مجلة الرسالة/العدد 351/الأدب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 351/الأدب في أسبوع

مجلة الرسالة - العدد 351
الأدب في أسبوع
ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1940



العودة

إن بعض الحوادث في حياة الرجل لتنزل منزلة الآية المحكمة: ننسخ ما كان قبلها، ثم يأتي بعضها كالقنبلة: تخسف الأرض أمامه فلا يرى إلا هوة وغبارها، فإذا تلاحقا لم يدري المرء ما يستدبر من أمره ولا ما يستقبل، وإنما هو الحيرة والظلال والرعب، والتردي كلما أقدم أو أحجم. . . بلى، إن علينا أن نصارع الحياة بالقوة، وأن نداورها بالحيلة، حتى نخلص إلى الأرض المطمئنة، ولكن هل يستطيع أحدنا بعد ذلك أن يصل إلى هذه الأرض؟! لولا أن اليأس هو باب الموت، لكان هو - في الحقيقة - إحدى الراحتين. . .

كتب

ولنعد. . . أصدرت المطابع المصرية في الأسابيع الماضية طائفة كثيرة من الكتب العربية، بعضها لأصحابنا من المعاصرين، وبعضها مما أنقذه المعاصرون من المكتبة العربية المدفونة في خزائن الكتب، فنحن نختار من هذه الكتب ثلاثة يجرى الحديث فيها مجرى واحداً في الغرض الذي نرمي إليه، وهي كتاب: (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) وهو دراسات لكبار المستشرقين مثل: بكر، وجولد تسيهر، ونلينو، ومايرهوف. ترجمها إلى العربية الأستاذ عبد الرحمن بدوي؛ وكتاب (الرسالة) لإمام المذهب محمد بن إدريس الشافعي. نشره العالم المحدث الثقة الشيخ أحمد محمد شاكر، وكتاب (الذخيرة) لأبي الحسن علي بن بسام، نشرته كلية الآداب مستعينة بمراجعة الأساتذة محمد عبده عزام، وخليل عساكر، وبخاطره الشافعي؛ وأشرف على عملهم أساتذة الجامعة: أحمد أمين، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الحميد العبادي، وعبد الوهاب عزام، وطه حسين

وهذه الكتب الثلاثة لا يجمعها باب واحد من حيث موضوعها، فالأول آراء للمستشرقين في فروع من الحضارة العربية والآراء الإسلامية، ورسالة الشافعي هي أصل علم (أصول الشريعة). والثالث في تاريخ الأندلس، وشعرائها، وبلغائها، وكتابها. فالذي حملنا على جمعها في باب واحد من كلامنا هو الرأي في المستشرقين، وما يجب علينا أن نتابعهم عليه، وما ينبغي لنا أن نحذره منهم

المستشرقون فقد قرأت مقدمة كتاب (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية) - كتبها الأستاذ (بدوي) بحرارة الشباب التي تتضرم في دمه، وجعل يتهدم فيها على التراث العربي بآراء كالمعاول: تضرب في الجذع بعد الجذع على غير هدى ولا كتابٍ منير. فلما توغلت في الكتاب رأيت أن آراء المستشرقين - الذين ترجم لهم كلامهم - هي التي وضعت في يديه هذه الفأس ليعمل بها؛ ونحن لا نرى أن مثل ذلك مما يضر بالتراث الإسلامي بشيء، ولكنا نرى أنه يضر بأصحابه والعاملين عليه أول، لأنه يأكل قواهم في شيء لا يمكن أن ينال منه شيء (ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). والمشكلة كلها هي فتنة أكثر الناس بأسماء المستشرقين، وأن ما يكتبون في التاريخ الإسلامي والعربي ينزل من قلوب كثير من شبان الجامعة وغيرهم منزلة الكلام القدسي: تحريف معانيه إبطال لقوة (الاستشراق) التي فتنتهم. ونحن - حين قرأنا بعض آرائهم التي ترجمها الأستاذ (بدوي) - وجدناها عملاً صالح المذهب من ناحية مدرجه، وأما من ناحية التحقيق العلمي، والغاية التي يرمى إليها، فهو عمل غير صالح. فكان هذا الذي عرفناه هو الذي دفعنا أن نخصص هذه الكلمة للكتب الثلاثة المذكورة آنفاً، ولمذاهب المستشرقين في تناول الكتب العربية القديمة بالتحقيق لنشرها، ثم مذاهبهم خاصة فيما يعالجون من تاريخ الفكر الإسلامي أو الحضارة الإسلامية. وليس غرضنا هنا أن نعرض لنقد شيء بعينه من آرائهم، وإنما نريد أن نثبت لهم حقهم الذي وجب لهم بما بذلوه من جهد، ونحذر شباننا من الافتتان بباطل من باطلهم

وينقسم أمر المستشرقين كما ترى إلى عملين: أحدهما عملهم في الكتب العربية القديمة التي نشروها من بدء توجههم إلى هذا الغرض، والآخر ما كتبوه من دراساتهم في الآثار العربية، وما أرخوه من تاريخ الإسلام، وتاريخ آرائه ومذاهبه العلمية والفلسفية.

