مجلة الرسالة/العدد 359/أسلوب الرافعي وطريقته في كتابته
مجلة الرسالة/العدد 359/أسلوب الرافعي وطريقته في كتابته
للأستاذ محمود أبو رية
حمد الناس للرسالة الغراء جميل وفائها لصديقها المغفورة له (مصطفى صادق الرافعي) وشكروا لها احتفاءها بذكراه الثالثة فكتبت بمناسبتها ما كتبت، ولا ريب في أن صنيعها هذا مع إمام من أئمة الأدب إنما هو وفاء للأدب الذي وقفت نفسها على حياطته والقيام عليه
ولقد كان مما كتب في هذه الذكرى مقال بليغ لصديقنا الأستاذ سعيد العريان كان مما جاء فيه أنه قال عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعه أن يعرفه، وأن ذلك مبين في كتاب (حياة الرافعي) وفي الحق أن ما ذكره صديقنا سعيد صحيح لا ريب فيه، ولكن ذلك لم يكن شأن شيخنا الرافعي من يوم أن أمسك القلم للكتابة؛ وإنما كان ذلك في منتصف سنة 1932 فحسب، ذلك أنه لما كتب مقال (فلسفة الأدب) في صيف هذا العام أخذ يسأل أهل البصر بالأدب عن قيمة هذا المقال وبالغ في السؤال، ولما سألته عن سر اهتمامه بمعرفة آراء الأدباء فيه أجابني بخطاب تاريخه 26 يولية سنة 1932 قال:
(إنما اهتممت بمعرفة الرأي في مقال فلسفة الأدب لأني كتبته بطريقة لم تتفق لي من قبل في غيره، فإني لما أردت كتابته بعد كتابة فصل ابن الرومي انتكست فجعلت أدون ما خطر لي وقتاً بعد وقت ثم أخرجت المقالة من هذه الخواطر واختصرت كثيراً ولم أزد شيئاً. وهذه هي الطريقة التي يكتب بها كبار العلماء في أوربا، ولكن الوقت يسمعهم ولا يسعنا)
من ذلك يتبين أن الطريقة التي بينها صديقنا الأستاذ سعيد في كتابه (حياة الرافعي) عن كتابة الرافعي لمقالاته إنما كانت في صيف سنة 1932 فحسب، وكان مقال (فلسفة الأدب) أول ما كتبه بهذه الطريقة
ولقد رأيت بمناسبة القول في طريقة كتابة شيخنا الرافعي وأسلوبه أن أوافي قراء الرسالة بما قاله هو عن أسلوبه عندما سأله العالم الجليل يعقوب صروف: لم لا يكتب بلغة سهلة يفهمها كل الناس كما كتب في (تاريخ آداب العرب)
(. . . تمنيتم لو جريت في إنشائي كله مجرى أسلوبي في (تاريخ آداب العرب) ومقالاتي الأخرى، ولوددت والله أن أرفه عن نفسي، وأطرح عني الكد فيما عالجته من أسلوب: حديث القمر والمساكين ورسائل الأحزان والسحاب الأحمر؛ ولكني أجدني كالمسخ ذلك لقوة تساورني في أوقاتها وتهب عليّ كالريح من سكون وركود، فلم أفكر قط في كتاب من هذه الكتب، ولكن تقع الحادثة، فيجئ بها الكتاب، ثم أرى من بعد صوته وتعلق المتأدبين به ما لم أكن أقدر بعضه وتنتهي إلى آراء مشيخة الأدب وطلابه؛ فإذا هم لا يعدلون بهذا الأسلوب شيئاً في نسقه وألفاظه ومعانيه، ثم لا يعيبه إلا من قصر عنه وشق عليه النزوع فيه وكابر في الإقرار بعجزه، فذهب يلتمس المعاذير والمعايب، وأخذ في ذلك مأخذ فرعون إذ جاءته امرأة فقيرة كانت هي وأطفالها يعيشون على دَرَّ (عنزة) لهم، فماتت، فأقبلت المسكينة بها على هذا الذي يدعي الألوهية ويقول أنا ربكم الأعلى وسألته أن يحييها، فاعتذر بأن في السموات أعمالاً كثيرة أكبر من العنزة. . .
