مجلة الرسالة/العدد 362/إلى أين. . .؟
مجلة الرسالة/العدد 362/إلى أين. . .؟
للأستاذ محمود محمد شاكر
جلست وصاحبي تحت جنح من الليل كأنه باز أسود قد طوى أفقاً من السماء في كهف من جناحه. وطمس هذا الليل الدامس ذلك الشعاع الذي لا يزال يبرق به وجه صاحبي كلما سكن ظاهره واطمأن. . . وبقيت نفسه من وراء ذلك السكون الوديع تتوقد بأفكارها المشتعلة، وترسل لهيبها يتلألأ على محياه ويتموج. وكان إحساسنا بمعنى الغارة الجوية، يثير النفس ثم يجثم عليها متثاقلاً بوطأته، فلا هو يجعلنا نثور فيخف ما نجد من ثقلته، ولا هو يتركنا نهدأ.
وبقي صاحبي صامتاً لا يتكلم، ولكني كنت أكاد أجد الألفاظ والمعاني وهي تعترك في داخله وتتشاجر. أما إني ما رأيته - أو قل ما أحسسته - كاليوم. لقد كان كالعاصفة من اللهيب مكفوفة في محيطها، تدور وتتراكض، وكان هو هذا المحيط. لقد رحمته حتى كدت مرات أقوم إليه أضع يدي على رأسه، أقول: ذلك مما يخفض عنه بعض ما يغتلي فيه من سعير الفكر. ولكني كنت أهاب أن أشعره أني قد نفذت إلى بعض أسراره التي يريد كتمانها. فسكت معه ساعة أحتال في خواطري لفض هذه الإغلاق التي يضربها على ضمير نفسه، فلست أشك أن بعض الحديث إذا أشتكى خفف وأراح.
لم تكن لي حيلة معه، ولكن طول الصمت بيني وبينه في ظل هذا الليل الأسود كان هو مفتاح هذه الأقفال الكثيرة. وكان الحجاب الذي أسدله دجى الليل هو الحيلة التي جعلته يقلق ويتململ في مجلسه يريد أن يستكتمني وهذا الليل سرّاً من القدر.
ثم سكت سكتة ظننت معها أن أنفاسه قد أبت عليه أن يتنفس بها. لقد كان يجاهد نفسه: كان هو يأبى أن يتكلم، وكان الذي يجده في صدره من الضيق يأبى عليه إلا أن يتكلم. كان نزاعاً هائلاً بين قوتين متحاربتين صارمتين عنيدتين متكافئتين؛ لقد أثبته ذلك حتى كاد يتمزق. أني لأحس بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتين القوتين في تنازعهما. ومضت الدقائق وأنا أعدها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصديق البائس المحطم، والذي يأبى عليه عناده إلا أن يتجلد ولكنه ما لبث أن شق كثافة هذا الصمت المبهم بكلمة ضربت فيه:
لست أدري!! لست أدري!!
لقد سمعت لكلماته في أذني صليلاً كما يصل الحجر الصلد على ضربة معول من الحديد الصلب. لقد بغتني بصليلها حتى نسيت أفكاري فيه منذ أول الليل. ولكني سرعان ما اجتمعت لحديثه وأردت أن أحتال للتخفيف عنه ما استطعت، فقلت: وكأني أعلم خبئ ما يشير إليه:
كلنا ليس يدري. وهذه هي الحياة. إنك لا تستطيع أن تعرف الحقيقة حتى تخوض إليها الباطل خوضاً. إن الشك هو أعظم أعمال النفس الإنسانية، فإذا ما أبتُلى به الإنسان فهو بين نهايتين: بين أن يهتدي فيلحق بالذروة فيستوي على عرش من عروش الحكمة، وبين أن يضل ويتزايل فيتدهْدى على هذه الصخور الفكرية العاتية فيتحطم. وأيُّ ذلك كان، فالمسألة كلها قدر محتوم يا صديقي! رُفعت الأقلام وجفَّت الكتب.