نشر الكتب العربية

فالمستشرقون حين بدءوا فنشروا الكتب العربية القديمة لم يقصروا في بذل المال والوقت لاستجلاب الأصول التي يطبعون عنها هذه الكتب، ثم يتفرغ أحدهم لمقارنة الأصول بعضها ببعض، وإثبات الاختلاف بين النسخ الكثيرة التي تقع لهم، وتحرير ذلك بالحرف والنقط والشكل على ما هو عليه في أصل من الأصول، وأمانتهم في إبقاء المحرف على تحريفه والخطأ على صورته. . . إلى غير ذلك من الدقة والأمانة في إعطاء القارئ صورة كاملة في نسخة واحدة من الكتاب المطبوع - لعدة نسخ مختلفة متباينة من الأصول المخطوطة. حتى إنهم ليثبتون في (الهامش أو الاستدراك) ما هو خطأ بين لا يصح على وجه من الوجوه، وإنما هو جهل ناسخٍ وإفساد كاتبٍ، ثم لا يعطونك رأياً يرجحون به لفظاً على لفظ. . . وحتى إنهم ليثبتون الخطأ الصرف في صلب الكتاب ويكون صوابه في الاستدراك، وحجتهم في ذلك أنهم يعتمدون أقدم النسخ عندهم، يطبعونها كما هي، وأما اختلاف سائر النسخ فهو من حق المستدرك وإن كان هو الصواب الذي لا صواب غيره

وهذا - على علاته - عمل جيد وأمانة صحيحة. ثم جاءتنا هذه المطبوعات في بلادنا على فترة جهل وإهمال، وعلى زمن كل أصحاب المال الذين ينشرون الكتب فيه، إنما هم عامة لا يعنيهم إلا الربح من طبع الكتب حروفاً قد جمع بعضها إلى بعض على غير نظام ولا تحرير ولا فن؛ فلما قارن بعضنا هذا بهذا ونحن عرب وهم أعاجم لا يعنيهم من عربيتنا ما يجب أن يعنينا - انبثق بثق الفتنة، ومجد الناس همة هؤلاء المستشرقين الأعاجم - وحق لهم - وجعل جماعة ممن لبس عليهم يدفعون القول بعد القول في تعظيمهم والمغالاة فيهم بغير الحق. . . ثم مضى ذلك وانسحب التبجيل على آرائهم في الفكر الإسلامي والتاريخ العربي كما انسحب على أعمالهم في نشر الكتب. . . وأين هذا من ذاك؟

ثم انبثق بثق آخر، فظن بعض المغالين أن المذهب الذي سلكه المستشرقون في التصحيح، هو المذهب لا مذهب غيره، وجعلوا ينعون على من يخالفهم من أصحاب اللسان العربي في طريقة نشر الكتب العربية. ومع ذلك فهم على الحق في بعض ما يقولون، ولكنه ليس كل الحق؛ فإن المستشرقين لم يذهبوا هذا المذهب، ولم يقفوا هذا الموقف من اختلاف النسخ، إلا لعجزهم عن ترجيح بعض الكلام العربي على بعض، وذلك لعلل بينة: أولها جهلهم بالعربية على التمام، فإن تمام العربية هو السليقة التي لا تكتسب، كما أن تمام الإنجليزية والفرنسية هو السليقة والنشأة والاندماج في الوسط الإنجليزي أو الفرنسي من بدء المولد والحضانة؛ والثاني أنه قلما يوجد فيهم المتخصص في فقه علم بعينه حتى يكون حجة فيه، اللهم إلا أن تكون الحجة - عندهم - في جمع نصوص كثيرة في موضوع واحد من كتب شتى، ولكنهم لا يدعون أبداً أنهم أصحاب رأي في البيان والتأويل والترجيح رسالة الشافعي

