مجلة الرسالة/العدد 358/الأزهر والحياة العامة

مجلة الرسالة/العدد 358/الأزهر والحياة العامة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 05 - 1940



للأستاذ محمود الشرقاوي

كان مفيداً وقيما ذلك الحديث الذي أفاض به صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي (للرسالة) منذ أسبوعين، واستطاع صاحب (الرسالة) أن يركّزه وأن يلخصه لقرائها في بيان واضح وفكر واضح

وكان قيماً ومفيداً ما كتبه صاحب (الرسالة) في مقاليه عن الأزهر ورجاله وأبنائه وحاله في القديم والجديد وما نرجوه ويرجو منه المسلمون في العصر الحديث

وقد أثار حديث الأستاذ الأكبر وأثار مقالا الأستاذ الزيات مثاراً من المقالات والمناقشات في الرسالة وفي غيرها من الصحف، وكان بعض ما نشر من ذلك فيه كثير من الشطط

وكان من أقوم ما كتب عن ذلك ما نشره صديقنا الدكتور زكي مبارك في مجلة أسبوعية على طريقته من الصيال

وقد حرك في نفسي حديث الأستاذ الأكبر ومقالا الرسالة وما نشر بسببهما من الآراء والمناقشات شوقاً لأن أكتب بعض الملاحظات عسى أن يجد فيها الأستاذ الكبير صاحب الرسالة شيئاً من الحق وشيئاً من الإفادة

ونحن اللذين تعلمنا في الأزهر وقضينا فيه خير الأشطر من شبابنا لا نفتأ نشعر بالحنين إليه ونديم التفكير فيه، مهما تباعد بيننا وبينه الأيام

يكتب الكاتبون وقول القائلون إن الأزهر الحاضر متأخر متخلف عن عصره وعن الحياة الجديدة في العالم، وأنه قديم في الفهم قديم في التفكير. ويكتب الكاتبون ويقول القائلون يطلبون أن يخرج الأزهر علماء كرجال الدين في أوربا، ثقافة ذهن، واستنارة فكر، وسعة عقل، ومرونة تفكير، ولياقة أداء ودعوة، وأن يكون طلبته على شاكلة ما يكون أندادهم في بلاد الغرب تهيؤاً واستعداداً

وهؤلاء الذين يقولون ذلك لاشك في أنهم مخلصون في أمانيهم، ولا شك في أن الأزهر لن يقوم بما يجب عليه في حياة مصر وتقدمها، وفي حياة الشرق وتقدمه، ولن يساهم بنصيبه وقسطه في توجيه الحياة الروحية والدينية والخلقية في الشرق (وأوشك أن أقول في العالم كله) - إلا إذا كان علماؤه كما يكتب الكاتبون، ويتمنى المتمنون، وكان طلبته كما يكتب الكاتبون ويتمنى المتمنون

وقد روى عالم من أكبر علماء الأزهر كلمة للمغفور له الملك فؤاد هي نبراس ما يكتبه هؤلاء ولا نشك في صوابهم فيه

روى أن الملك فؤاد حدثه بأنه يريد أن يرى علماء الأزهر كأندادهم رجال الدين في أوربا، وأن هذه أمنية من أعز أمانيه

ولكن هؤلاء الكاتبين والباحثين ينسون أن الأمنية شئ والحقيقة شئ. ويفوتهم أن المشتهي المرغوب والمتمني المطلوب شئ والأمر الواقع الذي لا مناص منه شئ

فالأزهر ليس كجامعة اللاهوت في أوربا، وعلماء الأزهر ليسوا كرجال الدين فيها، وطلبته ليسو كطلبة الجامعات أو الدراسات الدينية فيها. ولكن هذا لا دليل فيه على أن الأزهر رجعي وأنه قديم في الفهم قديم في التفكير

فإن هؤلاء الباحثين يقيسون الأزهر ورجاله وأهله على قياس أشباههم في بلاد الغرب، ويقارنون بينهم وبين رجال الدين فيه؛ ولا شك في أن هذا القياس شطط وأنه بعيد عن الحكمة وعن الصواب

فالحياة المصرية والحياة الشرقية كلها بعيدة عن الحياة الغربية: الحياة العقلية والحياة الثقافية والحياة الأدبية وكل نوع ولون من أنواع الحيوات وألوانها وشكولها، شتان بين الشرق والغرب فيها

ومن الشطط والبعد عن الإنصاف أن نفصل بين الأزهر وبين أنواع الحياة المصرية الشرقية وألوانها وأن نقارن بينه وحده وبين أوربا. بل الإنصاف يقتضينا أن نقارن بين الأزهر وبين غيره في مصر، وأن نوازن بين الحياة العقلية والحياة الذهنية والحياة الأدبية فيه، وبين هذه الحيوات في مصر