لقد رأيت شرارتين تتطايران من عينيه في جوف هذا الظلام، ولكأني اقتدحت بكلماتي من النار التي تكمن في تلك الصخرة الفكرية الململمة التي انطوت عليها ضلوع هذا الصديق المسكين. . .
ثم رأيته يرتد مرة أخرى إلى صمته وصراعه، ولكني كنت أشعر به وهو يلين ويتخشع من كل ناحية. لقد كان هذا الصديق قاسياً عنيفاً، ولكنه كان رقيقاً أيضاً. وكان صبوراً، ولكنه ربما استكان للجزع. وكان مستوحشاً آبداً، ولكنه ربما ألف وطاوع وانقاد، وكأنه لم يجمح مرة. وكان راسخاً شامخاً وطيد الإيمان، ولكني كنت أنفذ إليه أحياناً فأجد الزلزلة التي في قلبه قد جعلته يتزعزع ويتطامن ويضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره:
لست أدري! ولكني أريد أن أحدثك، أريد أن أنبذ إليك من القول لتشركني في بعض الفكر. . .
ثم سكت وسكن، ولكنه أقبل علي وقد جمع أطراف نفسه المبعثرة، يقول:
. . . كانا صغيرين، وكانت أيامهما الصغيرة لا تدرك معنى النظرات التي تلتقي فتتعانق، فتتعقد عقدة لا تحل. وهكذا نسيهما الزمن في معبده الآمن، ثم انتبه يوماً فزفر بينهما زفرة واحدة فتفرقا. لم يدركا يومئذ شيئاً من معاني الفراق المهلكة التي تمحق النفس بالتأمل واللهفة والحنين، بل نظرا ثم توادعا ثم افترقا ثم نسيا. أو هكذا كان، ولكنه لم يكن في الحقيقة نسياناً، بل كان عملاً من أعمال القدر الغامضة، كان تعبئة للأحداث العظيمة التي تتهيأ فتصنع النفس الإنسانية صنعة جديدة لقد عرفت ذلك فيما بعد. وتسحبت حواشي الحياة بينهما، حتى رقت أيامهما الأولى ثم جعلت ترق حتى استحارت أحلاماً من الذكرى المبهمة ترف على القلب رفيف النسمات: لا ترى بل تحس، ولا تمسك ولكنها تلقي عطرها في القلب وتمضي. نعم لقد نامت العواطف الناضرة الصغيرة في مهد النسيان، ولكنها كانت تنمو أيضاً في جو هذا المهد
ومشى الزمن بينهما يقيم سدوداً وأسواراً من السنين وأحداثها، وكما كبرا وامتدا من أيام العمر، كبرت السماء التي تظلهما وترامت آفاقها، واستحالت الأيام الصغيرة الأولى أشباحاً ضامرة لا تكاد تبين من دقتها وخفائها
ثم فجئهما القدر فتلاقيا بعد دهر طويل كما يتلاقى نجمان في ظلمة الليل، يتناظران لمحة وشعاعاً من بعيد لبعيد. هكذا عرفت.
لقد كان هو يحس في بعض أيامه قبل ذلك اللقاء، أن الفلك قد دار دورته في القدر، وأن القوة المسخرة قد قذفت به في نظام من الجذب جديد، فلم يكد حتى لمح له شعاعها من بعيد يليح إليه بأضوائه وكأنما يقول: أقبل. . . هلم إلي. . . هأنذا. . . هأنذا!
