مجلة الرسالة/العدد 362/إلى أرض النبوة!
مجلة الرسالة/العدد 362/إلى أرض النبوة!
(وصف وتأريخ لرحلة الوفد السوري إلى الحجاز ربيع 1935
لفتح طريق الحج البري للسيارات)
للأستاذ علي الطنطاوي
- 2 -
تركنا الموكب، وقد وقف في ظاهر دمشق، حول قبة (العسالي)، وقد ملأت وفود المودعين تلك الساحة على رحبها، وقام الخطباء يخطبون، وقُمت أشكرهم باسم الراحلين وأودعهم، وأشرح الغرض من هذه الرحلة. وكانت الشمس قد جنحت إلى الغيب، فزاد شحوبها الموقف رهبة وجلالاً، وأقبل الناس علينا يودعوننا؛ فلم تكن ترى إلا عناقاً أو تقبيلاً وإخلاصاً متجلياً، وحباً وعطفاً، فلم يبق من الناس من لم تسل عبراته. . .
وإن أنس لا أنس مشهد لحفيد زكي آغا سكر من وجوه الميدانيين، ورفيقنا في سفرنا، وقد تعلق به لا يريد فراقه، ويبكي فيبكينا؛ فما كان أبلغ من بكاء الطفل الحفيد، إلا بكاء الجد الشيخ، وما تركه حتى انتزعوه منه انتزاعاً، وإن صوته ليرن في آذاننا ينادي: جدي جدي.
وغادرنا دمشق، وكان الليل قد أسدل ستائره على الكون، وما زلنا ننأى عن هذه الجموع الهاتفة لنا، الداعية بالتوفيق والنجاح، ونبتعد عن هذا الحشد، حتى أبتلع صوته الليل وطواه سكونه، وغلب سواد الجمع في سواده الشامل، ولم يبق من حولنا إلا السهول الفيح. . .
وكان صمت بليغ، فلم ينبس واحد منا، واستسلمنا جميعاً إلى عواطفنا وأحلامنا، وقد هاجها موقف الوداع، وأثارها هذا المستقبل المجهول الذي نقدم عليه، وهذه الصحراء المرعبة التي نسعى إليها، وهذه البقاع المقدسة التي نقصدها. وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنملأ العين بمرأى أضواء (المهاجرين)، وهي تسطع على نفوسنا المظلمة، كما تسطع النجوم الهادية في الليلة الداجية، على الضال الحائر؛ ولم نكن ندري، أنعود إليها فنراها كرة أخرى، أم ستأكلنا الصحراء فيكون ذلك آخر العهد بها؟ وكنا نحدق فيها لننقش صورتها في نفوسنا، حتى نأنس بها في ليالي البعاد، ونذكر فيها آخر آية من آيات دمشق (البلد الحبيب).
وكانت السيارات تسير متعاقبة يكاد ينوء بها ثقل ما تحمل وكانت تحمل فوق طعامنا والشراب الفرش والخيام، والقدور والطباق، ومائتي (صفيحة) بنزين، وعدداً هائلاً من آلات السيارة وأدواتها، وراديو (رادْ) وغير ذلك مما نسيته الآن، فكنا نعوّذها بالله، ونرجو لها التوفيق، وليس فينا من يتحدث أو يتكلم إلا قائلاً كلمة، وسامعاً جواباً، ثم يرجع الصمت حتى طلعت علينا أضواء أذرعات (درعاً) قصبة حوران. . .
