مجلة الرسالة/العدد 348/أم عربية تضحي

مجلة الرسالة/العدد 348/أم عربية تضحّي

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 03 - 1940



للأستاذ خليل هنداوي

وتأبى المقادير إلا أن تخلق (ذا قار) ثانية في ضاحية السواد، ولكن وقعة ذي قار الثانية تمتاز عن الأولى بأن العرب حشدوا ما عندهم من المقاتلة يدفعون بصدورهم صدور مقاتلة الفرس الذين أقبلوا من أقاصي فارس وأدانيها يذودون العرب عنهم!

أحست القادسية وطء هذه الجموع الزاحفة بخيلائها وعزائمها وأدركت أنه يوم سينضح ثراها فيه بالنجيع، ويسطع على سمائها كوكب من كواكب عهد جديد!

أشرق الفجر تغمر أنواره الباهتة جموعا تيقظت قبل أن يتيقظ وعلت أصوات تخللها نداء وصهيل ورغاء! والقوم خلال ذلك منكبون على جيادهم يمسحون أعرافها، أو متلمسون مقابض سيوفهم يهزونها، أو مادّون برماحهم إليها ما يسرون! ففريق يتبعه فريق، وكردوس يشد خلفه كردوس، يمشون والأهازيج ملء الفضاء، والنقع يوشك أن يحجب السماء. فهذه فئة مقاتلة تمشي إلى النصر بأهازيجها وتلك فئة منصتة يدوي فيها صوت يرجع صوتا رن منذ عهد لم يطل عليه الأمد فوق هذه الأرض التي أرادت الفارسية أن تقهرها وما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

صوت هانئ بن مسعود يدوي كالرعد القاصف: (يا معشر العرب! هالك معذور خير من ناج فرور، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، والطعن في ثغر النحور أكرم منه في الأعجاز والظهور، وإن الصبر من أسباب الظفر، قاتلوا فما للمنايا من بد، فتح لو كان له رجال! يا معشر العرب شدوا واستعدوا، وإلا تشدوا تردوا)

تسمع هذه الأقوام أصوات خطبائها فتحن أنفسها لذلك اليوم الذي هو أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وإن هذا ليوم آخر أقبلت فيه الفارسية الوثنية تنازل الجزيرة المسلمة التي تغلي بدم الحياة!

وغير بعيد عن الساحة المستوية التي أعدت للقاء الأبطال - بطحاء انتصبت فيها خيام تقيم فيها الظعائن، وكانت أهازيجهن تجاوب أهازيج الرجال، ومن فوقها الصدى يكاد يلائم بينها، يحملها إلى القيعان البعيدة التي حنت إلى الحرية المكتوبة على أسنة العرب

في خيمة منفردة حمراء الأديم عجوز تخدد وجهها، ولعل الكبر قد نال منها شيئا، لكن أحداث الدهر لم تبق منها إلا على شبح نسيه الموت أو تناساه، تمشي بهراوتها الغليظة مشية وئيدة مستقيمة، وعلى بدنها صدار أسود ممزق الإهاب، يدل على إنه علامة فاجعة قديمة العهد؛ لكنها حية كأنها بنت ساعتها. وقفت في ناحية لا يصل إليها تيار الزاحفين؛ وحولها أربعة فتية ما أنضر الشباب الذي تفيض به أعينهم، وما أسمى العزيمة التي تتلألأ على وجوههم! تلمست العجوز هؤلاء الفتية بيديها، وتلمست محاسنهم وأكبت على رؤوسهم ووجوههم تشم ريحهم، وما أن انتهت من ذلك حتى بادرتهم بوصيتها:

(أي بَنِيّ! إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، لا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم. واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والقيامة

أي بَنِيَّ! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة)

كانت تسيل هذه الكلمات العاصفة من فمها دون ما تلجلج ولا اضطراب، لم ينل منها موقف التوديع شيئا، وكان أولادها يسمعون خطابها، وكأن نفوسهم ارتابت في شك أمهم منهم، وهم الذين أقدموا إلى الجهاد مختارين بعد أن باعوا أرواحهم واستقلوا ذلك في جنب الله

