مجلة الرسالة/العدد 343/اتقوا الله في أخيكم!

مجلة الرسالة/العدد 343/اتقوا الله في أخيكم!

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 01 - 1940


للدكتور زكي مبارك

ذهب الأستاذ الزيات لزيارة صديقه (عين) فوجده مضى لقضاء أيام العيد بين أهله في المنوفية، ثم نظر في غرفة الاستقبال فرأى (منظار) الصديق فوق إحدى المناضد، فوضعه على عينيه ليعرف إلى أي حد تبدو الخفايا لمن يحمل ذلك المنظار العجيب، ثم هام في شوارع القاهرة يتوسم وجوه الناس فرأى فيهم غرائب وعجائب يشيب من هولها الوليد، فتفزّع وقال وهو يحاور ذلك الصديق:

(أتريد أن أرد إليك منظارك، أم تسمح لي أن أجرّبه على عين الدكتور مبارك؟)

وما أحب أن أعود إلى تشريح مقال الأستاذ الزيات، لأنه مقال محزن، وأنا أخاف على نفسي وعلى القراء من النظر فيه من جديد

ولكن لا بأس من النظر في التجربة التي يقترحها أخونا الزيات، وهو يريد أن أرى العالم مرة من وراء ذلك المنظار الذي نقل فهمه للدنيا والناس من حال إلى أحوال

وأسارع فأقول: إن ما رأيته بالعين الطبيعية فيه الكفاية وفوق الكفاية، فمن الرفق برجل في مثل حالي أن تعفى عيناه من النظر إلى الناس بمنظار يفضح ما خفي واستتر من دقائق المساوئ والعيوب

الزيات هو الذي يحتاج إلى منظار يرى به خلائق الناس، لأنه كثير التلطف والترفق، ومن كان كذلك فهو قليل التعرض لآفات الناس، ومن هنا يقلّ علمه بما فيهم من دميم الغرائز وذميم الخصال

أما أنا، فقد دخلت على الناس في جحورهم وأوكارهم، وما زلت أهيجهم بقلمي حتى أسمعوني أعنف ما يملكون من هرير ونباح وعواء. وهل ابتلي أحد بأهل زمانه كما ابتليت؟ وهل عانى أحد من لؤم زمانه بعض ما عانيت؟

وهل بين قراء اللغة العربية في مصر والشرق من يجهل بليتي بزماني؟

لقد شكوت دهري وشكوت ثم شكوت، حتى عطف عليّ أعدائي، فما حاجتي إلى منظار أرى به المستور من خلائق الناس، وقد اكتوت يدي واكتوى قلبي بالسعير الذي يتمرد كلما سمع باسمي أو رآني؟ ويزيد في الغم والكرب عرفاني بأني لم أكن رجلاً لئيماً حتى أقاسي من الناس ما قاسيت. وهل رأى الناس في القديم والحديث صديقاً في مثل أدبي وكرمي وسخائي؟ ومن هو الرجل الذي يجرؤ على القول بأنه أعرف مني بالواجب، وأحفظ للعهد، وأحرص على مقابلة الجميل بالجميل؟

وهل كان الذين ينوشونني بألسنتهم وأقلامهم إلا خلقاً بنيت أقدارهم بقلمي ولساني؟

دلوني على صديق واحد أسأت إليه في محضر أو مغيب!

لو كنت رجلاً لئيما لنسفت أعدائي وخصومي في يوم أو يومين ثم استرحت من التفجع على مصاير الناس إلى مهاوي البغي والعقوق؛ ولكني رجل كريم يكره الغدر ويستعيذ بالله من العدوان على الناس، وذلك باب من الضعف الشريف، وأنا به مزهوّ مختال

وما الذي ينكر عليّ أهل زماني حتى يصدوني بغدرهم عن الثقة بأبناء آدم وحواء؟

أنا أعرف ما ينكرون عليّ، فقد ساءهم أن أسجل ما في زماني من صغائر ومعايب وموبقات. ساءهم أن أفضح سرائر الأدعياء، وأن أقهرهم على الاستهانة بالأدب المزيّف لتقبل عقولهم وأذواقهم على الأدب الصحيح

وهل أخطأت حتى ألقي من بغيهم ما لقيت؟

إن أعدائي يقولون في كل وقت إن مصر هادية الشرق، فكيف يلام من يوجه المصريين إلى أصول الصدق والعدل لتصح لهم السيطرة الأدبية على الشرق؟

