مجلة الرسالة/العدد 357/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 357/رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
(إلى أستاذي الدكتور زكي مبارك بعد مقاله: (عندنا أدباء
ولكن. . .))
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
1 - من الكتاب
الدكتور هيكل باشا
شارلي شابلن هو أعظم فنان في الدنيا الآن، فلا يجوز لأحد أن يغضب إذا قيل له إن فيه من روح شارلي شابلن وظله وتكوينه، إلا إذا كان ممن يكرهون الفطرة الصافية، وسهولة النفس الصادقة. ولا يمكن أن يكون الدكتور هيكل باشا من هؤلاء، ولذلك أبيح لنفسي على الرغم من أنه باشا في الشرق الذي يقدس كبراءه ويتحرج في التحدث إليهم والتحدث عنهم. . . أن أقول له: إني ما رأيته حتى تفتحت له نفسي كما تتفتح لشارلي شابلن، فما أذكر أنه باشا حتى أعود فأتكتم نفسي أمامه ترهيباً وتوقيراً. . .
قد كنت أحب ألا يكون الدكتور هيكل. . . باشا. بل قد كنت أحب ألا يكون دكتوراً، فالدكتوراه قد ألزمته فيما يكتب الواقع الثابت المؤكد يتحراه فيما ينشئْ، وفيما يبحث ويدرس، وفيما ينقد ويوجِّه. . . والتزام الواقع الثابت المؤكد في هذا كله حرمنا أن نقرأ وحي عاطفته وأن نطالع نسيج خياله، والعاطفة والخيال أغلى ما في الفنان. . . فهّلا أعطانا منهما الدكتور هيكل باشا ما ننعم به مثلما ننعم بما يعطينا من فكره؟
الأستاذ الزيات
اسمع صوته تعرف أنه لا يزال إلى يوم طفلاً لا تعقيد في طبعه ولا مكر ولا تخابث. وإنه لمسالم ولكنه يعرف ندرة المسالمة في الناس، فهو يخشاهم ويتوقاهم ويسأل الله النجاة م إساءتهم ومن إحسانهم أيضاً. وقد أورثه هذا الشعور (التأنق) الذي عرف عنه في كتابته، فهو إذا أراد أن يلقى جبلاً على رأس قارئة لوماً وعتاباً وتعنيفاً كلف نفسه في البدء أن ينسف الجبل، ثم أن يدق حجارته وصخوره فإذا هي حصى، ثم أن يطحن الحصى فإذا هو دقيق ناعم، ثم أن يحرق هذا الدقيق فإذا هو دخان، ثم أن ينفخ في هذا الدخان فإذا هو. . ماذا؟. . سراب أو أثير يرجم به الأستاذ الزيات ما يكره من الصور والفِكَر والحوادث. وهو إلى جانب ذلك التلطف كله يقول: اللهم غفرانك فما أردت إلا الإصلاح! مسالم جداً!
وإذا جاء يوم كان اللطف فيه عيباً، فإنه يجئ يوم يرى الناس الإسفاف فيه فضيلة. وقد وقى الله الأستاذ الزيات الإسفاف بما وهب له من الرقة وأناقة النفسِ، فهو حريص كل الحرص على قلمه أن ينزلق إلى فكرة نابية أو كلمة فاجرة. وهو على الرغم من احترافه الكتابة السنين الطويلة لا يزال يتأنق فيها. وهذا دليل على حبه إياها وشغفه بها. وثمة دليل آخر على ذلك هو أنه أكرمها فلم ينزل بها إلى أسواق يروج فيها الرخيص الغث منها، وإنما ظل بها في سموات أدناها (الرسالة)
إني أحبه لأنه كان شجاعاً في عطفه علىّ في أشد ما عرفت من محن الحياة، فقد فتح لي أبواب الرسالة بعد ما كنت في نظر الناس مكروباً
الأستاذ أحمد أمين
قُدَّمت إليه سنة 1928 وكانت معي كراسة أكتب فيها أشياء شغلتني إذ ذاك وأنا في الرابعة الثانوية. فقرأ منها شيئاً ثم سألني: ماذا تريد أن تدرس بعد البكالوريا؟ فقلت له: اللغة العربية في كلية الأدب عندكم. فسألني: لماذا؟ فقلت له: لكي أكون أديباً. فقال لي: لسنا نخرج الأدباء المنشئين وإنما نحن نخرج الأدباء الواصفين. . . قالها وابتسم زعماً منه أني سأسأله وأنا التلميذ الجاهل في المدرسة الثانوية عن الفرق بين الأدباء المنشئين والأدباء الواصفين هؤلاء، فإن هذا الفرق موضوعاً لدرس من دروس السنة الثانية من قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ولكني كنت قد قرأت كتاب (في الأب الجاهلي) كما كان الأستاذ أحمد أمين قد قرأه، فعرفت منه ما عرفه، فلما سمعته يقول ما قال لم أسأله شيئاً وإنما بادرتني الحسرة على نفسي لأن الأستاذ أحمد أمين أنذرها بأنه لا معين في كلية الآداب على بلوغ ما تنشد. . . فقلت من ساعتها: الاعتماد على الله وجئت من الإسكندرية ودخلت كلية الآداب، واضطررت إلى احتراف الكتابة، فما كان ينهاني عنها أحد أكثر من الأستاذ أحمد أمين، فكم قال لي إن العلم لا يمكن أن يتفق مع الكتابة في المجلات والصحف! وكم خيرني بين الاستمرار في طلب العلم عندهم في كلية الآداب أو طلب الرزق بالكتابة، حتى سألته يوماً أن يربط لي من مرتبه خمسة جنيهات في الشهر تكفيني وأتعهد له بها أن أتوفر على الدرس حتى لا يلحقني فيه طالب، فانتهت المشكلة بيننا عند هذا، ولكنها بدأت بين الأستاذ أحمد أمين ونفسه عند هذا أيضاً. فقد بدأت تظهر أعراض الكتابة على الأستاذ أحمد أمين، فإذا له في الرسالة قطعة مترجمة تحت عنوان (نفسية قطة) وإذا له بعد ذلك مقالات أخرى، وإذا له آخر الأمر مجلة أسبوعية تربح ولا تخسر!