ولم يلبث أن أتم هذا الفلك دورته، فإذا هما يتناسمان في جو عطر تنفح من أرادنه أنفاس الأيام الصغيرة الأولى. . . أيام الطفولة التي تنمو فيها عواطف القلب وتتفتح، كما تنمو الزهرة في أكمامها تحت السحر في مهد الفجر بين روح وشعاع وندى
واجتمعا. . . فإذا هي غادة مضيئة تزهر. لكأن الزمن اختطفها كل هذا الدهر وتسلل بها في بعض مصانعه العجيبة، وجعل يجهد جهده بأنامله النابغة الدقيقة، فهو يجلوها ويصقلها حتى إذا فرغ من فنه الذي اختفى لها به، ردها إليه ينبوعاً من النور الضاحك المرح يترقرق لعينيه ممثلاً في صورتها. . . لقد شبت الصغيرة، ولكن شبابها كان رقة وحناناً في أنوثتها، واستوت فكان استواؤها دقة في فن من جمالها، ونمت نمواً وضاحاً، وكأنما كان يغذوها نور الكواكب ويرضعها روح الزهر. . . لقد وجدها وهي تضوع وتتلألأ من جميع نواحيها. . . لقد كان يخيل إليه أن النسيم من حولها يطوف بها متعبداً خاشعاً ثم يسعى إليه حاملاً نفحة من نفحات الجنة. فكان يحس دائماً أن جوها ينتقل إليه فينفذ إلى قلبه، فيقعد هناك يتمتم يحدثه بأخبارها أو يصف له منها ما يوعب هذا القلب الحزين افتتاناً ولوعة وحنيناً
لقد شبت الصغيرة. . .، فنضت عنها كل مطارف الطفولة، وتجلت جلوة العروس في زينة من الصبى والشباب. لقد خلعت كل قديمها، ولكن شيئاً واحداً بقي كما هو، لا بل بقي أقوى مما كان وأصفى. تلك هي روحها، الروح القوية الآسرة المتسلطة. تغير كل شيء إلا عيونها التي تشف عن هذه الروح التي لا تتغير. فالنظرة الباسمة الخاطفة التي كانت تخضع بها تمرد ذلك الصبي العارم الصغير، هي هي النظرة الباسمة الخاطفة التي هجمت منه على الرجل فأضاء وميضها له الطريق، وحبسته بأمرها وسلطانها على هذا الطريق نفسه وفي وقت معاً. . .
ثم نحى صاحبي بصره إلى قطع من الليل جاثم من عن يمينه وأطال النظر في جوفه. ثم خيل إلي أنه قد جعل يصغي إلى همس الليل، ويتسمع وسوسته الخافتة إلى رمال الصحراء، وبقي زماناً لا يكاد يتحرك، ثم انتفض في مكانه انتفاضة خفيفة - ما رأيتها ولكن رعدتها جرت في دمي وأوصالي قشعريرة عرفتها
ثم عاد ألي يتنهد ويقول:
هكذا هي. . . أو هكذا كانت. . . أما هو. . .
وارتعشت الكلمات في نبراته وعلى شفتيه فأمسك وسكت، وكأنه عزم ألا يتم ما بدأ من حديثه عن الرجل. فخفت أن ينقطع عن دون خبره، وأردت أن استفزه من حيث أعلم كيف أستنبط نبع حديثه، فعجلت إليه أقول:
أما هو - يا صاحبي! - فقد كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي، و. .
فانقض علي بصوته يقول:
كلا، كلا! لا تقل هذا. ليس الأمر كذلك لا تعجل عليه إنك لا تعرفه، ولو عرفته فما أظنك تحسن فهم حياته التي يعايش بها الناس. سأحدثك عنه، لقد علمت أنك تريد أن تحملني على ذلك، ولا بأس إذن. لا أقول لك إني فهمته، واستطعت أن أكشف لنفسي عن سر طبيعته، كلا! بل أقول لك إني لأحس بكل ما يعتلج في قلبه من آلامه، وكأنها عندي هي كل آلامي
إنه رجل قد امتلأ حكمة من طول ما جرب، ومن عنف ما لقي من الأحداث التي نقضت بناء حياته مرة بعد مرة. نعم إنه لملء رجولته تجربة، ولكن. . . ولكني سأصفه لك على كل حال. سأحاول أن أعبر لك عن حقيقة معرفتي به. نعم! هو إنسان غامض مبهم محير، إذا صحبته رأيت من نقائضه التي تجتمع لك من أعماله وظواهره، ما يلتوي بفكرك فيه من هنا إلى هناك، حتى تجد وكأنما أنت تمشي منه في غمض من الأرض منكر قد درست صواه وعفت رسومه وجهلت معالمه. لا تهتدي فيه أبداً إلى شيء تستطيع به أن تقول: هذا هو!! هذه هي الفكرة. . .، هذا هو الطريق!!