ويجب أن نضرب المثل هنا (برسالة الشافعي) التي طبعها العالم الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر، فهو طبعها عن أصول مخطوطة ومطبوعة، وأقدمها نسخة منها بخط الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي وراوي كتبه؛ فالأستاذ الشيخ شاكر حجة في علم الحديث النبوي، وفقيه متيقن للسنة التي هي أصل من أصول الدين، فلما تناول (الرسالة) يعدها للطبع لم يترك شاردة ولا هائمةً من اللفظ إلا ردها إلى مكانها من عربية الشافعي وأصوله التي في كتبه، وأثبت الاختلاف ورجح بعضه على بعض، وعمل في ذلك عمل العقل المفكر بعد أن ضبط كل اختلاف رآه إلى غير ذلك من أبواب التحرير والضبط. فإذا أنت قرأت الأصل دون التعليق رأيته قد سلم من كل عيب، وصار بياناً كله، بعد أن كان في الطبعة الأولى من (الرسالة) شيئاً مختلفاً يتوقف عليه البصير، فما ظنك بسائر الناس ممن يقرأ وليس له في هذا العلم قديم معرفة أو مشاركة؟ وأنت إذا قارنت هذه الرسالة بأي كتاب من الكتب التي أتقنها أصحابها من ثقات المستشرقين، وجدت الفرق الواضح، وعرفت فضل العربي على الأعجمي في نشر الكتب العربية، إذا هو حمل أصولها على أصول الفقه والدراية والتثبت، ولم تخدعه فتنة برأي لعله غيره أقوم منه وأجود

وأنا أذكر بهذه المناسبة أن الأستاذ قد أرسل إلي في (إبريل سنة 1932) يسألني عن كلمة وردت في حديث من مسند أحمد ابن حنبل، ولم أكن قرأتها قبل ذلك، فكتبت إلى الرافعي رحمه الله أسأله عنها وعرضت له ما رأيت من رأي، فخالفني الرافعي، ثم لم تمض أيام حتى وجدت في الطبري ما يوافق بعض رأيي أو يدل عليه، وأبى الرافعي أيضاً. ثم لم ألبث أن وجدت نصاً بعينه على الذي رأيته، وهذه الكلمة هي في الحديث. . . (رجل قد جرد نفسه، قد (أطنها) على أنه مقتول)، فرأيت أن قراءتها: (أطنها) والهمزة فيها منقلبة عن الواو فهي (وطنها) وكذلك وردت في الطبري، ولكن أصحاب كتب اللغة لم يثبتوا ذلك في كتبهم كما أثبتوا (وكد وأكد، ووثل وأثل) إلى غير ذلك. فأنت ترى أن الطبع والسليقة ربما هدت إلى ما لا يقع إلا بعض طول التنقيب والبحث والتجميع

الذخيرة وهذا أيضاً كتاب (الذخيرة) فإن الجهد الذي بذل في تصحيحه وضبطه على الأصول المخطوطة التي طبع عنها وبيان اختلاف النسخ، قد أوفى على الغاية، وقل من المستشرقين من يستطيع أن ينفذ إلى إجادة مثله في التحرير، ومع ذلك فقد وقع فيه بعض ما كان يمكن تجنبه، لولا أن الأساتذة المصححين قد تهاونوا في تحطيم أسلوب المستشرقين الأعاجم، في التوقف الذي لا معنى له عند العربي، ونضيف إلى هذا علة أخرى، هي أنهم ليسوا ممن تخصص لشيء بعينه من تاريخ الأندلس وأدبه، فكذلك بقى بعض الخطأ كما هو، وأثبت على ذلك وليس له أي معنى. وترك مثل ذلك للقارئ مما لا يصح ولا يستحسن، ولنضرب لذلك مثلاً أو مثلين: ففي ص82 (. . . دبروا جميعاً عليه فقتلوه ليلاً. . .) وفي نسخة أخرى (بدروا)؛ وكلا الحرفين لا معنى له في الجملة، والصواب عندي أن يكون (اندرأوا عليه. . .) أي هجموا عليه واندفعوا، ومن قرأ النص عرف أن هذا هو حق السياق، وكذلك في ص110 (وفارس ميدان البيان، وذات صدر الزمان) وفي نسخة (وأذات) وكلاهما ليس له معنى، وهو محرف عن (ودرة) أو أي شيء يكون حلياً للصدر. . . ونحن لا نتتبع وإنما نقلب بعض أوراقه الآن على غير ترتيب، ومع ذلك فهو أجود بكثير من أغلب كتب المستشرقين