وهل يعرفون لي ذنباً غير هذا الذنب الجميل؟

إن كان في هذا البلد من يؤمن بأنه ضحّى في سبيل الأدب بأعظم مما ضحيت فليتقدم ليحمل بعض ما أحمل من ثقال الأعباء

ذلك رأيي في نفسي، وهو حق، فليكذبني من يجرؤ على مصاولتي من أهل الأدب والبيان

وما قيمة مصر في الشرق أو في الغرب إذا صح لأهلها أن يقهروا رجلاً مثلي على اليأس من العدل؟

وبأي حق يدعوني الناس إلى التلطف والترفق وأنا لم أر منهم غير الظلم المبين؟

وفي أية شريعة يفرض على الرجل المظلوم في وطنه أن يعلن أنه من السعداء؟

ومن الذي يراجع الظالمين إذا سكت قلم الأديب؟ حدثوني كيف يسكت من يرى أصدقاءه يأكلون لحمه بلا تهيب ولا إشفاق؟

حدثوني كيف يحرم الغضب على رجل يرى تخلّف العقل في بلد يستطيل أهله على الشرق باسم العقل؟

نحن في مصر التي سبقت جميع الشعوب إلى المدنية، فمن حقنا عليها أن نرجو حرية التعبير عما نعاني من معاطب وحتوف

ومن يسمع شكوانا إذا تجاهلت مصر أننا بفضل جبروتها أشقياء؟!

إلى من نتوجه إذا تعامى الوطن الغالي عن مآسينا الدامية؟ آه! ثم آه!!

في وطن الأزهار والرياحين تموت أفئدة وقلوب

وفي الوطن الذي شرع مذاهب العدل بوحي النيل الذي لا يخلف الميعاد تموت أرواح حساسة واعية معدوا عليها بسهام الظلم البغيض

في وطن النيل الذي لا يخلف الميعاد تضيع جميع المواعيد

احذروا، ثم احذروا من أن أراكم بعين الناقد، يا أبناء هذه البلاد

لقد نظرت إليكم بعين المحب فلم أر غير مآثم ومنكرات، فكيف تكونون لو نظرت إليكم بعين الناقد المنصف؟ كيف تكونون وأنتم حرب على الصديق الأمين؟

ويريد الزيات أن أراكم من وراء المنظار الذي كشف له من الطبائع ما لم يكن يعرف، فهل يظن بي السفه والحمق حتى أتعرض للمستور من عيوبكم ومساويكم!

أنتم أجمل الخلق في أعين من يرونكم من بعد؛ ولكنكم (أجمل) الخلق في أعين من يرونكم من قرب، وأنا منكم قريب، فما أعظم شقائي!

إسمعوا، يابني آدم من أهل هذه البلاد

أنتم وثقتم بأدبي، وليس فيكم من يخاف أن أضيع عليه حظاً غنمه بأي سبب من الأسباب، وبفضل هذه الثقة تجترحون ما تجترحون، فخوضوا كيف شئتم في أوشال الأكاذيب والأراجيف، فلن أجازيكم بغير الصفح والغفران

هات المنظار، يا زيات، هات

هات المنظار لأرى به عيوبي، وأنسى التفكير فيما عانيت من أصدقائي، ويرحم الله عهداً كان لي فيه أصدقاء! حملت المنظار لأرى عيوبي، فماذا رأيت؟

رأيتني أخطأت أعظم الخطأ حين توهمت أن بني آدم هم جميعاً من طراز ذلك الصديق الغادر الذي صعب عليه أن أعيش وكان يحب أن أموت!

وهل هناك جرم أقبح من الجرم الذي اقترفت؟

مضت أعوام وأعوام وأنا أتلقى في كل يوم رسائل من قلوب تقسم بأنها قادرة على الطب لجروح قلبي، فهل استمعت نداء تلك القلوب؟

أنا أتلقى في كل يوم رسائل من فلسطين وسورية ولبنان والحجاز واليمن والعراق وتونس والجزائر ومراكش فهل فكرت في الإجابة عن تلك الرسائل الودية؟

وكيف وأنا أتجاهل ما يصل إليّ من أصوات القلوب في مصر والسودان؟

وكان ذلك لأني يئست من بني آدم بفضل الأصدقاء الذين سقيتهم الشهد فسقوني الصاب!

