مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1940



في عالم الأمواج

للدكتور محمد محمود غالي

سبر العلماء لمراحل الإشعاع - طول الموجة وعدد الذبذبات - من الموجات اللاسلكية إلى الأشعة النافذة - أشعة الموت - الأشعة السينية وعمل (لاويه) - الضوء والكهرباء وأنواع كونية واحدة

حدثنا القارئ عن الموجات الكهربائية التي نستخدمها في الاستماع إلى الإذاعة اللاسلكية، وعن الموجات الضوئية التي نرى بها صورة الأشياء وذكرنا عقيدة (هرتز من أنها أمواج واحدة لا يتميز فريق منها عن الآخر إلا باختلاف أطوالها، فهي كأهل مدينة كبيرة بينهم من هو طويل القامة ومن هو قصيرها؛ كلهم من البشر ويمثلون جنساً واحداً ولكن يتحتم أن يوجد بينهم الطويل والقصير

ونذكر الآن أنه كان للمصادفة شأن هام في كشف (هرتز) لوحدة هذه الأمواج، ذلك أنه أراد أن يعرف ما إذا كانت للأمواج الكهربائية خواص الأمواج الضوئية كخاصية الانعكاس مثلاً، وتصادف أنه استخدم أمواجاً قصيرة طول موجتها بضعة أمتار فكان هذا الاختيار سبباً في نجاح تجاربه وفي نجاح نظريته الضوئية في الكهرباء، إننا لا نستطيع اليوم أن نعكس أمواج الراديو على مرآة لسبب واحد هو عدم استطاعتنا أن نصنع مرآة كبيرة تتناسب وأطوال الأمواج التي نستخدمها الآن، ولم نستخدم في الإذاعة الأمواج القصيرة إلا في العهد الأخير، وهي الأمواج التي أمكن عكسها بواسطة شبكة سلكية بدل المرآة، وليس ثمة شك في أن اختيار (هرتز) لنوع معين من الأمواج كان توفيقاً نحمد الظروف عليه، فقد تقدمت بذلك العلوم خطوة كبرى إلى الأمام

ولا نود أن نذكر للقارئ كلمة أمواج دون أن يتابعنا في المعنى المراد من هذه الكلمة ونعيد عليه أن الأمواج التي نعرفها في الظواهر المختلفة تنقسم إلى أمواج طولية وأمواج مستعرضة، وتعتبر الأمواج الضوئية والأمواج الكهربائية من النوع الأخير فهي أمواج مستعرضة، ومعنى ذلك أن الذبذبات تحدث عمودية على الخط الضوئي أو الكهربائي الواصل من المنبع إلى مكان وصول الشعاع، ويسمون طول الموجة المسافة الواقعة بين قمتين للأوضاع المختلفة التي تأخذها نقطتان تتذبذبان على هذا الخط، ويحسن بالقارئ لكي يتخيل طول الموجة أن يتصور تلك الأمواج التي تحدث على سطح الماء فإنها هي أيضاً من النوع المستعرض، وطول الموجة بالتعريف هو المسافة الواقعة بين قمة الماء عند مكان معين والقمة التي تليها، وهذه المسافة في حالة أمواج الماء تبلغ مثلاً متراً أو أثنين ولكنها تبلغ في الأمواج الكهربائية الطويلة من 200 إلى 2000 متر وفق طول الموجة التي تتخيرها محطة الإذاعة

وينبغي ونحن نتكلم عن طول الموجة أن نذكر للقارئ شيئاً عما يسمونه عدد الذبذبات. فثمة علاقة بين سرعة الضوء وطول موجته وعدد الذبذبات الحادثة، ذلك أن سرعة الضوء تساوي عدد الذبذبات مضروباً في طول الموجة فبمعرفة سرعة الضوء يمكننا إيجاد عدد الذبذبات إذا عرفنا طول الموجة أو نعرف طول الموجة من عدد الذبذبات، وما يقال عن الضوء يقال عن الكهرباء لأننا نعرف أن سرعتهما واحدة

فإذا رمزنا بالحرف ع لسرعة الضوء وم لطول الموجة وز للفترة التي تستغرقها الذبذبة الواحدة

فإن السرعة ع=زم

وإذا رمزنا بالحرف ن للتردد أي لعدد الذبذبات الحادثة في

الثانية الواحدة فإنه من الواضح أن ن=ز1

أي أن ع=م ن

ومعنى ذلك أن سرعة الضوء أو الكهرباء تساوي طول الموجة مضروباً في عدد الذبذبات في الثانية