هذا. . .، وليس كل المستشرقين ممن يصح الاعتماد عليهم في كل شيء، فقد طبعوا كثيراً من الكتب. . .، وأقل كتاب وأردأه مما يطبع في مصر هو خير من مثل هذه الكتب. فلو أخذت مثلاً (كتاب الزهرة) لابن داود الظاهري، الذي طبعه الأستاذ (لويس نيكل) بمساعدة الأخ (إبراهيم طوقان) لوجدت أكثره خطأً، بعد الذي بذله الأستاذ طوقان في الاستدراك عليه. . . ولو شئنا أن نضرب المثال بعد المثال على ذلك لضاق المكان عن إتمام ذلك

مباحثهم

أما مباحث المستشرقين فهذه هي موضوع الإشكال كله، والمستشرقون - كما لا يشك أحد - ثلاث فئات: فئة المتعصبين الذين تعلموا العربية في الكنائس لخدمة التبشير، وهم الأصل، لأن الاستشراق في أوله كان قد نشأ هنالك بين رجال الدين. .؛ وفئة المستشرقين الذي يخدمون السياسة الاستعمارية في الشرق العربي، وفئة العلماء الذين يظن أنهم تجردوا من الغرضين جميعاً. . . فأما الفئة الأولى والثانية فما نظن أكثر أقوالهم في المباحث الإسلامية إلا جانحاً إلى غرض أو مركوساً بقوله إليه، وهم أكثرية المستشرقين، ولا نظن أن كلام هؤلاء مما يمكن أن يعتمده أحد إلا أن يكون مفتوناً جاهلاً. وأما الفئة الثالثة، فهي أيضاً موضع الإشكال؛ فمن غير الممكن فيما نظن أن يتجرد هؤلاء عن الغرض الخفي الذي يدب من وراء الكلام؛ هذا على أنهم كما قدمنا ليسوا أصحاب سليقةٍ في فهم النصوص العربية على التحري لموضوعها، وتمام الفقه لمعانيها التي يتعاطونها؛ وإذن فمن واجب قارئ كلامهم أن يقف عند آرائهم موقف الناقد الذي لا يقبل إلا ما تقبله الطبيعة الفطرية للغة في المعاني التي يستخرجونها من الكلام. ومع ذلك أيضاً فمن عيوب هذه الفئة أنهم ربما استخرجوا قولاً ضعيفاً فاسداً ليس بشيء في تاريخ الإسلام والعربية، ثم يكتبون وقد اتخذوا هذا القول أصلاً ثم يجرون عليه سائر الأقوال ويؤولونها إليه، ثم يحشدون لذلك شبهاً كثيرة مما يقع في تاريخ مهمل لم يمحص كالتاريخ الإسلامي، وكذلك يلبسون على من لا يعلم تلبيساً محكما لأنه حشد وجمع، وتغرير بالجمع والاستقصاء الذي يزعمون. وسنتناول ذلك بعد قليل بعرض بعض الآراء التي ترجمها لنا الأستاذ بدوي في كتابه لنحقق كل ذلك إلى نهايته، حرصاً على أن نحصر الفساد في أضيق محيط

العقاد

وأنا لا أحب أن أختم هذا الحديث بغير مثل أيضاً. فهذا الأستاذ (العقاد)، وكلنا يعلم أنه قلما كان يتناول الأغراض الإسلامية بالتحرير والبحث، ولكن منذ العدد الهجري للرسالة كتب مقالة عن عبقرية محمد العسكرية، ثم عن عبقريته السياسية، فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، ورد كثيراً من الشبه التي كان يلبس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا: وليس يستطيع مستشرق أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، كما يستطيع كاتب قارئ مطلع كالأستاذ العقاد. ثم هو فوق ذلك أديب عربي يستطيع أن يجعل فطرته العربية الأدبية عوناً له على التغلغل في أسرار تاريخية مطموسة، لا يطيقها المستشرق بفقدانه مثل هذه الفطرة؛ ثم لأن البيئة العلمية والاجتماعية التي نشأ فيها وتثقف على أساسها لا تطاوعه أو تلين معه، حتى يكون في نظره إلى التاريخ العربي أو الفلسفة الإسلامية، خراجاً ولاجاً على طبيعة العرب وطريقتهم في تداول معاني حياتهم، وحياة أفكارهم وفلسفتهم. ونحن نرجو ألا يخلي الأستاذ العقاد مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخ تنقذف عليه كل يوم جهالات كثيرة مفسدة ليس لها أصل ولا بها قوة.

محمود محمد شاكر