قبلوا يد أمهم، وودعوها توديع مفارق لن يوؤب، وزحفوا على جيادهم وهي لا تزال تتجه بمسامعها نحو وقع الحوافر حتى تلاشى وقعه، وقرت كل حركة حولها. فعادت إلى خيمتها، وكأنما ضاقت بها نفسها فهي لا تستطيع القعود إلا قليلا فنهضت تتلمس الأرض بعصاها، ولكن أين تريد أن تدب؟ في نفسها خواطر كثيرة، منها ما يتعلق بالمعركة ونهايتها، ومنها ما يخص أبناءها وحدهم. أتلقاهم كدأبها في المساء؟ أم تلقى بعضهم، والآخر أكلته شفرات السيوف! خواطر كثيرة تحاول أن تطغى على طمأنينتها وإيمانها، ولكنها لا تريد الآن أن تعرف شيئا عن رجوعهم وعن مصارعهم، وإنما تريد أن تعرف كيف استقبلوا الموت، بنحورهم أم بظهورهم! ولكن فيم تشك في أشبالها، وما علمتهم يوماً إلا أهل مروءة ونجدة!

قضت يومها تغالب هذه الخواطر، وما أن دنا الأصيل حتى هتفت أصوات البشرى في القوم بهزيمة الفرس. فخرجت النساء يستقبلن البعولة والاخوة والأبناء. ومن مثل الخنساء تنشط إلى تنسم الأخبار وهي متوكئة حانية على عصاها ترتفع الأصوات من فوقها ومن تحتها، وعن يمينها وشمالها، والظافرون عائدون بالأردية الحمراء، والسيوف المضرجة بالدماء، قد أذهلهم النصر عن النصب، يحيي بعضهم بعضاً وما تحيتهم إلا مصافحة بالسيف أو السنان!

تعلو الضجة آناً وآناً تخفت، وإنها لتدل على أن أكثر المقاتلة أووا إلى بيوتهم إلا مصاباً يتحامل على نفسه، أو فارساً يتضالع به فرسه بعد أن أبلى، ولكن ما لأولاد الخنساء لم يطل أحد منهم على هذه العجوز المرتقبة التي أخذت ترتجف من الريح الباردة! ومن ذا ينبئها بمصيرهم بعد أن أبطئوا عليها

ولكنها اعتقدت أن واحدا منهم أدركه مصرعه، وأن اخوته قعدوا يبحثون عنه بين القتلى لأنهم يؤثرون أن يدفنوه بأيديهم!

هاهي ذي تنتظر! يمر بها أحد رجال القادسية ممن شهدوا مصرع أولاد الخنساء، يراها شاخصة في الناحية التي أطل منها وقد رفعت رأسها تهم بتكليمه لولا أنها خفضت رأسها لأنها تريد أن تكون كلمتها الأولى لأحد أولادها

شاهدها الرجل وغلبت على عينيه دمعتان محرقتان أسقطهما الحزن على هذه العجوز التي نالت منها القادسية أعظم تضحية. حتى لتحسب فيها رمزاً للأمومة التي ضحت بأبنائها في هذه الوقعة. . . آثر أن يمشي وهو يخطو الخطوة ويلتفت إلى خلفه، كأن شيئا - لا يستطيع أن يدركه - يبعث الروع في نفسه. حاول أن يخبرها أكثر من مرة، وتردد أكثر من مرة، وأقل ما يحمله على التردد أنه لا يريد أن يكون ناعيا لأربعة أولاد في يوم واحد، ولكن ماله يكتم عنها ما كان، وماله لا يشفق على هذه العجوز التي تنتظر، والتي لا تزال تنتظر حتى مطلع الفجر! فلينبئها بمصيرهم، وليعزها بكلمة قد تقع موقعا حسنا أو لا تقع، وليصنع الله بها بعد ذلك ما يشاء! وإن أعظم ما ينتظره لها الموت، وما يدريه أنها هي التي تفتش عن الموت بعد مصرع بنيها. فعاود إليها مرة ثانية؛ وسمعت الخنساء وقع الخطا من ورائها فهمت بالاستغراب، ولكنها شعرت أن هذه الخطا تسر أمراً لها وحدها، فناداها:

- يا خالتاه! لا أخالك تألمين إذا أنبأتك أن أولادك الأربعة يسرحون هذا المساء مع شباب.