وعلى ذلك، فإننا نميز الظواهر الضوئية والكهربائية على السواء إما من طول الموجة أو من عدد الذبذبات الحادثة في وحدة الزمن وهي الثانية، ويبلغ عدد الذبذبات في حالة الأمواج الطويلة المستخدمة في الراديو الملايين في الثانية الواحدة، ويزيد هذا العدد وفق القانون المتقدم كلما كانت الأمواج قصيرة

أما الأمواج الضوئية فتختلف في أطوالها وبالتالي في عدد ذبذباتها عن الأمواج الكهربائية رغم تماثل طبيعتها، فبينما

تبلغ أطوال الأخيرة في كثير من الأمواج التي نستمع

بواسطتها للإذاعة بضعة كيلو مترات ويبلغ وترددها الملايين،

فإن أمواج الضوء المرئي تختلف أطوالها من 100008 من

المليمتر للضوء الأحمر إلى 100004 من المليمتر الضوء

البنفسجي ويبلغ ترددها ألتريليونات من الذبذبات في الثانية

الواحدة

ومن السهل على القارئ أن يحسب عدد الذبذبات الحادثة عند

نقطة معينة من شعاع مرئي معتبر بين الأشعة الحمراء

والأشعة البنفسجية وليكن طول موجة هذا الشعاع 100006

من المليمتر ويمثل في الواقع اللون الأصفر المائل إلى

البرتقالي

فمن المعروف مما تقدم أن سرعة الضوء تساوي طول الموجة مضروباً في عدد الذبذبات أي أن عدد الذبذبات يساوي سرعة الضوء مقسوماً على طول الموجة

ولكن سرعة الضوء تساوي 300 ألف كيلو متر في الثانية أي تساوي:

300. 000 1000 1000مليمتر

ومن ثمَّ يكون عدد الذبذبات يساوي 300. 000 1000 1000

مقسوماً على 100006 أي يساوي 500 مليون المليون من

الذبذبات في الثانية وإن نظرنا إلى مجموعة الأشعة التي نعرفها الآن الكهربائية كانت أم ضوئية لوجدنا أن أسهل مراحلها في الدراسة هو الأشعة المرئية التي ذكرنا أطوال أمواجها، ولقد استخدم (نيوتن) وغيره أبسط الأجهزة ليقوم بتحليل أشعة الشمس أو عكسها أو كسرها، وتسنى له بابسط الوسائل أن يجوب هذه الدار من مراحل الإشعاع، وزودنا باستخدام أشعة الشمس وبثقب كان في نافذة معمله ومنشور من الزجاج ينصف علم الضوئيات الذي نعرفه اليوم، ولكن لم تكن معرفة ما بعد الأشعة المرئية وما قبلها من الإشعاع بالشيء الهين إذ تطلب ذلك أبحاثاً طويلة ما زالت قائمة حتى اليوم، ولا يتسع هذا المجال لنذكر الوسائل الطبيعية المختلفة والأجهزة المعقدة التي استخدمها الإنسان للتوصل إلى معرفة مراحل الإشعاع المختلفة، فمادة الكوارتز حلت محل الزجاج كما حل اللوح الفوتغرافي والترمومتر وغيره من الوسائل محل العين لمعرفة وجود الأشعة، وكان لهذه الأجهزة شأن كبير في الكشف عن مراحل الإشعاع وقياس سلسلة الأمواج المختلفة التي تبدأ من أشعة الراديو التي تجهلها حواسنا وتنتهي بالأشعة النافذة أو الكونية التي لا تشعر بها هذه الحواس رغم مقدرتها على اختراق ما سمكه عشرة أمتار من الرصاص، وهكذا كشف العلماء عن مراحل الإشعاع التي تقع في منتصفها هذه المنطقة المحدودة، والضيقة من الأشعة المرئية، وهكذا تعرف العلماء على أنواع الإشعاع لمختلف الأمواج كما عرفوا أن سرعة الأشعة الكهربائية هي سرعة الأشعة الضوئية، وأن طبيعة الشعاعين واحدة

على أننا نقسم الأشعة التي نعرفها في الكون إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول من الأشعة غير المرئية تبدأ من الأمواج الهرتزية أو اللاسلكية وتنتهي بالأشعة تحت الحمراء

