مجلة الرسالة/العدد 348/كمال الدين بن يونس
مجلة الرسالة/العدد 348/كمال الدين بن يونس
للأستاذ قدري حافظ طوقان
لم يكن عند كمال الدين خبر من أحوال الدنيا، يلبس بلا تكلف، لا يعنى بزي أو هندام منصرفا بكليته إلى العلم بين درسه وتدريسه. تفقه بالموصل على والده وكان ذلك في النصف الثاني من القرن الثاني عشر للميلاد. وفي سنة 571هـ ذهب إلى بغداد وأقام بالمدرسة النظامية يدرس على السلماني والقزويني والشيرازي فقرأ الخلاف والأصول، وبحث في الأدب على الأنباري، ثم عاد إلى الموصل حيث عكف على الاشتغال بالعلوم الدينية والعقلية والأخيرة كانت غالبة عليه؟ (. . . فكانت تعتريه غفلة في بعض الأحيان لاستيلاء الفكرة عليه بسبب هذه العلوم. . .)، وأخذ من أحد المساجد (في الموصل) مكاناً يدرس فيه عُرف فيما بعد بالمدرسة الكمالية. وبقي كذلك إلى أن توفاه الله في منتصف القرن الثالث عشر للميلاد. . .
ذاع صيته وانتشر فضله (. . . فانثال عليه الفقهاء وتبحر في جميع الفنون وجمع من العلوم ما لم يجمعه أحد. . .)
رجع إليه الملوك والأمراء والعلماء في المسائل العلمية، واستعان به ملوك الإفرنج في ما أشكل عليهم من مسائل تتعلق بالنجوم. فقد ورد إلى الملك الرحيم صاحب الموصل رسول من الإمبراطور فردريك الثاني وبيده مسائل في علم النجوم، وقد قصد أن يرد كمال الدين أجوبتها. فأرسل صاحب الموصل يعرفه بذلك ويقول له (. . . أن يتجمل في لبسه وزيّه ويجعل له مجلسا بأبهة لأجل الرسول، وذلك لما يعرفه عن ابن يونس أنه كان يلبس ثياباً رثة بلا تكلف وما عنده خبر من أحوال الدنيا. . .) فاستعد كمال الدين، وعندما اقترب الرسول من داره بعث من الفقهاء من يستقبله، فلما حضر عند الشيخ (كمال الدين) - يقول أحد الحاضرين وهو من بغداد: نظرنا فوجدنا الموضع فيه بسط من أحسن ما يكون من البسط الرومية الفاخرة (. . . وجماعة مماليك وقوف بين يديه وخدام وشارة حسنة، ودخل الرسول وتلقاه الشيخ، وكتب له الأجوبة عن تلك المسائل بأسرها، ولما راح الرسول غاب عنا (يقول البغدادي) جميع ما كنا نراه؛ فقلت للشيخ: يا مولانا، ما أعجب ما رأينا من ساعة من تلك الأبهة والحشمة، فتبسم، وقال يا بغدادي هو علم. . .) كان كمال الدين متواضعا ذا روح علمي صحيح سما العلم بنفسه وصقل روحه، فإذا الإخلاص للحق والحقيقة يسيطر على جميع أعماله فلم يترك مناسبة دون تبيان الحقيقة وإعلاء شأن الحق وكان يسير على القول السائر: (العلم يزكو بالإنفاق) فكان يجيب على ما يأتيه من مسائل من بغداد وغيرها من حواضر الإمارات ويوضح المشكلات التي ترد عليه من سائر الأقطار في مختلف فروع المعرفة، وجاء أن أحد علماء دمشق أشكل عليه مواضع في مسائل الحساب والجبر والمساحة وأقليدس، فكتب إلى كمال الدين يستفسره عنها فأجابه عليها وقد كشف عن خفيها وأوضح غامضها، وذكر ما يعجز الإنسان عن وصفه. ثم كتب في آخر الجواب: (فليمهد العذر في التقصير في الأجوبة فإن القريحة جامدة والفطنة خامدة قد استولى عليها كثرة النسيان وشغلتها حوادث الزمان. . .)
