مجلة الرسالة/العدد 351/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 351/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1940



تأملات في الفن:

نبئيني غداً بما تسمعين

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

- لست أدري لماذا تحب أن تسمع موريس شفالييه وهو يغني بالإنجليزية، مع أنه إذا غنى بالفرنسية كان أبدع

- من غير شك يكون أبدع، ولكني أسمعه يغني بالإنجليزية لكي أضحك لا لكي أطرب؛ فهو ينطق الإنجليزية بلكنة فرنسية فيزيد هذا الشذوذ تهريجه حلاوة وخفة

- وهل موريس شفالييه مهرج؟

- وأي شيء هو غير هذا؟ إنما هو مستساغ ومحبوب لأن تهريجه في طبعه، فلو لم يكن شفالييه مهرجاً محترفاً يربح من تهريجه المال الوفير، لكان مهرجاً في أي عمل يعمله وأينما كان وكيفما كان

- ليت عندنا مهرجين مثله

- وهل عندنا غيرهم. . . ولكن الذين لا يحترفون التهريج ويدعون الوتار ويصطنعون والتعالي عن سفاسف الأمور

- مثل من؟

- دعينا من هذا، فأهلنا هنا في مصر يوجعهم الحق. بنا إلى موريس شفالييه واذكري له حسنة أخرى إلى ما ذكر من حسنة التهريج الصريح

- خفة روحه

- إنها مع تهريجه وفي خلاله، بل إنه منها وبها. نريد له حسنة أخرى لا صلة لها بالتهريج. . .

- مثل ماذا؟

- مثل لكنته هذه. أليست تدل على شيء طيب في نفسه أليست تشهد بأن موريس شفالييه قوي الشخصية، ومن قوي شخصيته هذه القوة الفرنسية التي لم تخذلها رغبته في الربح وطعمه في الدولار الأمريكاني الرنة الإنجليزي اللغة. . . إني أرى في شفالييه هذه الحسنة

- ولكني أرى هذه سيئة لا حسنة. فالممثل هو الطيع النفس الذي يستطيع أن يتشكل بسهولة لا الجامد النفس الذي يستعصي عليه التلون

- هذا حق. وإني أعتقد أن موريس شفالييه إذا مثل شخصية إنجليزية معينة فإنه سيكون في تمثيله هذا أقرب إلى سلامة (التجنلز) منه وهو يمثل شخصيات غير محدودة لا ينطق الإنجليزية بلسانها بضرورة فنية، وإنما لضرورة تجارية ألزمته إياها شركات السينما الأمريكية. . . ولو لم تكن الأدوار التي يخرجها موريس شفالييه كلها تهريج ومرح ومجون وفكاهة لا تجب معها المؤاخذة على سلامة كيانها الفني لفشل موريس شفالييه ولعاد إلى التمثيل بلغته الفرنسية كما عاد إميل جاننجز إلى التمثيل بلغته الألمانية على ما تكبد في ذلك من خسارة مادية هائلة، إذ كانت أمريكا تعتبره ممثل الدنيا الأول