القسم الثاني الأشعة المرئية وتبدأ بالأشعة الحمراء وتنتهي بالأشعة البنفسجية

القسم الثالث: وهو الطرف الآخر من الأمواج غير المرئية وتبدأ من الأشعة فوق البنفسجية وتنتهي على حد ما بلغنا إليه اليوم بالأشعة النافذة والأشعة الكونية، وهي أغرب ما نعرفه من الإشعاعات

ولم يكن التعرف على مراحل الإشعاع نتيجة لتتبع منتظم لأطوال الأمواج المختلفة والبحث عن الأطوال غير المعروفة بين الأطوال التي نعرفها، لأن سبيل تقدير هذه الأطوال وقياس التردد سبيل وعر ألجأ العلماء في كل مرحلة إلى فن خاص يختلف عن الفن المتبع في المرحلة القريبة منها. إنما كان التعرف على الإشعاع سابقاً في العادة لدراسة خواص الإشعاع من طول موجته أو تردده أو خواصه الطبيعية، وكان التعرف على الإشعاع في كثير من الأحيان نتيجة لمصادفات علمية موفقة، وقد ضربنا للقارئ مثلاً بكشف (بكارل) لأشعة الإيرانيوم، ولولا أنه ترك غير عامد قطعة من الإيرانيوم في أحد أدراج مكتبه على لوح فوتغرافي، ولولا أنه لاحظ بعد ذلك على هذا اللوح أثر مطبوعاً يدل على شكل هذه القطعة من الإيرانيون لتعذرت على الإنسان معرفة هذه المرحلة من الإشعاع المادي، ولما كشف الإنسان بعده إشعاع الراديوم العجيب

وليس المجال هنا لنعرف خواص الإشعاع المختلفة، وما زال الإنسان دائباً وراء توسع معارفه في استخدام الأشعة في أغراضه، ففي الناحية الأولى ومن الأشعة غير المرئية التي تبدأ من الأمواج الهرتزية وتنتهي بالأشعة تحت الحمراء استخدام الإنسان مرحلة من هذه الأشعة في الإذاعة، وهو ما زال يسعى لمعرفة المرحلة الأخرى من هذه الأشعة، وقد عثرنا في كتاب لريشنباخ على أن الأشعة التي طول موجاتها من ثلاثة أمتار إلى خمسة تقتل بعض الحيوانات الصغيرة كالفيران وبعض الحشرات، ولاشك في أن ثمة أبحاث موجودة خاصة بهذا الموضوع لم تتح لنا فرصة الاطلاع عليها. ولعل هذه الملاحظة الخاصة بالحيوان والحشرات سبب جعل فريقاً من الناس يتحدث أحياناً عن استخدام الإنسان يوماً لما يسمونه الأشعة القاتلة التي أطلق عليها البعض أشعة أو أشعة الموت، وليس في هذا الحديث إذن من سخف شديد ما دام أن هناك مرحلة من مراحل الإشعاع لها هذا الأثر على الحيوان الصغير، ومع ذلك فإننا لا نعرف حتى الآن أشعة قاتلة للإنسان سهلة الوجود والاستخدام، وهو الكائن الذي تخترقه في النهار يتبعه الليل كل أنواع الأشعة من أشعة الراديو الطويلة التي يبلغ طول موجاتها بضعة كيلو مترات إلى أشعة الشمس المرئية وغير المرئية إلى الأشعة الكونية الخارقة، وطول موجاتها أجزاء من ملايين ملايين المليمترات، ويعيش الإنسان تحت كل هذه الأنواع من الإشعاعات المختلفة، يروح جيئة وذهاباً، ينعم بالشباب بعد الطفولة، ويتألم من الشيخوخة بعد الرجولة، ويأخذ قسطاً وافراً من الحياة يلجأ خلالها إلى هذه الأشعة في مراحلها المختلفة يستخدمها في الإذاعة وفي نقل الصور الفوتغرافية باللاسلكي وفي التليفزيون، ونأمل أن نستخدمها بطريقة عملية قريباً فيما نسميه (التحليل عن بعد)، بل يستخدمها الإنسان في العلاج دون أن يناله في كل ذلك أثر مميت، ولو أننا صعدنا اليوم الدرج إلى عيادة أحد الأطباء المشتغلين بالأشعة وفي جسمنا ألم فإنه يستطيع بين لحظة وأخرى أن يعطينا صورة واضحة لجزء دفين من أجسامنا وذلك باستخدام مرحلة من مراحل الأشعة التي لا نراها بالعين، وهي الأشعة السينية