لقد اعترف له الأقدمون من العلماء والباحثين بالفضل والنبوغ فقال ابن خلكان: (. . . وكان يدري في الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي وكذلك الطب، ويعرف فنون الرياضة - من أقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة وطريق الخطأين والموسيقى والمساحة - معرفة لا يشاركه فيها غيره إلا في ظواهر هذه العلوم دون دقائقها والوقوف على حقائقها، واستخرج في علم الأوفاق طرقاً لم يهتد إليها أحد. . .) وفوق ذلك كان عالماً بالعربية والتصريف، قرأ سيبويه والإيضاح والتكملة لأبي علي الفارسي والمفصل للزمخشري (وكان له في التفسير والحديث وما يتعلق به وأسماء الرجال يد جيدة. . .) ولم يقف علمه عند هذا الحد بل عنى بتاريخ العرب وأيامهم فقد كان يحفظ الشيء الكثير من أشعارهم ووقائعهم، ودرس التوراة والإنجيل، ووقف على كثير من دقائقهما، وقد قرأهما عليه بعض أهل الذمة واعترفوا بأنهم لا يجدون من يوضحهما لهم مثله: (. . . وبالجملة، فإن مجموع ما كان يعلمه من الفنون لم يسمع عن أحد ممن تقدمه أنه قد جمعه) واعترف أيضاً معاصروه بتفوقه، فقال أثير الدين المفضل الأبهري - وهو عالم كبير في الخلاف والأزياج بفضل كمال الدين وعبقريته - (ليس بين العلماء من يماثل كمال الدين، وقال موفق الدين عبد اللطيف البغدادي - وهو من كبار علماء القرن السادس للهجرة - إنه لما لم يجد في بغداد من يأخذ بقلبه ويملأ عينه ويحل ما يشكل عليه سافر إلى الموصل سنة 585هـ، فوجد فيها كمال الدين بن يونس متبحراً في الرياضيات والفقه عالماً بأجزاء الحكمة الأخرى، قد استغرق حب الكيمياء عقله ووقته. وكان فقهاء زمانه يقولون: إنه يدري أربعة وعشرين فناً دراية متقنة، وكان جماعة من الحنفية يشتغلون عليه بمذهبهم، (. . . ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هي عليه من الإشكال المشهور وكان يتقن فن الخلاف والعراقي والبخاري وأصول الفقه وأصول الدين. . .)، وعلى الرغم من ذلك، فقد وجد في قومه من يتهمه في دينه، وقد يكون هذا الاتهام آتياً من اهتمامه بالعلوم العقلية وتعمقه فيها. ونظم أحد الشعراء المعاصرين لكمال الدين البيتين الآتيين اللذين تبين منهما الفكرة التي كانت سائدة عند الناس في دينه:
أجدك إن قد جاد بعد التعبس ... غزال بوصل لي وأصبح مؤنسي
وعاطيته صهباء من فيه مزجها ... كرقة شعري أو كدين ابن يونس
ويقول ابن أبي أصيبعة: (. . . كان كمال علامة زمانه وأوحد أوانه وقدوة العلماء وسيد الحكماء، قد أتقن الحكمة وتميز في سائر العلوم. . .) برع في الحساب ونظرية الأعداد وقطوع المخروط وكتب في المربعات السحرية والجبر والسيمياء والكيمياء والأعداد المربعة والمسبع المنتظم والصرف والمنطق، وقد حل مسألة تتعلق بإنشاء مربع يكافئ قطعة من دائرة. ويقال إن الأبهري الذي سبق ذكره قد برهن على صحة حل إبن يونس وعمل في ذلك مقالة. وعلى ذكر الأبهري نقول إن له مؤلفات قيمة في علم الهيئة والإسطرلاب ورسائل نفيسة في الحكمة والمنطق والطبيعيات والإيساغوجي
ويقول سارطون: (. . . إن كمال الدين من أعلم علماء زمانه ومن كبار المعلمين - أو هو المعلم العظيم - ومن أصحاب النتاج الضخم، وهو مجموعة معارف شتى في العلوم والفنون. . .) ويمكن القول إنه كان لبحوث كمال الدين قيمة كبرى عند علماء عصره وأثر في تقدم العلوم
لقد سبق كمال الدين غاليلو في معرفة بعض القوانين التي تتعلق بالرقاص، فقال سمث: (ومع أن قانون الرقاص هو من وضع غاليلو إلا أن كمال الدين بن يونس لاحظه وسبقه في معرفة شيء عنه. وكان الفلكيون يستعملونه لحساب الفترات الزمنية أبناء الرصد. . .) ومن هنا يتبين أن العرب عرفوا شيئا عن القوانين التي تسيطر على الرقاص ثم جاء من بعدهم غاليلو، وبعد تجارب عديدة استطاع أن يستنبط قوانينه إذ وجد أن مدة الذبذبة تتوقف على طول البندول وقيمة عجلة التثاقل ووضع ذلك بشكل رياضي بديع وسع دائرة استعماله وجنى الفوائد الجليلة منه
ونظم كمال الدين الشعر، وله قطع غزلية رقيقة تفيض عذوبة وسلاسة. منها:
ما كنت ممن يطيع عذالي ... ولا جرى هجره على بالي
حُلتُ كما حلتَ غادرا وكما ... أرخصتَ أرخصتُ قدرك الغالي
وله أيضاً:
حتى ومتى وعدكم لي زور ... مطل واف ونائل منزور
في قلبي حب حبكم مبذور ... زوروا فعسى يثمر وصلا زوروا
ومن المؤسف أنه لم يصلنا من نتاج كمال الدين إلا القليل فقد ضاع أكثره أثناء الانقلابات، والفتن التي حدثت في العراق. وورد في المصادر بعض مؤلفاته التي تتعلق بالفقه والمنطق والنجوم وهي: كتاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في تفسير القرآن، شرح كتاب التنبيه في الفقه (مجلدان)، كتاب مفردات ألفاظ القانون، كتاب في الأصول، كتاب عيون المنطق، كتاب لغز في الحكمة، وكتاب الأسرار السلطانية في النجوم
وخلّف كمال الدين أولادا أتقنوا الفقه، وسائر العلوم (. . . وهم من سادات المدرسين وأفاضل المصنفين. . .) كما يقول ابن أبي أصيبعة.
(نابلس)
قدري حافظ طوقان