- أو إلى هذا الحد يصعب على الإنسان أن يمثل بلغة غير لغته؟

- إذا كانت لغته متغلغلة في نفسه قابضة على زمام روحه

- وكيف يكون هذا وكيف لا يكون؟

- اللغة هي لسان فريق من الناس يقال لهم شعب، لأنهم تشعبوا من أصل البشرية إلى اتجاه إنساني خاص يستدعي سلوكه مميزات نفسية خاصة. وهذه المميزات يظهر بعضها في التفكير، ويظهر بعضها في الذوق، ويظهر بعضها في الأفعال والحركات، ويظهر بعضها في اللغة وفي طريقة إلقاء هذه اللغة. وكلما تأصلت هذه المميزات في نفوس الشعب وضحت آثارها في المظاهر التي ذكرناها، وليس هذا الوضوح إلا دليلاً على تمكن هذه المظاهر من تلك النفوس، وشدة ارتباطها بها، فإذا أكرم شعب من الشعوب أفراده تأصلت في أفراده مظاهره حتى لتكون هي الطابع الذي يطبعهم، وإنهم لينمون هذا مدفوعين إليه بالذي يشعرون به من الاعتزاز بانتسابهم إلى أنفسهم، وهم لا يشعرون بهذا إلا إذا كانوا عل خير، وإذا كانوا بهذا الخير راضين. وليس هناك شك في أ، موريس شفالييه يعتز بانتسابه إلى فرنسا، كما أنه ليس هناك شك في أن إميل جاننجز يعتز بانتسابه إلى ألمانيا، كما أنه ليس هناك شك في أن شارلي شابلن يعتز بانتسابه إلى العبرية، أما موريس فإنه رأى الناس لا يطلبون منه إلا أن يضحكهم وأن، يمازحهم، فلم يعبأ بأي لسان يتحدث إليهم ويغنيهم، فهو ينطق أحياناً بالفرنسية وأحياناً بالإنجليزية، ولو كفل له استديو مصر حاجته من المال لمثل بالعربية ولم يجد مانعاً من ذلك ما دام غرضه وغرض الناس منه هو العبث، وأما شارلي شابلن فإنه يمثل من غير أن يتكلم لأنه لا يهرج، وإن كان يضحك الناس على أنفسهم، ولأنه يريد أن يحسه الناس جميعاً مجرداً من كل بلبلة مما فرق البشرية وشعبها، وقد كان شارلي يستطيع أن يمثل بالإنجليزية وهو مولود عليها، ولكنه يشعر بالحق فيما بينه وبين نفسه أنها لغة طارئة على تكوينه غريبة على نفسه ذات المميزات العبرية الشرقية التي أنعم الله بها على بني إسرائيل، وهذا الشعور مع رغبته في الشيوع مع النفوس المختلفة هما اللذان يلزمانه التمثيل الصامت وإلا فقد كان يمثل بالإنجليزية وهي لغة جمهور السينما

- أو العبرية وهي لغته

- ولكن أهلها قليلون جداً وحرام أن يخصهم شارلي وحدهم بفنه مثلما خص إميل جاننجز أهله الألمان وحدهم بفنه بينما كان الواجب الإنساني عليه أن يظل في أمريكا يمثل صامتاً مثلما يفعل شارلي، وقد كان ينجح كل النجاح ويوفق كل التوفيق فهو في الممثلين آية. أذكر أني رأيته مرة في فيلم يبكي بضلوع ظهره بكاء أبكاني وأبكى كثيرين معي، وليس كل ممثل بقادر على هذا

- فما الذي منعه؟

- لست أدري، وإن كنت أظن أن إميل لو كان صاحب ثروة مدخرة لبقى في أمريكا وفعل الذي يفعله شارلي ولما اضطره الفقر إلى أن يقف موقف الاختيار بين ما يريده الأمريكان من التمثيل الناطق، وما يريده الألمان من النطق بالألمانية وحدها

- إذن فلو كان إميل غنياً لكان قد تخلص من ألمانيته، فالألمانية إذن ليست متغلغلة فيه كما تدعي، وما دام الأمر كذلك فقد كان يمكنه أن يظل في أمريكا وأن يمثل بالإنجليزية

