مجلة الرسالة/العدد 358/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 358/من وراء المنظار
صاحب الديوان المجد
مجد في عمله، لا يعرف في جده هوادة؛ فإذا رأيته يقرأ جريدة من الجرائد أو مجلة من المجلات؛ فمن أعظم التجني عليه أن تحمل عمله هذا على أنه مضيعة للوقت في غير جدوى، فما هو إلا استجمام لابد منه لمن يعاني مثل عنائه المتصل؛ وإذا رايته يبدأ عمله عند العاشرة أو في منتصف الحادية عشرة، فاعلم أن ذلك من أثر إجهاده نفسه وتحامله على أعصابه في اليوم السالف، لا شئ غير ذلك؛ وإذا رأيته يتزاور عن مكتبه، فيحرق دخينة في إثر دخينة، أو يرتشف القهوة في هدوء وسكون، ويقضي في ذلك ساعة أو بعض ساعة، فترفق بهذا الجسم الذي أنهكه الجهد، ولا تأثم فتظن بصاحبه الظنون
وصاحب الديوان هذا لا يطيق أن يرى وجوه الناس، فإذا أبصر أحدهم مقبلاً، أحس كأنما عليه مكروه من مكاره الزمن فيلقاه متأففاً متبرماً، وإنه ليتمتم حين يراه بألفاظ لا أدري أيسوقها ضد القادم الكريم، أم ضد الزمن اللئيم الذي وضعه حيث يستقبل هؤلاء الذين يصرفونه عما هو فيه من جد لا يعرف معه هوادة؟!
دخلت عليه ذات يوم قبيل العاشرة، فرأيته لسوء حظي أو لحسن حظي - لست أدري أيهما الصواب - يترك مكتبه ليغادر الحجرة إلى حيث لا أعلم من الحجرات أو من الجهات؛ فحاولت أن أستوقفه مترفقاً، فاستمهلني دقيقة واحدة وهو عابس ثم ازور عني في حركة سريعة خيل إلي معها أنه يخشى أن أرجعه بالقوة إلى مكتبه!
ولبثت أنتظره في مقعد تفضل به علي أحد زملائه، ومرت اللحظات ثقالاً طوالاً ولم يعد، حتى إذا يئست من رجوعه وهممت بالانصراف رأيته مقبلاً، وجاء وفتح بعض أدراج مكتبه وأغلقها ولكنه لم يأخذ منها شيئاً ولا وضع شيئاً، وفعل ذلك دون أن يجود بنظرة علي أو أن يخطر بباله أن أحداً من عباد الله ينتظره لأمر متصل بعمله ولن يؤديه سواء!
واعترضت طريقة إذ رأيته يتأهب للخروج مرة ثانية،
وما التقت أعيننا وانفرجت شفتاي في ابتسامة هادئة عن قولي: من فضلك. . . حتى أشاح بوجهه عني مقطباً قائلاً في تبرم وضيق (عن إذنك دقيقة يا أفندم). . . ومضى وإنه لضائق بثقلي وثباتي في موضعي، وخيل إلي بل لقد أيقنت أنه عقد النية على ألا يكلمني ما دمت هناك كأنه لا مفاوضة عنده هو أيضاً إلا بعد الجلاء!
وصممت من جانبي ألا أنصرف أو يكلمني، وإن أخذتني الحيرة كيف أحمله ولو على أن يلتفت إلي فضلاً عن أن يحادثني؛ ولقد كنت أرجح عودته إلا إذا غادر الديوان إلى داره وترك طربوشه حيث كان على مكتبه يحدث كل سائل عنه أنه هنا وأنه قادم بعد دقيقة، وإن تتابعت في غيابه الدقائق بل الساعات!
وجاء أخيراً فاستوى على كرسيه وفتح دفتراً كبيراً وراح ينظر فيه وعلى وجهه أمارات الجد وأمارات تجاهله وجدوي في وقت واحد ثم قطع عليه جده المصمم زميل له فأخبره أن فلاناً وفلاناً من الرؤساء استفهموا عنه، فأجاب متكلفاً عدم المبالاة أنه ما كان يلعب وأنه هلك من الجري هنا وهناك في (الأرشيف) و (المستخدمين) و (الحسابات) وتحت وفوق باحثاً عن أوراق تتصل بما في يديه من المسائل
وظللت ساكتاً لحظة، فأقبل شخص بادي الوجاهة، يطأ أرض الحجرة في صلف وينظر نظرة ذي الجاه، وفرحت إذ رأيته يتجه إلى صاحب الديوان المجد فيسأله في لهجة الآمر عن مسألة طال به انتظار الإجابة عنها؛ وتهجم له صاحب الديوان ولم يعبأ به، ولما تهدده الرجل أن يرفع الأمر إلى رئيسه، انطلق صاحب الديوان مزمجراً ونهض واقفاً يخبط المكتب بقبضة يده عدة مرات حتى لقد أشفق ذلك الرجل أن تمتد واحدة منها إلى صدره أو إلى بطنه فتراجع قليلاً، وقد تطايرت الأقلام من مكامنها، وسال المداد من المخابر، وتناثرت الأوراق، وزلزلت الدفاتر، وخشعت الأصوات في جوانب الحجرة، والتفت أصحاب الديوان يتفرجون على عاصفة جديدة كم رأوا قبلها من عواصف؛ وانطلق لسان المجد الثائر بعبارته المألوفة: (يا أفندي أنت بتهددني؟ من فضلك ما تعطلنيش يا أفندي. . . أما شئ غريب والله. روح اشتكي زي ما أنت عاوز. . . هو أنا فراش عندك؟ الواحد طول النهار هلكان من العمل وجاي حضرتك تفلقنا؟)
ولم يكن لي بعد هذا الذي رأيت إلا الجلاء بلا قيد ولا شرط، وقد أصابني من دوار العاصفة ما زعزع إيماني بقوتي، ولم لا أقرر الحق فأقول: إني منذ أن رأيت أهاويل الشر في وجه صاحب الديوان قد رضيت من الغنيمة الإياب؟
(عين)