مجلة الرسالة/العدد 362/حركات الإصلاح الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 362/حركات الإصلاح الإسلامية
2 - أزمة إسلامية
للدكتور علي حسن عبد القادر
دكتور في الفلسفة والعلوم الاجتماعية من جامعة برلين
ومدرس بكلية الشريعة
هكذا نرى أن التشريع الإسلامي هو محور الدائرة التي تدور حولها حركات الإصلاح والتجديد في الإسلام، والباب الذي ينفذ منه المصلحون لتجديد الحياة الإسلامية تجديداً عملياً، وأن مسألة كون الإسلام قابلاً للإصلاح والتجديد والرجوع به شاباً قوياً إنما تقوم على مسألة أخرى: وهي هل من الممكن التخلص من أشكال قديمة جامدة في الفقه الإسلامي؟
وإذا ما أردنا أن نحدد البحث تحديداً أدق لنتعرف العامل الأول الذي أملى على المصلحين إصلاحهم وجرهم إلى التفكير في ذلك فلا يسعنا في حدود المؤرخ الديني أن نفكر أن ذلك يرجع إلى الأصل المعروف (الإجماع) ذلك الأصل الذي صبغ الفقه الإسلامي بما لم يصبغه به غيره، ودعم به أهل السنة وجهات نظرهم تدعيماً لم يقبل النقض. وهو في حقيقة الأمر المفتاح الذي نفهم به تطورات الإسلام في علاقاته المختلفة في العقائد والتشريع والسياسة، فما تقبلته الأمة حقاً وصدقاً فهو حق وصدق، وما لا فلا؛ ويكون صحيحاً فقط في الشكل الذي يعطيه له الإجماع، حتى تفسير القرآن الكريم والسنة يكون صحيحاً منه ما يقابله إجماع الأمة، والعقائد - تلك التي خضعت لكفاح قاس في أول الأمر - أصبح موافقاً للدين منها ما ختم عليه الإجماع بخاتمه النهائي. وهؤلاء الرجال وهذه الكتب تعتبر إمامتها إذا أعتبر هذه الإمامة إجماع المسلمين. وهكذا نرى أن الإجماع قد لعب دوراً هاماً في الإسلام بما لم يقم به مبدأ مثله. ومن المعروف أن هذا الإجماع لم يأت نتيجة اجتماع منظم، وإنما كانت دائرته أول الأمر الإحساس الجمعي والرأي العام وصوت الأمة.
وقد حاول العلماء حدّه زماناً ومكاناً أوردّه إلى إجماع الصحابة أو علماء السلف من أهل المدينة أو الحرمين؛ ولكن هذه المحاولات شيء ومظاهره المختلفة التي رأيت شيء آخر.
وأهم من هذا هو أن الإجماع الذي حقق في الماضي قوة التعادل ومطابقة العصر ليس بعيداً أن يكون نواة قوة لمكافحة الجمود والنفوذ الشخصي إذا ما أستغل استغلالاً مرضياً وهو ما نتركه للمستقبل.
وقد يظهر غريباً إذا قلنا إن عوامل التجديد قد أظهرتها وحددتها طريقة أهل السنة نفسها، ذلك أن طريقة أصول الفقه إن تكن لا خلاف فيها في أوساط أهل السنة، فقد وجد من العلماء المفكرين من لم يقبل البقاء بعيداً عن دائرة الاجتهاد. وظهر له أن التقليد والتمسك بمذهب بعينه أمر لا يحتمل، وعند ذلك حدد هؤلاء العلماء من أول الأمر - شعروا أم لم يشعروا - دائرة هذا الأصل الخطير - أعني أصل الإجماع - وضيقوا من نتائجه. فالإمام الغزالي نادى بالاجتهاد وكثير ممن جاء بعده فعلوا ذلك أيضاً مثل أبن تيمية والسيوطي. وقد أستند المصلحون من ناحية أخرى في مناهضتهم للإجماع إلى أن تحديده بقى وقتاً طويلاً مجالاً للأخذ والرد حتى استطاع آخر الأمر أن يأخذ هذا المحيط الواسع الذي انتهى إليه.
وقد جاهد الحنابلة من بين المذاهب الأربعة جهاداً كبيراً في سبيل الاجتهاد لأجل مصلحة السنة نفسها التي عرفوا بأحيائها. فأبن تيمية وتلميذه أبن القيم استعملا هذا السلاح ضد البدع الكثيرة المنتشرة. وقامت على هديهم وفي روحهم حركة الوهابية بجزيرة العرب أثناء القرن الثامن عشر الذين حاربوا البدع وأزالوها من البلاد المقدسة، وتعاليم محمد بن عبد الوهاب مؤسس هذه الحركة متفقة تماماً مع تعاليم أبن تيمية، فقد كان يدعو إلى التمسك بالدين في الشكل الذي كان عليه في حياة النبي وصحابته، وكان غرضه الرجوع إلى الإسلام، في الصدر الأول، وذلك إنما يتم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وحدهما. وإذا ما أتهمه خصومه بأنه مخالف للإجماع حدد سلطان الإجماع وحصره مخالفاً في ذلك جمهور أهل السنة. ولا يخفى أن هذه البدع التي حاربها بشدة وعدها كفراً كانت في الواقع مقبولة بإجماع المسلمين.
وقد بلغت درجة الكفاح أشدها عندما أتهم أبن تيمية والوهابيون بأنهم خارجون عن الدين وعلى جماعة المسلمين وتعاليم أهل السنة السائدة. ولكن الوهابيين وقفوا في مكانهم ثابتين متمسكين بمذهب الإمام أحمد. وكما أن مرّ الأيام قد خفف من الحكم على أبن تيمية، فكذلك أخذ كثير من المسلمين بعد زوال الخطر الوهابي يغيرون من رأيهم في هؤلاء العرب المهاجمين.
ولم تنته آثار حركة الوهابيين بسقوطهم السياسي وهدم عاصمتهم الرياض سنة 1818، وذلك أن تعاليمهم وآراءهم بقيت منتشرة في الجزيرة العربية. وفي سنة 1924 ضموا إليهم بلاد العرب وأصبح قائدهم الملك عبد العزيز بن سعود الزعيم المعترف به في البلاد المقدسة.
وإذا كان رجوعهم لم يقابل بشدة كما قوبل به منذ مائة عام، وإذا كانوا لم يرفضوا بقوة إزاء تيارات التجديد الحديث، فإنهم مع ذلك لم يتركوا تعاليمهم، وأصبح القول بخروجهم عن الدين غير موجود الآن عند جمهور أهل السنة.
وأهم من هذا كله في هذه الكلمة الإجمالية، هو أن هذه الحركة الوهابية أخذت تدب في أثناء القرن التاسع عشر إلى بلاد إسلامية أخرى، وعلى الأخص بلاد الهند ومصر، ومن بين كل هذا قد أحدثت دعوتهم بالرجوع إلى الإسلام الأصلي الخالص وترك البدع التي حدثت بعد ذلك، والبعد عن تعقيدات الفقهاء ومماحكاتهم، قد أحدثت هذه الدعوة تذكيراً للمسلمين ومفكريهم الذين لم يريدوا معاداة أي حركة إصلاحية في الإسلام.
ومن هنا نستطيع أن نقرر أن الحركة الوهابية كان لها أهمية كبيرة بعيدة الأثر في هذه الحركات الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت أخيراً، وإن يكن الاتصال بينها وبين هذه الحركات غير مباشر وغير واضح كل الوضوح. ومن هنا يجب أن نحسب لها حسابها في الكلام على هذه الحركات التي سنلم بها بعد إن شاء الله.
علي حسن عبد القادر