- لا. إن الألمانية متغلغلة فيه، فلا أحد ينكر أن الألمان من الشعوب الذين يعتزون بأنفسهم، بل الذين يصل بهم اعتزازهم بأنفسهم إلى أن يصبح صلفاً وتكبراً مذمومين، وكل الذي كان يستطيعه إميل مع هذه الألمانية المتمكنة فيه من ألوان الكفاح هو سترها بالصمت، ولكنه لم يكن ليقوى على أن يسترها إذا نطق فبأي لسان نطق ظهرت ألمانيته، وظهر فيها صلفه وكبرياؤه وغروره، والصلف والكبرياء والغرور من الصفات التي يراها البشر عامة شذوذاً وانحرافاً عن الفطرة الإنسانية السهلة السمحاء وليس يقبل فريق من الناس أن يكون الإنسان ذا صلف وكبرياء وغرور إلا الألمان، لأنهم كلهم هكذا أصحاب صلف وكبرياء وغرور، فمجتمعهم مملوء بهذه الصفات حتى إنهم لم يعودوا يرون فيها غرابة ولا شذوذاً ولا عيباً، وقد يقبل الناس من غير الألمان أن يروا إميل جاننجز في دور تمثيلي فيه صلف وغرور وكبرياء، ولكنهم لن يقبلوه في هذا الدور بهذه الصفات إلا إذا كانت هذه الصفات مما يستدعيه الدور، كأن يكون دور قائد من المحاربين المغامرين المفتونين، أو حاكم من الحكام المستبدين المغرورين، أما إذا لم يستدع هذا الدور هذه الصفات وظهرت هذه الصفات في لهجة إميل جاننجز وإلقائه للإنجليزية أو الفرنسية فإن الناس سيضحكون عليه من غير شك لأنها صفات غريبة على الدور خارجة عن طبيعته. . . أولا تضحكين أنت من المتكبر المغرور إذا لم يكن له جاه يبرر - ولو للعرف - كبرياءه وغروره؟. . . لهذا عجز إميل جاننجز عن التمثيل بالإنجليزية

- وهؤلاء الممثلون جميعاً الذين يمثلون في هوليوود باللغة الإنجليزية وهم من شعوب مختلفة ولهم ألسنة مختلفة، ألا يراعون هذا الذي يراعيه إميل جاننجز وشارلي شابلن وموريس شفالييه؟

- أما شفالييه، فهو لا يراعي شيئاً كما قلت لك، واللذان يراعيان هما شارلي شابلن وإميل جاننجز، فهما من عشاق الكمال الفني، وقد تركزت في كل منهما خصائص قومه، فهو في فنه يمثل شعبه في حياته، فهذا شارلي ضاقت العبرية به، فصمت وانتشر بصمته في الأرض، كما ضاقت الأرض المقدسة عن بني إسرائيل، فصمتوا عنها وانتشروا في الأرض، وهذا إميل جاننجز ضاقت به الألمانية، فتشبث بها وانحصر في حدود بلاده يجتر كبرياءه وصلفه وغروره كما ضاقت ألمانيا نفسها بأبنائها فلم يصمتوا عن صلفهم وكبريائهم وغرورهم، وإنما انحصروا في أرضهم يأكلون صراخاً وزعيقاً وصخباً وجلبة. ولو كانوا على شيء من الحكمة، لنزلوا عن شيء من صفاتهم هذه، ولكانوا كالإنجليز معتدين بأنفسهم ولا غرور، أو كانوا كالمسلمين معتمدين على الله ساعين في أرضه الواسعة بالحق والسلام والصبر في البأساء ويوم البأس. . . كم أريد أن أسمع صوتاً مسلماً: في حديث أو غناء أو ترتيل أو تمثيل لحال أو موعظة تلقى. . . ولكن أين نحن من هذا. . . إنه لن يكون إلا إذا أسلم كاتب من الكتاب، فاهتدى إلى موضوع مسلم، فكتبه، فعهد به إلى مخرج مسلم، فسلمه إلى ممثلين مسلمين وملحنين مسلمين ومغنين مسلمين، فعندئذ فقط نسمع الصوت المسلم. . .

- وهذه الأصوات التي تسمعها؟ ألا يشبعك منها ولا صوت جورج أبيض؟. . .