فهل لي أن أسأل الآن الأستاذ أحمد أمين: أتستطيع كلية الآداب اليوم أن تخرج الكتاب المنشئين ولو في مدة عمادته، أم هي لا تزال قانعة بإخراج الأدباء الواصفين الذين ملئوا البلد بأنفسهم وبوصفهم وإن كان لا يراهم أحد ولا يسمعهم. . .؟
ثم هل لي أن أسأله أيضاً: أتتفق حياة العلم اليوم مع الكتابة في المجلات والصحف، أم أن هذا أمر يجوز للعمداء والأساتذة الذين استوعبوا العلم كله، وانتهوا منه كله، ولم يعودوا يجهلون شيئاً مطلقاً، ولم تعد ضمائرهم تسألهم عن إصلاح الفاسد مما وظفتهم الدولة لإصلاح والإشراف عليه. . . بينما هو لا يجوز للأولاد الجهلاء الذين عليهم أن يموتوا ضيقاً أو يجدوا الفسحة في كتابي فجر الإسلام وضحاه وثمن النسخة عشرون قرشاً؟
في القرآن ظاهرة عجيبة، وهي أنه عند ما يقول عن الله إنه الغني يرفها بقوله إنه الحميد. لماذا يلتزم القرآن هذا الإقران أو لماذا يكثر منه على الأقل؟ لعل ذلك لأن الله وحده هو الذي يستطيع أن يكون غنياً وحميداً. والله أعلم
2 - من الممثلين
الأستاذ الريحاني
تزوره فتقول له: إذا أغلقت عليك حجرتك امتنع عنك الهواء فسلمت حنجرتك من العطب فيغلق عليه حجرته فتمضي عنه. ويزوره زائر آخر يقول له: إنك أغلقت عليك فامتنع عنك الهواء فارتفعت درجة حرارتك فأنت إذا خرجت أصابك البرد ونال حنجرتك العطب، فيفتح الباب والنافذة. ويمضي هذا الزائر ويجئ زائر ثالث فيقول له: إنك وقد فتحت الباب والنافذة قد عرضت نفسك للتيار، والبرد إذا أصابك نال حنجرتك العطب فاكتف إما بالباب وإما بالنافذة، فيغلق النافذة ويبقى الباب مفتوحاً. ويمضي عنه هذا الزائر ويجيئه زائر رابع فيقول رابع له: إنك وقد فتحت الباب عرضت نفسك لإلمام الثقلاء من الزائرين بك وأنت رجل عمدتك في عملك على أعصابك إذا هدأت، ونفسك إذا اطمأنت ولم يقلقها ضيق أو ضجر، فيقوم ويغلق الباب ويفتح النافذة. ويمضي هذا الزائر ويجيئه زائر خامس يقول له: إنك وقد فتحت النافذة ردمك الغبار، ودخل إلى (خياشيمك) وتراكم على سقف حلقك فعطل صوتك وربما آذى عينيك أيضاً، فيغلق النافذة. فإذا مضى عنه هذا الزائر ألفى نفسه وقد أغلق على نفسه الحجرة نافذتها وبابها وذكر أن زائراً قال له كلاماً معقولاً منعه به من إغلاق النافذة والباب، فيقوم ويفتحهما؛ ولكنه عندئذ يذكر أيضاً أن كلاماً معقولاً قيل له لما فتحهما أول مرة وأنه أقتنع به وأنه قام على أثره فأغلق الباب وأبقى النافذة مفتوحة. فيقوم ويغلق الباب ويستبقي النافذة مفتوحة، ولكنه عندئذ أيضاً يذكر مرة أخرى أنه اقتنع في ساعة ما بوجوب إغلاقها فيقوم ويغلقها هي أيضاً، ثم يعود فيرى أنه عاد إلى ما كان فيه، فلا يرى مخرجاً من هذا الدوران إلا أن يغادر حجرته وأن يجلس في القهوة يلعب الورق، فإذا ما سأله أفراد فرقته لماذا ترك (الشغل) بسط لهم المسألة وسألهم حلاً للمعضلة فإذا هم كل واحد وله رأى وإذا هو ساخر منهم لعجزهم عن الاهتداء إلى الحل القريب الذي اهتدى إليه هو، وهو الإضراب عن الحجرة، ويدخل في ذلك الإضراب عن العمل.
