مجلة الرسالة/العدد 345/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 345/رسالة النقد
آفاق العلم الحديث
للأستاذ فؤاد صروف محرر (المقتطف)
بقلم الدكتور إسماعيل أحمد أدهم
البحوث العلمية لا وجود لها في العالم العربي اليوم، والدراسات العلمية نادرة في لغة العرب، وهي أن جاءت فيها، فعادة تجئ من القسط الشائع من الآراء الذائعة اليوم في العالم الأوربي عن العلم الحديث، وهي بذلك دراسات - غالباً - تدور حول كليات لا تنزل منها للتفاصيل والجزئيات التي تتقوم بها. ومن هنا كانت عامية التفكير العلمي عند الكثيرين من كتاب العرب وخلطهم في المسائل العلمية وما يتصل بها بوشائج الصلة من الآراء والأفكار. ولهذا كانت المحاولات التي تبذلها مجلة (المقتطف) شيخة المجلات العربية منذ نشأتها لا تقدر قيمتها من حيث تعمل على القضاء على عنصر العامية في الفكر العلمي العربي - إن صح مثل هذا التعبير هنا - والنتائج التي تتركها هذه المحاولات في الفكر العربي كبيرة، آثارها غير أن قد لا تبدو اليوم للجميع واضحة، إلا أنه لا شك في كونها مع الزمن ستنكشف وتتوضح خطوطها وتستبين معالمها. والواقع أن مجلة (المقتطف) منذ عهد مؤسسها المرحوم الدكتور يعقوب صروف، أعطت الدراسات العلمية اهتماماً كبيراً. وهذا الاهتمام يبدو اليوم على صفحات (المقتطف) في الجهود الطيبة التي يبذلها خلفه الأستاذ فؤاد صروف في تقريب صورة العلم كما ترسمها المباحث الحديثة في الهيئة والفيزياء وعلم الحياة والنفس، وفي تقريب الأفكار العلمية إلى الأذهان. وهذه الجهود ظاهرة في الفصول المبسطة التي تنشرها (المقتطف) في كل عدد منها، والتي يجيء معظمها من قلم محررها، والتي يجمعها بعد نشرها في مجاميع، منها كتاب اليوم (آفاق العلم الحديث) الذي خرج بديلاً عن عددي سبتمبر وأكتوبر المنصرمين.
والكتاب مقسم إلى مقدمة وبابين، أما المقدمة ففي أثر العلم الحديث في خلق الغدد، وأما الباب الأول ففي عالم المادة الجامدة وهو ينطوي على سبعة فصول تتدرج من أقصى آفاق الكون في عالم الأفلاك إلى أدق ما في الوجود، في عالم الذرة والكهرباء والباب الثاني وقف على عالم الحياة، وهو ينطوي على ستة فصول تتدرج من أسرار الحياة في الخلية المفردة إلى أسرار النمو والخلق والتعبد والتقى في الأحياء المتعددة الخلايا والمركبة التكوين والتي يجيء منها الإنسان، فتم البحث في عقل ونفسية الإنسان. وهذه الفصول كلها يجمعها وحدة واحدة، الأصل فيها الاستناد إلى التحقيق العلمي القائم على المشاهدة والاختبار، وليس فيها من هنا أحلام وتصورات خيالية أو أفكار أولية مفروضة فرضاً. فكل ما تقف عليه في فصول هذا الكتاب أن يسنده الاختبار البشري القائم على التدقيق والفحص، ومن هنا فهي أسس صالحة لكتاب العربية، لتتطور معها فكرتهم الغيبية عن الوجود والحياة المتوارثة عن الماضي؛ إلى فكرة وضعية إثباتية قائمة على علم اليوم تسندها التجربة والاختبار البشري.
أما مقدمة الكتاب فهي من خير الفصول التي دبجت في اللغة العربية في العصر الحديث عن العلم الحديث وآثاره المشهورة، وفيها ملاحظات قيمة ومطالعات خطيرة - ولكن لمن يتفهمها على حقها - وقد جاءت في سبع فقرات؛ ففي الفقرة الأولى نرى الأستاذ صروف يكشف عن الأثر المشهود للعلم الحديث في مختلف نواحي الحياة اليوم. وهو في الفقرة الثانية يبين مقدار تأثر حياتنا العقلية والدولية ومثلنا الخلقية بالعلم الحديث ونتائجه التطبيقية. وهو في هذه الفقرة يكشف عن منابع العلم الحديث من حيث هي قوة ديناميكية مؤثرة في حياة البشر اليوم، وهو يرى هذه المناهج في ثلاثة مصادر: الأول الانتفاع بنتائج العلم التطبيقية أو بتعبير أدق إمكان الانتفاع. والثاني منطق العلم الذي قلب نظرة الإنسان إلى الكون والحياة ونفسه. والثالث في التحول الدائم في مذاهب العلم، والذي نتج عنه اعتبار الحقيقة شيئاً متغيراً يتطور وينمو مع تطور العلم الدائم الذي لا ينقطع. على أن لنا على هذه الأسس الثلاثة التي يقدرها الكاتب مأخذاً لا نظنه ينكره علينا، وقد أشرت إليه في المحاضرة التي ألقيتها عن (أثر الرياضيات في الحياة البشرية) مساء 18 ديسمبر 1939 بجمعية الشبان المسيحية بالإسكندرية؛ وذلك أنه اعتبر أساس الأسلوب العلمي التجربة والمشاهدة، وهذا صحيح من الناحية الشكلية فقط. أما في الواقع فالعنصر الرياضي الذي يجمع المشاهدات والتجارب والاختبارات في نظم موحدة على أساس العلاقة، هو الأساس في الأسلوب العلمي. أما التجربة والاختبار، فهي بمثابة الآلات أو المنابع التي تقدم المواد الأولية إلى الآلة الرياضية لتشتغل عليها؛ وفهم العلاقة بين الآلة الرياضية والتجربة والاختبار مهم جداً في فهم حقيقة الأسلوب العلمي، وأقل انحراف في ذلك، نتيجته أن يتردى الإنسان في أوهام مثل التي وقع فيها الدارثورادنجتون في كتابيه (طبيعة العالم الفوزيقي) و (فلسفة العلم الفوزيقي). وأظنني قد أشرت إلى هذه المسألة في نقد لي لكتاب (هندسة الكون حسب ناموس النسبية)، نشرناه في (المقتطف) عام 1938، وفيه تعرضت بالبحث لآراء إينشتين وإدنجتون وجينز، وبينت بعض أوهامهم في هذا الموضوع.