أرى المتأدبين يعرفون لهذا الأسلوب ما يعرفه رجال التربية والتعليم من أساليب إنشاء التصوير وإرهاف الذهن وتدقيق الخيال وقوة الطبع اللغوي وصقله وإدارة الحس عليه. ثم هم يقولون إن موضعه من هذا الكلام الخنث المتهالك الذي ترمي به الأقلام المريضة في هذا العصر موضع الفحولة التي لا بد منها في الخليقة لإيجاد القوة التي لا تكون إلا بالفحولة وإشعار الهيبة التي لا تكون إلا بالقوة. فنحن في زمن كل كاتب فيه قادر على أن يرسل مداده، يمطر وحلاً لغوياً، حتى كل من يعرف القراءة هو كاتب إن صحح أو أفسد، وإن أصاب أو أخطأ، وإن أخذ اللغة والكتابة عن معجماتها ودواوينها ومدارسها، أو أخذها من الروايات والجرائد والأسواق
يقولون هذا ويضيفون إليه أن الفصاحة العربية كادت تنقطع أمثلتها العليا، وأنه لم يعد يكمل أحد في صناعة الكلام وأن زمننا هذا حين ينقلب إلى مرآة التاريخ فينظر فيها، سيرى وجهه متورماً مخدشاً مضمداً ملفوفاً بالجرائد. . . وليس عليه سِمَة جمال ولا فيه من الأدب منظر قوة، وأن اللغة أصبحت أشبه بالبيت المتداعي الذي يريد أن ينقض لا تسمع من أهله ولا من جيرانه ولا من السابلة في طريقة إلا (هدوا هدوا إلى الأساس)
عَلمِ الله يا سيدي الشيخ أني ما كنت أصبر على مصيبة البلاغة. . . لولا ثقتي بأجرها ولولا استئناسي إلى المعزين فيها، وهم جمهور أهل الأدب إلا قليلاً يعزيني بأسلوب آخر يضحكني أحياناً
أما هذا الذي يسمونه غموضاً وتدقيقاً فما أنا بصاحبه ولا العامل فيه، ولكنه طور من أطوار الزمن لا بد أن يسبق نهضته التجديد كما سبقها من قبل. فلقد كانوا يصفون به سيدي شعراء العربية قاطبة أبا تمام والمتنبي، حتى قالوا في أبي تمتم إنه أفسد الكلام وأحاله وعقده بتعمله وصناعته، وإنه أتعب الناس حتى صار استخرج معانياً باباً منفرداً في الأدب ينتسب إليه طائفة من العلماء، وإن أعرابياً سمع قصيدته التي مطلعها: طَلَلَ الجميع. فقال: إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا افهمها، فإما أن يكون قائلها اشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه. وهذه شهادة بأنه اشعر من جميع الناس ولا ريب إذ يستحيل أن يصح الشق الآخر. ثم كان جمع من كبار الرواة يتعصبون عليه كابن الأعرابي والرياشي وغيرهما، بل قد بلغ من تعصب الرياشي عليه وعلى البحتري أن قلَّت نسخ ديوانهما بالبصرة في زمنه لزهد الناس فيهما. ولقي المتنبي شرا مما لقي أستاذه ومثله الأعلى الذي يقلده ويحتذي عليه! ومع ذلك انحدر الشعر كله في طريقتهما إلى عصرنا هذا
ولقد كان المتنبي خَمُلَ اسمه ومُحي من لوح الزمن لو كان يعيب البلاغة عيب يكون معها. فقد قال فيه الإمام العسكري: لا أعرف أحداً كان يتتبع العيوب فيأتيها غير مكترث إلا المتنبي، فإنه ضمن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئاً منها. قلنا ولكن جميع عيوب الكلام (بهذا الحصر) لم تزد على أن كانت من أقوى الأسباب في تخليد حسنات الرجل
إن أرفع منازل البلاغة العربية، كما قالوا، أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ولا يبلغ هذه المنزلة أحد فيحكمها ويعطيها حقها من التمييز إلا جعلته الأقدار وسيلة من وسائل حفظ البلاغة يتسلم الزمن ويسلم، بل قل بالألفاظ الصريحة المكشوفة: يتسلم لغة القرآن ويسلمها. فأما أسلوب واحد وطريقة واحدة فهذا في قوة كل كاتب على تفاوت فيه، ولن يكون الرجل حق رجل إلا إذا كان له مع الظرف واللين والدماثة حديداً من العضلات وفولاذاً من العظام، فإن لم يكن إلا اللين محضاً والاسترسال خالصاً فهذا أصلحك الله شيء سَّمه ما شئت إلا أن تقول إنه رجولة. فإذا لم يبلغ كل الناس ولا أكثرهم هذه المنزلة فذلك أخرى أن يعد في محاسن من يبلغها لا في معايبه
ألا لا يحسبن أحد أن الفصاحة العربية هالكة بحياة طائفة من مرّضى القلوب كهؤلاء الكتاب الذين يعملون جهدهم في إفسادهم، فهم مهما كثروا تنتظرهم قبور بعددهم. وفي هذه البلاغة العربية خاصة ينبغ الكاتب الواحد في عصر من عصور الضعف. فإذا ألف كاتب يتساقطن حوله، وإذا الكاتب كان سنة من سنن الكون تضرب ضرباتها بالقضاء والقدر)
هذا هو قول شيخنا الرافعي من خطة عن أسلوبه وطريقته في كتابته نقلته للرسالة وهي أحق به ليعرف الناس هذه الطريقة من قوله هو ويكونوا على بينة من ذلك. ولعل فيما نقلناه إيضاحاً لناحية من دراسة أسلوبه وبياناً لجانب من ترجمته رحمه الله.
محمود أبو ريه