مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 359/رسالة الفن
بواطن وظواهر
عندنا فنانون. . . ولكن!
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
5 - من الموسيقيين
مصطفى بك رضا
الفنان المصري الوحيد الذي له تمثال منصوب في معهد رسمي من معاهد الحكومة. فهل الحكومة تسمع من الموسيقى ما لا نسمعه نحن الرعية؟ وهل سمعت الحكومة فيما سمعت من هذه الموسيقى شيئاً لمصطفى بك رضا لم تستطع أن تمسك نفسها معه دون أن تقيم له تمثالاً في حياته مع أن هذا أمر شاذ جداً يكاد يكون منقطع النظر. . . فإذا كان الأمر كذلك فأين هي يا حكومة هذه الموسيقى التي ينتسب مصطفى بك رضا إلى الفن بها؟ ألم يكن الأجدر بها أن تكون أول ما تكون في ذلك المعهد الرسمي الذي أقيم تمثال مصطفى بك رضا فيه؟ ليس في ذلك المعهد شيء من مصطفى بك رضا إلا التمثال، فهل هذا التمثال يغني في وقت من الليل أو النهار لا يعرفه أحد غير الحكومة، فتذهب إليه في ذلك الوقت تسمع غناءه في استخفاء ضناً منها به أن تختلس آذان الشعب منه آهة، أو تنال أفئدة الشعب منه تنهيدة؟ فهنيئاً إذن للحكومة!. . .
أو قل هنيئاً لمصطفى بك رضا، وأعلم أنه كما استطاع لنفسه أن يقيم تمثالاً في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية من غير أن يكون له في الموسيقى إلا أنه يعرف أن يعزف بعض المحفوظات على القانون. . . فإنه يستطيع كذلك أن يقيم لك تمثالاً في كلية الآداب مثلاً إذا ثبت لديه أنك تفك الخط فقط لا أكثر ولا أقل. . . فإذا كانت لك رغبة كهذه فها هو ذا عندك ملء الدنيا كلها فاتفق معه على الأسلوب، إنك تجده فيما بين المعهد، ومحطة الإذاعة، ووزارة الأوقاف، ومسجد السيدة نفسية. . . ومهما ينصحك بشيء فاعمل بنصائحه حتى لو رأيت نفسك ستضحي في البدء بالقليل أو الكثير، فالرجل لا يتجه إلا إلى شيء واحد، وهو أن الآخرة خير ربحاً وأبقى كسباً الأستاذ عبد الوهاب
مسكين هو مع مصطفى بك رضا. كلما رأى موسيقاه تملأ البلد، ويغنيها الناس هنا وهناك، ورأى الحكومة مع هذا كله تنكره فلا تنزع من معهد الموسيقى تمثال مصطفى بك رضا لتقيم مكانه تمثاله هو، أو تقيم له تمثالاً مع تمثال مصطفى بك رضا - كلما رأى هذه الحال ضاق ذرعاً وعجب للموازين التي يوزن بها الناس في هذا البلد
ولقد اهتدى أخيراً إلى فكرة نفذها فارتاح بعدها واطمأن، لأنه ساوى بها مصطفى بك رضا، بل إنه وصل بها إلى حيث لا يستطيع مصطفى بك رضا أن يصل بتمثاله، ذلك أن الأستاذ عبد الوهاب أقام لنفسه تمثالاً نصفياً، ثم صوره بالسينما ولصقه في أوائل فيلم يوم سعيد فهو يعرض على الناس كلما عرض الفيلم، والفيلم كما تعرف يسافر داخل القطر وخارج القطر، فيراه الناس هنا وهناك، بينما تمثال مصطفى بك رضا لا يراه إلا الذين يزورون المعهد الموسيقي فقط
صحيح أن الناس يرون الأستاذ عبد الوهاب نفسه في الفيلم ويسمعونه، وأنه لا لزوم مع هذا إلى التمثال؟ ولكنه تنافس الموسيقيين في تشجيع إخوانهم النحاتين!