- فيه رنة لذيذة كرنة الذهب، ولكن فيه أيضاً عجمة غريبة تشربها في فرنسا حيث تعلم التمثيل، وإنه في هذا يشبه الدكتور طه حسين بك في إلقائه، فهو ينطق الحروف العربية سلة مسلمة نقية مجودة، ولكنه إلى هذا يموج صوته في إلقائه تمويجاً فرنسياً فيه التلطف، وفيه القصد إلى التأثير، وفيه التأنق في الاسترسال والتأنق في الوقف، وهذا شأن مستشرق فرنسي تعلم العربية فأجادها، وليس شأن عربي يتكلم. والدكتور طه معذور في هذا فقد تعلم في مصر ولكنه تربى في فرنسا وقد اختار أن يتفرنس ثم يستشرق لأنه رأي المستشرقين الفرنسيين أرقى علماً وأخصب حالاً من المصريين ومن العرب، وأنا مؤمن بأن الدكتور طه لو كان قد احتك بمثل إنساني حي أعلى منه ومحبب لديه من المسلمين أو المصريين أو العرب لكان قد مكن لغته العربية من نفسه على مثال تمكنها من نفس ذلك المثل الذي لم يره فلم يجد بداً من أن يبحث عنه بين المستشرقين، كما تعلم الأستاذ جورج أبيض التمثيل على يد أستاذ فرنسي فطوع له نفسه حتى تترجمت إلى نفس فرنسية تلقى العربية برنة فرنسية هي صدى لأسلوب الإحساس الفرنسي الذي دربه عليه أستاذه. . .

- وهل للإحساس أساليب؟

- من غير شك. تصيب المسلم المصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويقبل على الحياة مجاهداً وهو يقول: لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، والمؤمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وتصيب الكافر المصيبة فيهلع لها ويتخبط من جزعه في أرجائها فلا يخرج منها - إن خرج - إلا منهوكا زادته المحنة كفراً وبعداً عن الله واستغرقاً على نفسه، له أسلوبه في الحس وللمسلم أسلوبه، وأسلوب الكافر ظاهر في لهجته وكلامه، فهو نضطرب حائر يلفظ الكلمة يكاد يخفيها أو يأكلها خشية أ، تفضح ما في نفسه، فإذا أفصح انفضح اضطرابه وهلعه وجزعه، وأسلوب المسلم ظاهر في لهجته وكلامه، فهو مطمئن هادئ مستبشر واثق من رحمة ربه. . . ولكل شعب من الشعوب أسلوب في الحس ومختار من الإحساس يحبه ويغذيه من نفسه وينميه فيها فيظهر في لهجته وكلامه. فالألمان يعتقدون أنهم أقوى ما في الدنيا ولذلك فإنهم يقبلون على الدنيا بهذا الإحساس يتحدون كل قواها مقعقعين بلغتهم وكلامهم كأنهم المدافع، والفرنسيون يعتقدون أنهم أجمل ما في الدنيا وأشد ما فيها عصفاً وهم لهذا يقبلون على الحياة مدللين متأنقين متلطفين مغرين الناس بأنفسهم قد أرهفوا انتباههم إلى مسة تخدشهم فما تخدشهم حتى يثوروا فما يسترضون حتى يرضوا. . . طبيعة الجميل المدلل الأنيق المتلطف؛ وكل هذا باد في لغتهم ومطاتها الرشيقة ووقفاتهم الأنيقة كما يبدو في عواصف إلقائهم وزوابعه إذا هم غضبوا. . . وأهل لبنان في إلقائهم للعربية بداوتهم الباقية وعنجهيتها الفخور. . . وأهل المغرب في سرعة إلقائهم ومضغ الحروف و (كركبة) الألفاظ بعضها فوق بعض لا يزالون في الهلع الذي أصابهم منذ أريحوا عن الأندلس بما كانوا يلهون فيها. . .

- وأهل مصر؟

- تسمعيهم أنت. . . ونبئيني غداً بما تسمعين

عزيز أحمد فهمي