الجنة!

فاه بهذه الجملة، والحزن يكاد يقطع عليه أنفاسه؛ ولم يبلغ كلمة (الجنة) إلا بعد أن قاسى من ألأم النفس مثل ما قاساه من نصب يومه؛ فتقدمت منه وكأن الخبر لم يعصف بنفسها، ولم يظهر أثره على وجهها. . .

- ويك ماذا تعني؟ أقُتلوا جميعا؟

- رأيتهم الواحد يُصرع بعد الآخر، يذودون عن موقف تهافت العدو على أخذه تهافت الجراد على النار

- أذهبوا متاعا رخيصا؟

- إنهم - وحدهم - كانوا جيشا، كأنما الموت مورد عزموا أن يردوه جميعا؛ كلما فترت عزيمة واحد منهم هتف به الآخر (وصية العجوز يا أخاه)!

وكأن هذه الكلمة أيقظت فيها الروح التي كلمت بها أولادها فقالت:

- ذلك ما يبعثني على أن أقول: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وإني لأرجو الله أن يجمعني وإياهم في مستقر رحمته؛ ولكن أنبئني ما صنع الله بكم؟

- جئنا بالنصر معقوداً على راياتنا

- هذه التعزية المثلى لي فيما تبقى من أيامي المعدودة، لقد مات أخي صخر من قبل، فلم يسعني من دنياي بعده إلا هذا الصدار الأسود، وهيهات أن أجد مكانا للتعزية فيه، وها يموت أبنائي الأربعة فيعزيني عن موتهم هذا الظفر

والتفتت إلى ناحية بيتها، وأخذت تدب وئيداً، والرجل يتبعها صامتا حتى توارت عنه، فوا الله ما إن سمع لها أنة، ولا رأى لها عبرة، وذهب وهو لا يكاد يوقن بأن هذه التي كانت مثل الأخت المفجوعة الحزينة التي لا يسري عنها شيء، والتي قضت أيامها تبكي حتى ابيضت عيناها من البكاء، هذه الأخت الولهى تصبح المثل الأعلى للأم التي تعتقد أن أولادها للوطن والواجب قبل أن يكونوا لها، وإذا أراد الوطن استئثاراً بهم قدمتهم، وإذا استوهب الوطن منهم أنفسهم لم تضن بها ولم يضنوا، وكأنها بعد ذلك كله لم تبذل شيئا ولم تفقد شيئا

في الإيمان سر تنحني الإرادة عنده، وكيف يريد علماء النفس أن يعللوا مزاجين مختلفين في نفس واحدة، هذه المرأة التي فجعتها إحدى الوقائع بأخيها الجريء الجميل في الجاهلية؛ والتي لم تترك منها هذه الفاجعة إلا لساناً يندب وصدراً يزف! جاء الإسلام، فلم يقدر أن يصرفها عن حزنها، ولكنها أصيبت في الإسلام بفاجعة قد تهون الأولى عندها وهي فاجعة أبنائها، فلم تحرك من نفسها شيئا، لأنها وهبت مصيبتها لله!. . .

فكرت في المصيبة الأولى، فلم تجد ما ينفس عنها، فاحتفظت بأثرها في منطقة منعزلة من مناطق نفسها، تكشف فيها عن ذكرياتها، وتخوض في أرجائها وحدها. . . أما المصيبة الثانية، فقد تولاها الإيمان الذي فاض على نفس الخنساء كلها، حتى أصبح سواء عندها أفقدت واحداً أو أربعة، أو جميع من في الكون في سبيل هذا الإيمان. . .

رباه!. . . ألست بقادر على أن تحيي الموتى؟!

خليل هنداوي