فيمكننا أن نرى مثلاً حصوة في الكلى يجب استئصالها أو نعلم مثلاً أن وراء هذا الضرس خراجاً هو سبب مباشر لورم معين، وهكذا أخذ بعض الكشوف العلمية الكبرى مرحلته التجارية، فأصبح له أجهزة تباع في الأسواق يستخدمها الإخصائيون، وأصبحت بذلك نفعاً للبشر

ولقد كانت معرفة أطوال الأمواج من المسائل العلمية في كثير العويصة في كثير من هذه المراحل، وأننا نذكر للقارئ على سبيل المثال كيف عرف العلماء طول موجة الأشعة السينية المتقدمة؛ فلقد كانت ظاهرة الحيود الضوئية التي سبق أن تحدثنا عنها، والتي قامت دليلاً على أن الضوء ظاهرة موجية، بل قامت دليلاً على النظرية الحدَيثَّة، من الظواهر التي استخدمها الباحثون لمعرفة أطوال الأمواج الضوئية في جزء هام من مراحل الإشعاع، على أن هذه الظاهرة بذاتها لم تعد تصلح سبيلاً لدراسة الأشعة السينية، إذ أن أطوال أمواج هذه الأشعة من الصغر بحيث أن أية فتحة نعمد إلى صنعها في معاملنا مهما صَغرَت تعتبر كبيرة بنسبة موجة الأشعة السينية، فلا تصلح لترى بواسطتها ظاهرة الحيود اللازمة لنا لدراسة هذه الأشعة

ولكن العالم الكبير (ماكس لاويه) استطاع أن يعرف بهذه الظاهرة طول الموجة السينية، ويحصل على أشكال بديعة ناتجة من ظاهرة الحيود المتقدمة، مستخدماً فيها تلك الأشعة، وذلك باللجوء إلى البلورات، فهذه تتكون في الواقع من جزيئات موضوعة في ترتيب خاص، ومرصوصة بطريقة يوجد بينها هذه الثقوب الصغيرة التي لا نستطيع بوسائلنا الحصول على ثقوب في صِغرها، وهي فتحات تصلح مصادفة لاستخدام الأشعة السينية، وبذلك كان يجمع (لاويه) الأشعة السينية بعد احتراقها البلورة ويجعلها تقع على لوح فوتغرافي فتُحْدِث فيه بقَعاً سوداء منظمة تنظيماً عجيباً وجميلاً. ولقد كنا نود أن نعطي للقارئ إحدى هذه الصور البديعة فلم نعثر على واحدة منها اليوم؛ وبدراسة رياضية عميقة استنتج (لاويه) طول موجة الأشعة السينية التي لا تراها العين والتي لا تحدث ظاهرة الحيود في تجاربنا العادية

وإذا كانت أطوال أمواج الأشعة السينية من المجموعة التي نعتبرها قصيرة القامة، فإن أطوال أمواج أشعة الراديوم أقصر منها بكثير؛ وليس المجال هنا لنذكر الطرق المختلفة لتحديد هذه الأمواج وتحديد التردد

على أن أقصر الأمواج هو ما نصادفه في الأشعة الكونية أو الخارقة، وقد سبق أن تحدثنا عنها بإسهاب، وهذه تصل إلينا من جهات من الكون لا نعرفها وبسبب عمليات طبيعية لا نعرف الأصل فيها، وهذه الجهات بعيدة بلا شك كل البعد عن مجموعتنا الشمسية، إذ لا علاقة هناك بين شدة هذه الأشعة وبين وضع الأرض بالنسبة للشمس، فأمريكا تلقي منها بقدر ما نلقاه في اللحظة ذاتها في رابعة النهار، ويبلغ طول موجتها واحداً على تريليون من المليمتر

وهكذا تمتد مجموعة التموجات فتشمل كلها مجموعة واحدة كهربائية كانت هذه التموجات أو ضوئية، ولا تشعر أجسامنا ولا تلمح عيوننا إلا جزءاً يسيراً منها، بينما امتدت أجهزتنا وامتد ذكاء الإنسان للكشف عن هذه السلسة غير المحدودة من طرفي الإشعاع والأمواج، الأمواج الطويلة في طرف والقصيرة في الطرف الآخر

لقد طوح بنا الحديث في مراحل الإشعاع بعيداً عن مسائل كان في برنامجنا أن نذكرها للقارئ اليوم، ولكن الحديث ذاته يسوقنا إلى موضوعات أخرى، بعضها من صميم الخيال، وبعضها في أعماق الحقيقة، وعن هذه المسائل سيكون حديثنا القادم

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية.

ليسانس العلوم الحرة.

دبلوم المهندسخانه