فإذا صرفنا النظر عن هذه المسألة، فإن المقدمة تنتظم حلقاتها على أساس دقيق. فالكاتب يتناول في الفقرة الثالثة تطور الفكرة الإنسانية تحت تأثير العلم تجاه كل من الطبيعة والخالق. وهنا تجد الأستاذ صروف يبين كيف أن فكرة القدسية التي كان الإنسان يخلعها على نفسه باعتبار سيد المخلوقات قد انهارت. وفكرة اعتبار الأرض التي يعيش عليها مركز الكون وأنه محط الرعاية الربانية قد تلاشت.
على أننا نلمس هنا بعض الحذر من الكاتب فهو لم ينته بفكرته إلى النتائج الأخيرة التي لابد منها؛ ولعقيدته وبيئة كتابته التي نتسلط عليها الأفكار القديمة، بعض الأثر في التزامه هذه التحوط. وفي الفقرة الرابعة بين الكاتب نشوء شريعة الآداب النفسية كنتيجة للحياة التي عاشها الإنسان في الماضي. وتدرج من ذلك في الفقرة الخامسة إلى بيان أوجه الانقلاب الذي ابتدأ يطرأ على شريعة آداب النفس نتيجة لظهور المدنية الصناعية في الغرب، وكيف أنها عملت على تحطيم القدسية والمثالية المخلوعة على المذاهب الأدبية التقليدية. وهكذا أصبح اليوم في العالم المتمدن الأمومة ضرباً من الاستعباد، والزواج ضرباً من الرق، وخصصت فكرة إخلاف النسل للقواعد العالية التي أخذت تعمل على تقييدها. وكان نتيجة كل هذا أن وقف الإنسان اليوم بين عالمين، أحدهما ذهب إلى سبيله في جوف الماضي، والآخر لم يولد بعد، أو هو لا يزال في المهد صبيا. . . وهكذا وقف العالم حائراً؛ والكاتب يصور هذه الحيرة في الفقرة السابعة من بحثه تصويراً دقيقاً، ويبين في الفقرة الثامنة والأخيرة. من البحث أن نظريات العلم التي قلبت نظرية الإنسان في الكون ونفسه التي أنشأت هوة سحيقة بين الحياة التقليدية التي ورثها عن الماضي ومستلزمات الحياة التي تستلزمها اعتبارات اليوم تنطوي رغم كل العوامل الهدامة التي تبدو فيها، على بذور لحل المشكلة التي تركت الإنسان عليها الآن، وهذه البذور تكمن في التصوف العلمي وفي النزعة الإنسانية التي أخذت تذيع في الناس بانتشار الفكر العلمي. وفي هذه المقدمة التي عرضنا لك موجزاً لخطوطها الأساسية، تفكير سليم، ومنطق حصيف، لاشك أنه وليد ذهنية صافية أرهفها للتزود من المسائل العلمية الدقيقة وصقلها التمرن على البحوث العلمية، ولهذا جاءت طابعاً وحدها بين العقول العلمية التي تشتغل في الحقل العلمي في العالم الناطق بالعربية.
على أن لنا ملاحظة على استعمال عبارة (المذهب البشري) ناظرة إلى كلمة الإفرنجية. ذلك أننا نعرف أن لفظة تفيد اصطلاحياً الآداب اليونانية واللاتينية لتفشي النزعة الإنسانية فيها (بمعنى الرجوع إلى الإنسان لا إلى الله أو الغيب). وأظن أن صديقنا الأستاذ إسماعيل مظهر نبه إلى ذلك في النقد الذي كتبه لكتاب (البراجتزم) للأستاذ يعقوب قام في المقتطف لأعوام خلت. وفيما عدا ذلك فاللغة مثال اللغة العلمية الواضحة القائمة على التدقيق.
وبالرغم من المآخذ التي أخذناها، وهي لا تنقص من قيمة الجهد الكبير المبذول في هذا الكتاب، فانه يمكن بكل اطمئنان القول بأن هذا الكتاب من خيرة الكتب التي ظفرت بها المكتبة العلمية العربية، وهو كتاب لا يستغني عنه العالم ولا المنشئ ولا الأديب. فالكل يجد فيها ما يفيده، وهو بالتالي موضع الثناء والتقدير. وأظن أن أدباء العربية - خصوصاً الذين لا يعرفون لغة أجنبية، أو ليست لهم ثقافة علمية - بتزودهم من الحقائق التي بهذا الكتاب، سيعلمون على التغلب على عنصر الضعف العلمي الملحوظ على أدبهم، والذي سبقهم إلى التغلب عليه أدباء الغرب.
(الإسكندرية)
إسماعيل أدهم
1
1