته، فإذا الناس غير الناس، والمدينة غير المدينة، والدنيا غير الدنيا!
كأنما هذا المنظار من صنع الله الذي أتقن كل شي! فإن فيه أسرار المناظير المعظِّمة والمقرِّبة والكاشفة؛ وفيه غير ذلك قوة التجريد فهو يرد كل شي إلى طبيعته، ويظهر كل شئ إلى طبيعته، ويظهر كل شخص على حقيقته
مشيت به في زحمة الطريق مشية الغريب الجاهل في البلد العجيب المجهول، تزخر نفسه بعواطف شتى من الغضب والعجب والدهش والإنكار والخوف، ثم لا يملك أن يسأل لأن لسانه معقود، ولا يستطيع أن يصبر لأن جَلده مفقود
رباه ما هذا الذي أرى؟ أهذا هو الصديق البر الذي خالصته الود وساهمته الوفاء وعاشرته نصف العمر ثم لا ألقاه إلا صافحني بالكف الناعمة ومازحني باللسان المعسول؟ ما باله قد تساقطت عنه لفائفه الوردية، وحالت عليه أصباغه العبقرية، فبدأ أمامي عارياً ضارياً كالأسد الجائع، تتقد عيناه بالشر، ويتحلب شدقاه بالشره، وتمتد يداه الباطشتان إلى قوتي الذي لا مساك للنفس إلا به؟ وفي شريعة الوحش لا تتصافح الكفان مادامت بينهما فريسة.
ولكن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يسلِّم بيد ويلطم بيد!
أهذا هو رجل الدين الذي عرفته عنوان الفضيلة ومثال الورع ولسان المعروف؟ مالي أراه اليوم قد تهتكت الأسرار عن تنكره البارع، فلحيته المستعارة تكاد أن تسقط، وزهادته الكاذبة تهم أن تفترس، وحلته الدينية تشف عن جسد دنيوي تلهبه الشهوة المسعورة، وتذيبه الرغبة الملحة، ويود لو تنقلب المواعظ والآيات في فمه رُقًى سحرية ينال بها عرض الدنيا وعزة الجاه؟
أهذا هو العظيم المتأبه الذي أشاهده من حين إلى حين يمشي وأنفه في السماء، ولغاديده تكاد تنشق من نفخة الكبرياء، ونظراته وكلماته توزع على من حوله احتقار القوى واستكبار المتسلط؟ إني لأراه الساعة من خلف هذا المظهر المونق والرواء الخلاب جثةً ضئيلةً الأجلاد خبيثة الريح يلتف جلدها الرقيق الشاحب على ضمير مثقل بالخزي ونفس مطمئنة إلى الهُون. وكأني إلى بقايا الإنسانية فيه تخزه في مواطن الحس منه بكلام معناه: يا عز ما بينك وبين الناس، ويا ذل ما بينك وبين نفسك!
ومن هذا؟ أهذا هو السياسي الذي ألف معجما في لغة الوطنية ونظم ديواناً في مدح الدستور؟ أهو من أرى أم ذلك تاجر يهودي السمات يتجر بالكلام كالمضاربين في (البرصة)، ويراهن على الزعماء كالمراهنين على الخيل في السباق ويضحي بالمنفعة اليسيرة لينال مقعداً في البرلمان، أو بالوظيفة الصغيرة ليبلغ كرسيَّاً في الوزارة؟
وما خطب هذا الشاب الذي يتجمل بالبذلة المهندمة ويتنبل بالحركة المنظمة، وليس في كيسة قرش ولا في بيته قوت؟ لماذا يجلس في هذه المركبة الفخمة مع هذا الرجل وهذه المرأة؟ أيريد أن يخدع الرجل فيبتز ماله بالصداقة، أم يريد أن يغوي المرأة فيسلب ثروتها بالزواج؟ لقد بأن في المنظار أنة (ابن ذوات) أفلس فتاجر في الاحتيال وسمسر للرذيلة. واللذان معه زوجان أرستقراطيان يقوم زواجهما على الرياء والخيانة؛ فالفتى يبيع الرجل أعراض الناس ويشتري منه عرض نفسه. وهو بهاتين الوسيلتين صديق الأسرة الأدنى وكلبها الممسوح المدلل!
وما حال هذه العصبة التي تندو كل ليلة إلى مجلس شراب أو سامر أنس، فيتنادمون على الكأس بطرائف الأدب وروائع النكت ومداعبات الصداقة؟ لقد كنت احسبهم جميعاً فأصبحوا في هذا المنظار شتى! فهم لا يتصافقون على الود إلا في مجالي اللهو؛ فإذا تفرقوا تناكروا وبسط كل منهم لسانه في الآخرين بالذم، ودرج بعضهم بين بعض بالوقيعة، وصحح كل واحد لنفسه ما تقسم من الفضل في الجماعة!
أعوذ بالحليم الستار، من شر هذا المنظار! لقد شوه في عيني جمال الوجود كما يشوه المكرسكوب بشرة الوجه الرّفافة. ولا مراء في أن جمال الدنيا خداع وسعادة العيش وهم وحياة الناس تمثيل؛ فإذا أزلت عن العيون غشاوة الإيهام والإيهام فرأت كل شئ على طبيعته وكل شخص على حقيقته، لا يبقى لجميل سحر، ولا لعجيب سر، ثم لا يكون بين أحد وأحد ألفة، ولا بين جماعة وجماعة نظام
فاكتب لي يا صديقي في بطاقة العيد: أتريد أن أرسل إليك منظارك، أم تسمح لي أن أجربه مرة على عين الدكتور مبارك؟
احمد حسن الزيات