مجلة الرسالة/العدد 343/بين دين محمد ودمه
مجلة الرسالة/العدد 343/بين دين محمد ودمه
الأستاذ علي حيدر الركابي
وددت الكتابة في هذا الموضوع بالنظر إلى احتدام الجدل بين طائفتين من الناس في بلاد الشرق العربي: طائفة تنتصر للإسلام وهو دين محمد (ص)، وطائفة تنتصر للعروبة المستندة إلى فكرة الدم - دم محمد ﷺ
أما أنصار الإسلام فهم في الغالب من رجال الدين الذين خشوا أن تطغى الموجة القومية عليه، فانتصبوا في وجهها يحاربون العروبة ومن ينطق بها ظناً منهم أن ذلك يحمي الإسلام، وفاتهم أن الفكرة القومية مهما تطرفت لا تقضي على الإسلام الصحيح، وإنما يقضي عليه بقاؤه على هذه الحال المؤلمة المشوهة من الانحطاط والبعد - بشكله الحاضر - عن فكر الجيل الحديث وروحه. فهم إن أرادوا نصرة الإسلام وجب عليهم أن يقوموا بإصلاحه وذلك بإعادته إلى أصله الصافي
وأما أنصار العروبة فهم في الغالب من الشباب المندفع، الباحث عن فكرة سامية يعتنقها، الشباب الذي وقف حائراً لأنه وجد نفسه ضائعاً ولا دليل يهديه في موطنه، فتوجه بأنظاره نحو الغرب حيث خيل إليه أن الفكرة القومية سائدة فاعتنقها وتحمس لها بدون روية أو تعمق. وإذا ذكر الإسلام لأنصار العروبة نفروا منه لأنهم باتوا لا يرون في بنائه الفخم الرائع في الأصل سوى جدران بالية عبثت بها يد الزمان وشوهتها الحوادث والبدع فحكموا عليها بالهدم بدلاً من أن يسعوا إلى إزالة التشويه وتقويم البناء. وأغلب الظن أنهم اختاروا الهدم لسهولته، ولأنهم يجهلون هندسة القصر الأصلية وتاريخه الفريد فلا يريدون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب
لقد استمر الأخذ والرد بين الفريقين فكانت ساحاته المجالس الخاصة والعامة، ثم انتقل إلى الكتب وظهر على صفحات الجرائد والمجلات، ولعبت أصابع المبشرين وغيرها من الأصابع الأجنبية الخبيثة فقوت الخلاف ونجحت في تحويله إلى نزاع مستحكم سيقضي في النتيجة على كلتا الفكرتين القومية والدينية - أي العروبة والإسلام - وإن لم يتدارك الأمر عقلاء القوم، فهم إن سكتوا عن هذه الفوضى في الأفكار والتردد بين المبادئ جعلونا نضيع المشيتين ونخفق في بناء نهضتنا على أساس ق ولكي نجلو كل إبهام قد يعلق بالأذهان لا بد لنا من تحديد معنى الفكرتين القومية والدينية بوضوح حتى نتمكن من معرفة ما إذا كانت إحداهما تعارض الأخرى من حيث الأساس أم لا:
دم محمد (ص)
إن المبدأ القومي السائد كما يفهمه المشتغلون بالقضايا العامة في الأقطار العربية كلها - ذو غاية سامية ثابتة، ألا وهي السعي إلى تحرير العرب وتحقيق الوحدة العربية. قد يختلف العرب على الخطة الواجب اتباعها لنيل استقلالهم، فمنهم من يؤمن بالحرية الحمراء ويبذل في سبيلها دمه وماله، ومنهم من يميل إلى اللين ويعتقد الصلاح في التفاهم والمفاوضة على أسلوب (خذ وطالب). وقد يختلف العرب أيضاً على الشكل الذي ستتخذه الدولة العربية العتيدة والزمن الذي تتكون فيه: أتتألف من ولايات متحدة، أم تتكون من حكومات مستقلة متحالفة بمعاهدات تعقدها على غرار الحلف العربي المعقود بين اليمن والمملكة السعودية والعراق، أم تصبح دولة متحدة في كل شيء: في عاصمتها وحكامها وأنظمتها الخ. . .؟ ومتى يمكن تحقيق هذه الوحدة، أفي المستقبل العاجل، أم في المستقبل الآجل؟ قد لا يتفق العرب على كل هذا، إلا أنهم على اختلاف مشاربهم مجمعون على الهدف الأسمى الذي لا يرضون عنه بديلا، وهو الحرية والوحدة.