الدكتور الحفني
هو موسيقي من نوعي أنا، ولكنه يعلم ما لا أعلم عن تاريخ الموسيقى، وآلاتها، وأسمائها، وشتى شئونها، وهو يشبهني من حيث أنه لا ينتج شيئاً منها، وإن كان يكثر من الحديث عنها إكثاراً نال به الدكتور فيها من ألمانيا لا من هنا. . . من ألمانيا
6 - من الشعراء
الأستاذ محمد الأسمر
كان ترتيبه الأول بين حضرات الشعراء الذين تقدموا لمسابقة الأناشيد الحماسية التي عقدتها وزارة الدفاع، فنال الجائزة السنية
الأستاذ أحمد رامي
في يوم من الأيام قال في أغنية الأستاذ عبد الوهاب: تعالى نفن نفسينا غراماً ... ونخلد بين آلهة الفنون
أرتل فيك أشعاري وأصغى ... إلى ترجيعك العذب الحنون
. . . فكان شاعراً رائعاً، وهو اليوم يقول في أغنية للأستاذ عبد الوهاب أيضاً:
تنزل وادي وتطلع كوبري!
تحود مرة وبعدين دوغري!
يا وابور. . .
. . . أحترف! نجاه الله ورده شاعراً رائعاً. . . أو فليبقه الله هكذا فإن الشعر عذاب! أو فليدع الله هو بما يشاء!
الأستاذ محمود إسماعيل
الشاعر الذي لا يزال مصرياً والذي أدعوه إلى أن يغزو بإحساسه ثم بشعره نفوس الناس حتى يكون شاعراً إنسانياً. وإني وإن كنت أدعوه إلى هذا فإني أطلب منه ما يتعبه فهو لا يخالط الناس إلا ليسخر منهم، لأنه يعتقد أن الناس لا يتعارفون إلا ليسخر بعضهم من بعض، فلو ظل على هذا لظل شعره بعيداً عن الناس الذين لا يعاشرهم بنفسه فلا تشعر بهم نفسه ولا يدركهم شعره
فهل عقد العزم على أن يبقى هكذا شاعر القمح والثور والشادوف وعينيها وشفتيها وما يشبه هذا؟
إن عليه أن يدرب نفسه منذ الآن على أن تحب الناس وحياتهم رغم ما فيها؛ فهذا الذي فيها هو موضوع الشعر وموحِي أخلده، وهو شاعر
الدكتور إبراهيم ناجي
لم يكن هذا الشاعر يستطيع إلا أن يكون فناناً على أي وجه من الوجوه وفي أي فن من الفنون، فله نفس تضطرب بالبهجة والرحمة والحب، فهو على العكس من صاحبه محمود. . . بذل نفسه لكل ما حسن عنده، وإنه ليحسن عنده كل ما يرى، فهو في شعره: إما محب هاتف للحسن، وإما محب راث للحسن إذا مسه الأذى
7 - من الرسامين الأستاذ عبد السلام الشريف
عقله له أسلوب، ويده لها أسلوب؛ وأسلوب عقله يؤدي بفنه إلى مسرح العواطف الإخلاص والوداعة والرضا؛ وأغرب ما فيه هو الرضا، فهو لا يسخط على ما أعتاد أهل الفن أن يسخطوا عليه. له رسم صور الدنيا أما ذات طفلين ترضع أحدهما دون الآخر، فالراضع يرضع هادئاً لا يشغله شيء إلا الرضاعة، والآخر متبرم بهذا، ولكنه لا يزيد في تبرمه على أن يمط شفتيه. . . فلو كان الحقد يعرف قلب الأستاذ الشريف، لكان قد صبه نقمة في وجه من هذه الوجوه الثلاثة، ولكنه نثرها جميعاً بوداعة ورضا وإخلاص للحق، فالدنيا حين ترضع من ترضع من أبنائها، وحين تغفل من تغفل منهم، لا تفعل ذلك عن ميل إلى الجريمة أو الظلم وإنما هي أم، والطفل الذي يرضع. . . يرضع وهو لا يقصد أن يظلم أخاه الذي أهملته أمه، والطفل المهمل نفسه كان عند الأستاذ الشريف حكيماً يمط شفتيه إذا أهمل، صابراً راضياً مؤملاً أن يشبع أخوه وأن تعطف عليه بعد ذلك أمه
هذا هو أسلوبه العقلي
أما يده، فسريعة رشيقة خفيفة، لا ثرثرة في خطوطها ولا زحمة؛ وإنما هي أقواس تجري بها يده على الورق فتضع الحدود اللازمة لحصر الفكرة التي تريد أن تؤديها، وهو بعد ذلك يترك الناظر إلى رسومه يكمل من خياله ما كره هو أن يفصله، فيرغم بتفصيله إياه قارئه أو الناظر في صورة على أن ينحصر معه