والذين يقيمون الميزان بين الأزهر وبين أوربا نقول لهم: هل يرضيكم أن نقيم الميزان بين الجامعة المصرية وجامعات أوربا؟

وأن نقيم الميزان بين المدارس في مصر والمدارس في أوربا؟ وأن نقيم الميزان بين الحياة الأدبية والذهنية والثقافية ي مصر في أي مظهر من مظاهر نشاطها وبين نظائرها وأشباهها في أوربا؟ ليقل لنا الدكتور زكي مبارك، وقد خبر الجامعة والتعليم في المدارس ويعرف كلمة الحق: هل رضي عن شئ من مظاهر الحياة العقلية الأدبية والتعليمية في هذه أو تلك؟ وليقم لنا الميزان بين هذه الجامعة وهذه المدارس، أو ليقم لنا رجال الجامعة أنفسهم والمنافحون عنها والمستطيلون بها الميزان بين الجامعة المصرية والمدارس المصرية وبين جامعات أوربا ومدارسها، ليقيموا لنا ميزان العدل وقسطاس الحق ثم ليدلونا أيها الراجح وأيها المرجوح

فالأزهر يجب أن يحدد مكانه وأن يوزن نشاطه وأن تقوم المقارنة بينه وبين غيره في مصر، لأنه جزء منها ولا يستطيع أن يسير وحده ولا أن يتقدم وحده ولا أن يسبق في جيش من المتخلفين، والحياة الاجتماعية كعربة ذات عجلات أربع، الأزهر واحدة منها، ولا يمكن أن تسير عجلة من العربة فتسبق، ولو كان ذلك لما استقامت العربة في سير ولا حركة، أو هي كالكائن الحي لا يمكن أن يسبق منه عضو عضواً في النماء والحياة، وإلا كان الكائن الحي كله منتهياً إلى الهلاك والموت أو للتشويه والنقص.

فإذا أقمنا بعد ذلك الميزان بين الأزهر وبين غيره في مصر والشرق، وإذا وازنا بين الحياة الثقافية والذهنية والتعليمية فيه وبين ذلك كله في غير الأزهر من المعاهد في مصر والشرق؛ فعند ذلك يستقيم الميزان ولا نكون قد بعدنا عن الشريعة الإنصاف؛ وعند ذلك أيضاً لا نظن أن الأزهر كفته تشيل، ولا أن كفة غيره تميل، ولا أن يكون غيره الراجح وأنه المرجوح.

ومن الإنصاف أيضاً أن نقارن بين الأزهر الجديد وبين الأزهر في الماضي، حتى القريب منه، وقد أشار الشيخ الأكبر إلى هذه الملاحظة في حديثه للرسالة وفي غيره، وهي مقارنة لا تحتاج إلى كثير من الكلام

ومن العنت أن نهمل التراث الزمني والتقاليد القاسية عندما نتكلم عن تطور معهد هو بطبيعته ركن الأركان في التقاليد، بل هو الركيزة التي تثبت فيها الحياة العامة كلها فلا تنحرف ولا يجرفها التيار القوي من مغريات التجديد والاندفاع

ولا نريد بعد ذلك أن نقول إن الأزهر عظيم عظيم، ولا إنه يقوم بواجبه، ولا إن التفكير فيه والحياة الذهنية فيه والتعليم فيه مما تغتبط به النفس وينشرح له الصدر ويبشر بمستقبل الخير. لا نقول ذلك ولا شيئاً منه؛ ولكنا نقول إلى جانب هذا إن الجامعة المصرية والمدارس الحكومية، وإن الحياة الذهنية والحياة العقلية والحياة الأدبية في مصر والشرق، ليست مما تغبط به النفس وينشرح له الصدر ويبشر بمستقبل الخير ما دام هذا الحال، ونريد أن نتمنى بعد ذلك ما تمناه الملك فؤاد لرجال الأزهر ومساواتهم بأندادهم رجال الدين في أوربا، ونزيد على أمانيه التمني بأن تستوي الحياة المصرية كلها والحياة الشرقية، وأن يتساوى الشعب المصري والشرق بهذه الأمم ذوات السيادة في الغرب وأن نكون لهم أنداداً في حياتنا كلها وفي نشاطنا كله

وفي حديث الأستاذ الأكبر و (تصحيح) صديقنا الدكتور زكي مبارك له، موضوع آخر نترك الكلام عنه إلى عدد قادم من (الرسالة) فقد طال بنا اليوم الحديث.

محمود الشرقاوي

عالم من الأزهر