فما الذي يمنع من الاستجابة لدعاء تلك القلوب؟

ما الذي يمنع وأنا أعيش محروماً من نعيم الصداقة والحب؟

وهل يرفض من يعيش في مسبعة أن يخرج إلى الحواضر المأهولة بأرواح الناس؟

يمنع من ذلك أن أطياف الغادرين تصدمني حيثما توجهت، فالدنيا كلها هي وجوه الذئاب التي شقيت في تربيتها لتقوي على مضغ لحمي وعرق عظامي

الدنيا كلها هي فلان وفلان وفلان الذين خلدت أسماءهم في مقالاتي ومؤلفاتي ليصح لهم البغي عليّ باسم الأدب والدين

هات المنظار، يا زيات، هات

حملت المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي!

رباه، رباه!!

ما هذا الذي أرى؟

ذلك صديق أهجم عليه هجوماً صوريا لأرفع اسمه بين الأسماء فيراني من الأعداء

وذلك رفيق أدله على الخير فيراني من الآثمين

وذلك صاحب تشغلني الشواغل عن زيارته فيراني من الغادرين

وذلك أخ عزيز لا تهمه غير الظواهر ويغفل قلبه عن الخدمات التي أؤديها إليه في المغيب فيراني من الجاحدين

فلأية حكمة خلق الله بعض الناس بلا بصائر ولا قلوب؟

أيكون الله أراد أن يمتحننا بخلقه حتى نؤمن صادقين بأنه صاحب الفضل الأول والأخير في الطب لجراحنا الدامية؟

إن كان ذلك ما يريد فقد رضينا بما يريد

ولكن الله يعلم أننا أصغر من أن نأنس بنجواه. ولابد لنا من مخلوقات نساقيها كؤوس الود حين نشاء، ونرى فيها صور أحلامنا وأوهامنا حين نريد، فمتى يمنّ الله علينا بأطياف تلك المخلوقات؟

كم تمنيت أن أراك في خلقك، يا فاطر الأرض والسموات. ولو استطعت لشغلت نفسي بك عن خلقك. وكيف أستطيع وأنا لا أملك السموّ إليك، أيها الروح المسيطر على جميع الوجود؟

أنا أعترف بذنوبي

لي أصدقاء ضيعتهم، وكنت من الظالمين

منهم ذلك الروح الذي شقي في أن ينطق لساني بالاعتراف بأنه صديق، والذي يكتب إلى ما يكتب ثم لا يظفر بجواب

وكان في يدي أن أملك ذلك الروح ملكا أبدياً وأن أصوغ من نجواه رسائل وقصائد أسيطر بها على الخلود

توسل إلي ذلك الروح أن أحفظ عهد الوفاء وأن أعلن أني له صديق ليحدث أهله بأنه موصول الأواصر برجل له قلب

ومن أجل هذا الروح الذي أخلفت آماله كل الإخلاف تحكم المقادير بأن أعيش في دنياي بلا صديق

فيا أيها الروح الذي يحدث أهله بأني لا أنساه ولن أنساه، أيها الروح الذي يدعوني فلا أجيب، اعرف ثم اعرف أن الله انتقم لك مني، فأنا اليوم بلا صاحب ولا رفيق

هات المنظار، يا زيات، هات

هات المنظار لأرى عيوبي، وما أكثر عيوبي! هات المنظار لأرى الأسرة المكونة من أربعة أرواح، الأسرة التي ودعتني بالدمع المحرق يوم الفراق

فإن سمعتم، يا قرائي، إنني سأقضي بقية العمر في كرب وبلاء، فاعرفوا أن ذلك جزاء الغدر لمن يتناسى فضل تلك الأرواح

غرتني منزلتي الأدبية فتجاهلت أقدار تلك الأكباد الرقاق، فمتى أرجع إلى مساهرة النجوم في صحبة الأكباد الرقاق؟

فإن قتلني اليأس من عدل الأهل والأصدقاء فقد كنت الظالم الأثيم

والله أرحم من أن يعاقب قلباً يعترف بذنوبه وخطاياه

أنا باقٍ على العهد يا أحبائي، ويرحم الله من قال:

لقد صَدَدنا كما صددتم ... فهل ندمتم كما ندمنا

زكي مبارك