8 - من الخطباء
الأستاذ فكري أباظة
يغيظني من هذا الرجل تبعثره، ولست أدري متى يوحد نفسه ويتجه بمواهبه إلى هدف واحد؟ هو الآن محام، وصحفي، ونائب، وهو فوق ذلك كله - كما قلت عنه مرة - أباظة؛ يتعهد بالدعاية لكل أباظة من أهله العاملين في الحياة المصرية العامة
والشيء الذي لا أشك فيه هو أن أعظم ما وهِبَهُ الأستاذ فكري هو قدرته على الخطابة، فإن له شخصية محببة ترتاح إليها النفس، وان صوتاً مدوياً تهتف له الأرض، وإن له عقلاً جارياً يسعفه بالفكرة، فان قصر عنها أسعفه بالنكتة، وإن له لساناً ليناً يطاوعه ويتدفق بأمره فلا يتعثر ولا يتوقف، وإن له إلى جانب هذا كله قلباً يكدس عليه الأستاذ فكري أثقالاً وأثقالاً من آماله المشتتة المبعثرة، ومع ذلك فإنه لا يزال ينبض تحتها حياً
الأستاذ مكرم باشا
خطيب الجماهير بلا منازع. أول ما يعمد إليه إذا وقف الخطابة هو أن يسكر سامعيه ليقول لهم بعد ذلك ما يريد، وهو يجد عنده من خمر البيان أو سحره ما يذهب بالعقول ما لم تكن راكزة ركوز الأهرام، وهو لا يدع مواقفه الخطابية للصدفة، وإنما هو يعد لها العدة إعداداً، فيكتب خطبة وينمقها، ويقطعها، ويلحنها، ويقوم أمام الناس فيلقيها فإذا هم عواصف وقتما يريد لهم أن يكونوا عواصف، وإذا هم نسائم وقتما يريد منهم أن يكونوا نسائم
الأستاذ توفيق دياب
مسرحي إلى حد كبير في خطابته. . . سمعته يوماً في مسرح البلفدير في الإسكندرية يرثى سعداً عقب وفاته، فرايته يقوم وهو بالمعطف و (التلفيعة) يشكو للجمهور المرض وعجزه عن القول، ثم تحمس قليلاً حزناً على سعد فانطلق يقول ويقول حتى فرض الجمهور أن الدم جرى في عروق الأستاذ فملأها حرارة وهنا خلع الأستاذ (التلفيعة) ومضى وحماسته تزداد، حتى استثقل الناس المعطف عليه فخلعه هو أيضاً، ثم زاد فخلع الطربوش، ثم أخذ يقفز بعد أن خف في المسرح ويضرب أرضه برجله، وأثاثه بيده حتى هم بأن يختم الخطبة فخفف من حماسته قليلاً ووضع الطربوش على رأسه، ثم خفف منها قليلاً وارتدى المعطف، ثم فتر فلف (التلفيعة) على عنقه، ثم تعيا وتراخى فما جلس حتى كان يشكو المرض في نهاية خطبته كما كان يشكوه في بدايتها، فكان ختاماً فنياً مسرحياً كما رأيت، وباهراً كما رأى الجمهور
9 - من المعلمين
الأستاذ إبراهيم مصطفى
أستاذ النحو بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. هذا المعلم وهب نفسه للنحو، وهو يحب النحو الذي أودعه نفسه لتلامذته فإذا هم يتلقونه نحواً حياً فيه روح، ولا ريب أن هذه أعجوبة من الأعاجيب، فقد كان النحو ولا يزال من أثقل علوم العربية وفنونها على النفس، ولكن الأستاذ إبراهيم مصطفى يحببه إلى النفس، لأنه لا يرجمها به رجماً، وإنما يدسه عليها دساً، فهو يعرف أن اللغة العربية مخلوق حي تطورت به الحياة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من اختلاف اللهجات وتميز كل لهجة من هذه اللهجات بميزة خاصة أو بميزات. وهو يدع هذا حتى يمسك بطرف عربي في نفوس تلامذته، ثم لا يلبث يتابع بهم مسالك هذا الطرف مرتداً إلى الأصل العربي حتى يجد تلامذته لأشد عقد النحو تعقيداً، حلاً ميسراً تهديه إليهم لغة الخطاب المتداولة الآن
ولا يمكن أن يطمع معلم للنحو في أكثر من هذا، وفي أن يؤمن من يتعلم على يديه بأن النحو العربي هو الموسيقى المنطقية للذوق العربي.
عزيز احمد فهمي