سكت صاحبي قليلاً وقد طرح فكره في مذاهبه ثم عاد يقول: فلنعد إلى حديثنا إذن، لقد حملتني على أن أذهب بك بعيداً. . . كذلك كانت هي كما وصفتها لك بل أروع مما وصفتها، حين التقيا على غير موعد يتوقعه أحدهما. . . أما هو فكان يومئذ رجلاً ضرباً متوقداً ثائراً عنيفاً، لا يزال يتمزع من جميع نواحيه كأن في تجاليد شخصه روح وحش شارد لا يألف الحياة ولا هي تألفه. كان فكرة شامخة عاتية عضلة تأبى أن تتهضم لأحد أو تستذل. كان كالبركان في عنفوان فورته تتقلع به صواعقه وزلازله. وهكذا كنت أبداً أعرفه، ولكنه كان مع كل ذلك يحب أن ينطوي على هذه العواصف التي تتقصف برعودها بين جنبيه. ومن أجل ذلك كنت أجد في عينيه أحياناً بارقاً ساطعاً يتدارك ويتلهب، حتى يجعل نظراته كأنها سياط من الأشعة يتضرم اللهب على عذباتها. . لا تعجب، فأشهد لقد خيل لي مراراً أن نظرته هذه إنما تكوي من يتعرض لها أو من يجلده بها، حتى لأخشى أن تكون تترك فيه من آثارها أخاديد تنتفض كسلع النار على الجسد
لا تعجل، ولا تشطط. لقد تعلم أنه كان - مع كل هذا الذي وصفت لك إنساناً وديعاً رقيقاً. كان قلبه خلاصة صافية ممثلة من الحنان والشفقة. ولكنه أصيب بأحداث كثيرة جعلته ظنوناً حزيناً، فهو لذلك يضن بما في قلبه أن يطلع على حقيقته الكاملة أحد من الناس. لم أر - فيمن رأيت من الناس - من هو أبعد منه مذهباً في الاحتراس والحذر، ومع ذلك أيضاً، فلو أنك رأيته في بعض ساعاته لظننت أنه رجل غمر يختدعه عن نفسه كل أحد، ولكنه ليس كذلك. نعم، لقد كان هشا أحياناً بين يدي من يتناوله. . . فإذا أخذ بالاعتناف والقسر، انقلب الذي فيه ضارباً لا يطيق ولا يطاق
هكذا كان أول ما تلاقيا. . .
ثم صمت صاحبي، وخيل إلي أنه يضحك. لقد كان يخافت من ضحكه، كأنما هو يسخر، ورجع إلي بعد قليل فواصل حديثه: كيف قلت في نعته؟ كان مجنوناً تنشئ له أعصابه المريضة الهالكة معانيها التي لا حقيقة لها في حقيقتها هي. . .!! نعم، ربما كان ذلك صحيحاً من بعض وجوهه، ولكني على يقين من أنك لا تكاد تعرف وجه الحق في تأويل هذا الوصف. لا بأس ومع ذلك، فأي هذا الناس ليس مجنوناً على الحقيقة من بعض نواحيه؟ إنك لو جهدت فتتبعت تاريخ الإنسانية كله لم يخلص لك من أصحاب العقل الكامل إلا أفذاذ قلائل. ومع ذلك، فليس أحد من هؤلاء الأفذاذ قد نجا من قذف الناس إياه بالجنون. ألا فخبرني أي الأنبياء - وهم فضائل الإنسانية الكاملة - بريء أن يقول فيه أهله وعشيرته: (إن هو إلا رجل به جنة) أو (ساحر) أو (مجنون)؟
إن من أعظم حقائق الحياة الدنيا أن العقل لا يستطيع أن يدرك حقيقة العقل، أي أنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة نفسه! و. . .
وصدع السكون صوت صفير الغارة الجوية، فانتزع صاحبي ثم قال:
- أليس هذا هو صوت جنون سكان العالم؟ أليس كذلك؟
(لها تتمة)
محمود محمد شاكر