بلغنا أذرعات (درعاً) عقب العشاء. فلبثنا فيها ريثما نظروا في جواز سفرنا وريثما صلينا. وأذرعات اليوم بليدة جميلة ذات قسمين - قسم جديد منظم بني على المحطة، وقسم قديم ينأى عنه قليلاً - وفيها سوق كبيرة، وأبنية جديدة، وهي قديمة ذكرتها العرب في أشعارها لأنها - كما قال ياقوت - لم تزل من بلادها في الإسلام وقبله، وأنشد لبعض الأعراب:
ألا أيها البرق الذي بات يرتقي ... ويجلو دجى الظلماء ذكرتني نجدا
وهيجتني من أذرعات وما أرى ... بنجد على ذي حاجة مدنف بعدا
وذكرها أمرؤ القيس، وعد ياقوت جماعة من العلماء خرجوا منها، وليس فيها الآن من العلماء أحد (فيما نعلم) يذكر. وعالم حوران وفقيهها اليوم الشيخ التقي الصالح الشيخ الطيبي الدمشقي وهو فوق التسعين، وهو بقية السلف الصالح - وفارقنا أذرعات نسير شرقاً إلى بصرى بعدما هتفنا بآل المقداد أعيان وجوهها ننبئهم بوصولنا، فلم نبلغ نصف الطريق إلى بصرى حتى رأينا أضواء كثيرة ومصابيح تجيء وتروح، فعجبنا أن يكون في البرية مثلها، ودنونا منها فإذا هي أضواء المستقبلين الكرام، هجروا مضاجعهم وأقبلوا يتلقوننا من نصف الطريق. فحيونا ومشوا بين أيدينا يهزجون الأهازيج البدوية حتى بلغنا بصرى.
ولبصرى ذكر في التاريخ مستفيض، ومجد مؤثل، وفيها كثير من آثار الماضي، ولم أكن قد دخلتها من قبل، فما أستطعه رؤيتها في الظلام، ولم ألمح من آثارها إلا صفين من الأعمدة الضخمة، قائمين عند مدخل البلد، على طرفي الطريق الذي سلكناه إلى منزل آل المقداد حيث رأينا الكرم الذي لا كرم بعده.
وبصرى مذكورة في الشعر قديماً وحديثاً، ولكنهم لم يذكروها إلا ليذكروا نجداً، ويعلموا شوقهم إليها، وكأنهم لم يروا فيها ولا في الغوطة ولا في وادي بردى ما ينسيهم تلال نجد ورماله، وذلك من حكمة الله فإنه لولا حب الوطن ما سكن البلد القفار! فمن قولهم فيها:
أيا رفقة من آل بصرى تحملوا ... رسالتنا لقيت من رفقة رشدا
إذا ما وصلتم سالمين فبلغوا ... تحية من قد ظن ألا يرى نجدا
وقولا له ليس الضلال أجازنا ... ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا
ولبثنا فيها إلى موهن من الليل ثم خرجنا يصحبنا دليل من أهلها ليسير بنا إلى (قريات الملح) القرية التابعة لأبن سعود من غير أن نمر على المخفر الإنكليزي في (الأزرق) لأننا لم نستأذن من القنصل الإنكليزي لنمر على بلد من بلادنا. . . وكان أسم الدليل الحاج نمر، وقد زعموه خبيراً بالطرقات، عارفاً بالأرض، خرْيتاً حاذقاً، فتوكلنا على الله، ثم على هذا الدليل الحاذق!
سرنا إلى الجنوب، نخبط في ظلام الليل، لا نتبع جادة مسلوكة، ولا طريقاً واضحاً، يقودنا الحاج نمر. ويا ليت أسمه الحاج غراب، فقد أضلنا، كما (قد ضل من كانت الغربان تهديه). . . حتى بلغنا قرية كبيرة أسمها (أم الجمال) فيها بنيان كثير، وأزقة وطرقات، وفيها برج عال قديم، ولكنها مهجورة منذ قرون. . . ليس فيها ديْار ولا نافخ نار، وهي موحشة في رأد الضحى فكيف بها في الليلة الظلماء؟ فما كان من صاحبنا الحاج غراب إلا أن دير به وغثت نفسه وجعل من الدوار والغثيان يقيئ وفقد رشده، فصبرنا عليه حتى أفاق فسألناه عن أمره، فإذا هو لم يركب في عمره سيارة قط ولذلك دار رأسه، فعالجناه حتى بريء فلما رأى الطريق مختلطاً عليه، فأمرنا بالوقوف في هذه البليدة الموحشة التي لا يسكنها إلا الجن. . . وذهب في سيارة يكشف لنا الطريق، فانتظرناه إلى الفجر فلم يرجع، وكانت ليلة ما أذكر أني رأيت مثلها برداً، ونحن في العراء فأحسست والله كأن عظامي ترتجف من البرد، وبلغ منا النعاس وما نطيق أن ننام، وأين وكيف ننام؟
فلما طلع النهار، وتعارفت الوجوه، رأينا الحاج غراب على بعد خمسين متراً منا، وإذا المحترم ينتظر أن نأتي إليه. . .