هذه غاية القوميين، وهي غاية صالحة بدون شك؛ فإن في الأمة العربية العناصر الأساسية الكافية لتشكيل دولة متحدة. هناك تاريخ مشترك قد ولد رابطة قوية لا تفصم عراها، وهناك لغة واحدة وتراث آدمي واحد، وبالإضافة إلى ذلك فإن المصلحتين الاقتصادية والسياسية تقضيان بأن يتحد العرب.
أما من الناحية الاقتصادية فإن البلاد العربية اليوم في حاجة ماسة إلى نوع من الاتحاد الذي يوجد بينها تعاوناً وثيقاً لاستثمار الثروات الطبيعية الموجودة في أراضيها، وتصريف المنتجات المحلية، والسيطرة على التجارة. إن أرضاً تضم كنوزاً من الذهب والفضة والنفط والفحم الحجري والقار والكبريت، وتنتج مقادير كبيرة من الحبوب والفواكه والقطن وغيرها، وتجري فيها الأنهار العظيمة، أو تهطل الأمطار الغزيرة فتروي التربة الغنية، وتتمتع بمناخ ممتاز يصلح لمختلف الأعمال في مختلف المواسم، وتقع في مركز متوسط بين دول العالم تستفيد منه تجارتها. . . إن بلاداً هذا شأنها يجب أن تنمو ثرواتها العامة والخاصة بشكل يضمن لها استقلالها الاقتصادي، حتى يصبح لها اعتبار في الأسواق العالمية يمكنها من تسخير مالها الوافر لتشييد صرح نهضتها الشامخ. إن أمة أسبغ الله عليها هذه النعم لا يجوز أن تعيش عيشة المتكل الكسول الذي يكتفي من زمانه بلقمة حقيرة يطعمه إياها من هو غريب عنه: يطعمه القليل بيده اليسرى ويتناول الكثير لنفسه بيده اليمنى، ولن يقضي على هذا الاتكال غير الاتحاد.
وأما من الناحية السياسية، فالأمة العربية ضعيفة في أجزائها قوية في مجموعها. ومن درس التاريخ استنتج أمرين: الأول أن حياة الأمم الصغيرة قصيرة، والثاني أن البلاد العربية - وهي حلقة الوصل بين الشرق والغرب، والجسر الذي تتبارى الدول للاستيلاء عليه - لم تنجح في رد المعتدي إلا عندما كانت متعاونة على دفعه، كما أنها لم تنل حظها من العظمة إلا بالاتحاد. ولذا فلن يبقى للدول العربية الحالية وجود مستقل، ولن تنمو وتتقوى إلا بالوحدة العربية، لأنها عاجزة عن الوقوف، منفردة في وجه الطامع.
هذه حقيقة الفكرة العربية القومية وهذه دوافعها، ومتى أوضح أنصارها مراميهم الآنفة الذكر قضوا على كل اعتراض، لأنها فكرة صحيحة تدعمها الحجج والبراهين القوية. ومع ذلك فإن بعض القوميين المتطرفين يسيئون إلى الفكرة الأصلية باندفاعهم الطائش ولجوئهم إلى نظرية لا لزوم لها، ألا وهي نظرية الدم. فالمناداة بالفكرة القومية المستندة إلى أساس العنصرية الضيقة لا يزيد المبدأ القومي قوة وإنما ينفر بعض العناصر التي تعيش في الأقطار العربية ولكنها لا تنتمي إلى أصل عربي. هذا فضلاً عن أن نظرية الدم فاسدة من أصلها وخصوصاً في الأقطار العربية وذلك بسبب الموجات البشرية التي اكتسحتها في شتى العصور مما أدى إلى اختلاط الدماء حتى بات إرجاع الأفراد إلى أصلهم الحقيقي أمراً يكاد يكون - في الغالب - في حكم المستحيل. إن الأقليات العنصرية الموجودة في البلاد العربية قادرة على تعطيل سيرنا إذا عوملت معاملة الغريب المحروم الاشتراك معنا في تحقيق أهدافنا بدرجة ما هي راغبة في التعاون معنا إذا أدركت القصد الحقيقي من الفكرة العربية، واطلعت على الفوائد الجمة التي ستجنيها هي من جراء اتحادها بأمة متحدة قوية. فلنكن مخلصين ولنبدد مخاوفها التي يغذيها المستعمر. علينا أن نؤكد لها أننا لا نريد القضاء عليها. وعلينا أن نفهمها أنها جزء مهم من أجزاء الأمة العربية التي لا تتألف من جماعة من الناس ينتمون إلى عدنان أو قحطان، بل هي مجموعة من الأفراد الذين اشتركوا في تاريخ واحد فبعثت ذكرياته القريبة والبعيدة فيهم شعوراً مشتركاً ألف بينهم فدفعهم إلى السير نحو هدف واحد يرمي إلى تحقيق حريتهم ووحدتهم. ويضاف إلى هذه الرابطة العاطفية التي هي الأساس روابط أخرى توثق العلاقة بين هؤلاء الأفراد، كاشتراكهم في اللغة وتجاورهم في الديار وأن دين الأكثرية منهم واحد
إننا إن عملنا على نشر المبدأ القومي على حقيقته هذه حفظناه من كل شائبة وضمنا نجاحه.