الأستاذ يوسف وهبي
لا شك في أنه ضحى للفن بثروة طائلة؟ ولا شك أيضاً في أنه منذ ظهر لا يزال يضرب الرقم القياسي في إقبال الجمهور على فنه. فكيف يتفق لفنان أن يكون أروج الفنانين ومع ذلك يكون أخسرهم؟
المظهر: هو يتفق على مظهره ربحه كله وأكثر، ويرجع السبب في هذا أنه يشعر في قرارة نفسه بأنه وإن كان ممثلا فهو غير الممثلين، وأول فرق بينه وبينهم أنه دخل إلى التمثيل وفي جيبه مال اتهمه خصومه بكثير من التهم، ولكن الواقع يشهد بأنه برئ من تهمة واحدة - على الأقل - وهي تكلف الهواية التي وهب نفسه لها، فهو يمثل لأنه يحب التمثيل، وهو يمثل ولو خرب في سبيل التمثيل، وهو يمثل لأنه إذا لم يجد مسرحاً يؤويه انطلق في الحياة يمثل صوراً تتراءى له. وأكثر هذه الصور ترقصاً أمام عينه هي صور الزعامة والقيادة والحكم، ورواياته الأخيرة التي ألفها تشهد كلها بذلك، فهو فيها جميعاً إما زعيم حزب، وإما رئيس شركة أو إدارة، وإما مستشار أو قاض في محكمة، وإما ضابط كبير في الجيش
وإني لا أرتاب في أنه إذا أراد أن يكون زعيم حزب في مصر لا ستطاع أن يكونه في نجاح كبير
الشيخان
جورج أبيض وعزيز عيد:
اشتركا يوماً وألفا فرقة، وطافا بها في الوجه البحري والوجه القبلي، وعادا إلى القاهرة ومعهما ألفان من الجنيهات كانت في جيب الأستاذ جورج أبيض، وبعد يوم من العودة ارتاحا فيه من مشقة السفر ذهب الأستاذ عزيز عيد إلى الأستاذ جورج أبيض يطالبه بنصف الأرباح حسبما اتفقا. . .
عزيز عيد - يا أخي يا جورج. أين الألف الذي لي؟
جورج أبيض - معي يا أخي يا عزيز. في جيبي
عزيز عيد - طيب. هاتها
جورج أبيض - ليتني أستطيع. ثق أنني أرثى لك، ولكن ثق أيضاً أنني عاجز عن مواساتك
عزيز عيد - ولم المواساة ونحن لم نفقد شيئاً. . . أما قلت إن الألف معك؟
جورج أبيض - وهذا ما أنت جدير بالمواساة فيه. . . فجنيهاتك معي أنا وليست معك أنت. . .
عزيز عيد - وأي شئ في هذا؟ أعطني إياها تكن معي وينته الأمر
جورج أبيض - وكيف السبيل إلى هذا؟
عزيز عيد - ضع يدك في جيبيك وأخرجها وهاتها، ولا غير جورج أبيض - أنا؟ أنا أضع يدي في جيبي، وأخرج منه ألف جنيه، وأعطيك إياها بكل سهولة هكذا، وأنا حي أرزق، وقوي صحيح أستطيع أن أحمي نفسي وما في جيبي؟. . .
عزيز عيد - ولكنه مالي أنا
جورج أبيض - وهل أنكرت أنا ذلك يا أخي؟ كل ما في الأمر أني لا أطيق أن أخرجه بيدي
عزيز عيد - إذن فأخرجه بيدي أنا. . . في أي جيب من جيوبك المال؟
جورج أبيض - هنا يا أخي يا عزيز. . . في جيبي هذا. . .
عزيز عيد - طيب. اسمح لي. . .
جورج أبيض - لن يحدث هذا إلا إذا فقدت آخر قطرة من دمي. . . حذار يا عزيز أن تمد يدك. . .
عزيز عيد - عجيبة!
جورج أبيض - العجيب أن يخرج من جيبي ألف جنيه لا أن أحتفظ بها. . .
ويؤكد الأستاذ عزيز عيد أن هذا المحادثة كانت آخر صلته بالألف الجنيه، وإن لم تكن آخر صلته بالأستاذ جورج ابيض. . . الاثنان فنانان ولا ريب!
هذه صور مررنا بها سريعاً، وقد كنت أحسب أن براحي في هذا العدد من الرسالة سيتسع إلى صور غيرها لبعض الشعراء وبعض الموسيقيين وبعض المغنين وغيرهم من الفنانين ولكنه امتلأ بهؤلاء؛ فإلى عدد مقبل بإذن الله نعود فيه إلى المرور بصور سريعة أخرى نرى فيها من بواطن أعلام الفن عندنا وظواهرهم ما يهدينا الله إليه
نسأله الهداية إلى الحق رائدنا وغايتنا
عزيز أحمد فهمي