وأردنا على الإسراع قبل أن يبصرنا بعض أعوان المستر كلوب، ملك البادية المسمى (أبو حنيك) لأن رصاصة كانت قد أصابت حنكه فتركت فيه أثراً. وسألناه، هل يعرف الطريق أم يخبط بنا خبط أعشى، فعجب من سؤالنا وأكد لنا أنه يعرف البلاد كلها شبراً شبراً، وأنه سلك هذه الطرق بعدد شعر رأسه، فاطمأننا وسرنا معه، وكانت الشمس قد طلعت، وانقضت أول ليلة من ليالي الرحلة.
فاطمأننا وسرنا معه، فصعد بنا جبلاً وعراً فيه أحجار وحفر، فسرنا فيه ساعة كاملة وهو لا يزداد إلا وعورة، فقلنا له: ويحك يا هذا، إلى أين تمشي بنا؟ قال: إن علينا أن نجاوز هذه الوعرة، كي نبلغ قريات الملح من غير طريق الأزرق فقلت له: ويحك، هذا والله البلاء الأزرق والموت الأحمر. وأنه ليوشك إذا أوغلنا في هذه الوعور ألا نخرج منها، فعد بنا ولو إلى الأزرق، فماذا في الأزرق إلا الجزاء النقدي؟
واختلفت الآراء وتجادل القوم، ثم اتفقوا على العودة، فعاد بنا الدليل من حيث جاء، حتى إذا هبطنا الجبل سار بنا في طريق معبدة فسرنا فيها، ثم سرنا وهي لا تنتهي حتى كاد النهار يزول، ثم وجدنا مركزاً من مراكز البترول فيه ضابط إنكليزي، فسألناه: إلى أين تؤدي هذه الطريق؟ فقال: إلى العراق، وقد اقتربتم من الحدود.
فوثب أصحابنا على الدليل يوسعونه سباً وشتماً على أن طوَّح بهم حتى كاد يهلكهم بجهله، وهو صابر ساكت لا ينطق بحرف، فتركه القوم وائتمروا بينهم فقال قائل منهم: أني لأعرف طريقاً في الحرة يصل بنا إلى القريات، وقد جزته فوجدته سهلاً. فقالوا له: سر بنا إليه، فمال بهم ذات اليمين، ثم دار دورة فإذا نحن في حرة من أصعب الحرار واسعة ممتدة الجوانب ملتوية مفروشة بحجارة سوداء لماعة، كأنما قد صبَّ عليها الزيت، حادة الجوانب كأنها السكاكين، فلما بلغنا وسط الحرة رأينا الجادة متروكة مهملة قد تخربت وغطتها الحجارة، فكنا ننزل من السيارة فنزيح الأحجار من طريقها لنمشي؛ وكنا إذا بلغنا هضبة لم تقوَّ السيارة على تسنمها نزلنا فربطنا السيارات بالحبال فجررناها بأكتافنا واحدة واحدة كما تجر الدابة الحرون، واستمر بنا ذلك إلى الغروب، وامتدت بنا هذه الطريق تسعين كيلاً رأينا فيها الموت مما تعبنا، ولم نقف إلا ساعة أكلنا فيها وصلّينا، فلما أن غابت الشمس يّسر الله لنا الخروج من هذه الحرة؛ فلما خرجنا منها إذا نحن حيال قصر الأزرق ليس بيننا وبينه إلا أربعة أكيال أو أقل منها؛ وكان إلى يسارنا أدغال وعرة فيها نبت من نبت الصحراء، فلم نجد بدّاً من دخولها، فدخلناها مكرهين تقوم بنا السيارة وتقعد وتميل وتعتدل حتى أظلم الليل، وبلغنا قاعاً مستوياً فوقفنا وأنخنا للمبيت؛ وكنا حين انتهينا إلى الأزرق بعد كل هذا الأذى كله، كالذي (فرّ من الموت وفي الموت وقع)!
(لها بقايا)
علي الطنطاوي