دين محمد (ص)
إن للفكرة الإسلامية مفهومين مستقلين ومتناقضين ويجب بيانهما بادئ ذي بدء:
فهي في نظر البعض حركة ترمي إلى (ا) سيادة المسلمين على غيرهم من أتباع الأديان الأخرى و (ب) تحقيق الوحدة الإسلامية الكبرى و (ج) تنصيب خليفة للمسلمين. هذه هي الأهداف التي يتصور أصحاب المبدأ القومي أن كل مؤيد للمبدأ الديني يقصدها. وهي الأهداف التي يهاجمونها بشدة ويتخذونها سبباً مبرراً لانصرافهم عن كل ما له صلة بالدين. والواقع أن الكثرة من أنصار الإسلام - أو، على الأقل، الشباب منهم - لا تحمل هذه المبادئ، وإنما يعتنقها ويحلم بتحقيقها جماعة من (الجموديين) الذين قبعوا في بيوتهم بعد أن أقاموا بينهم وبين العالم الخارجي جداراً كثيفاً يقيهم حر (التطور) وبرده، ويحفظ آذانهم من أن تصل إليها صيحات المسلمين الضالين في كل قطر. إنهم لا يسمعونها ولذا لا يقومون بإرشادهم إلى تعاليم دينهم البسيطة والتي هم في أشد الحاجة إليها، بل يقفون في مكانهم وهم يرددون بعناد عجيب: (المسلم أفضل من غيره، وسينصره الله عما قريب!. . . الوحدة الإسلامية أولاً وأخيراً!. . . لابد للمسلمين من خليفة!. . .) لقد فاتهم أن المسلم الذي ينصره الله قد كاد ينمحي أثره حتى لم يبق اليوم سوى أشباه المسلمين، كما فاتهم أن الوحدة الإسلامية لن تتحقق إلا بعد أن يعود المسلمون إلى حظيرة الدين وتبعث فيهم الروح الإسلامية من جديد، وأما تنصيب خليفة للمسلمين فهو أضعف مطالبهم، ويكفي أن يعودوا إلى كتبهم ويطالعوا بحث (الخلافة) فيها ليدركوا أن شرطاً واحداً من شروطها غير متوفر الآن، لا في الخليفة العتيد ولا في الرعية. ولذا فإن أهدافهم، مهما سمت، تظل بعيدة عن حدود الإمكان ولا بد من أن يسبق تطبيقها أمور كثيرة تمهد لها السبيل
إن فهم الفكرة الإسلامية بهذا المعنى مما يضعفها ويجعلها عرضة للانتقاد، كما أنه يجعل الأمم والملل الأخرى تنظر إلى كل ما هو إسلامي بعين المرتاب، فضلاً عن أنه يصرف كل مخلص محب للإسلام مؤمن برسالة نبيه (ص) عن الاشتغال بالقضايا الإسلامية.
فما هي إذاً الفكرة الإسلامية الصحيحة الخالية من كل هذه المحاذير؟
(للبحث صلة)
علي حيدر الركابي
بغداد (الرستمية) دار المعلمين الريفية