مجلة الرسالة/العدد 362/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 362/رسالة النقد
تعقيب على تصحيح
للأستاذ محمد محمود رضوان
ذكر الأستاذ عبد القادر المغربي في العدد 356 من الرسالة عدداً كبيراً من المآخذ التي رآها في الجزء الثالث عشر من كتاب نهاية الرب للنويري، ولا يسع كل أديب وباحث إلا أن يحمد للأستاذ تلك الغيرة على تصويب كتاب له قيمته الأدبية كنهاية الأرب خصوصاً وقد وفق إلى حد كبير من تلك التصويبات وإن أخطأه التوفيق أيضاً في كثير منها
وللنويري صاحب نهاية الأرب في قلبي مكانة لم يحتلها أديب غيره من أدباء العصر التركي فهو أحبهم إلي وآثرهم عندي، إذ أن بيني وبينه - فوق إعجاب بمجهوده الجبار في تصنيف موسوعته العظيمة - آصرة الوطن وهي فوق كل آصرة
ولعل من القراء من يذكر مقالي الذي كتبته منذ عامين في جريدة الأهرام عن النويري، ودعوت فيه إلى إحياء ذكرى هذا الأديب المنسي، ونوهت بفضل موسوعته وما أشاد مؤرخو الأدب بها، وكان أن أخرجت دار الكتب المصرية بعد ذلك الجزء الثالث عشر من نهاية الأرب مشكورة، وإن كانت لا تسير في إحياء هذا الكتاب إلا كما تسير السلحفاة
وإذن فقد حق عليّ رأيت الأستاذ المغربي يتسقط الخطأ تسقطاً، ويلتمس الزلل التماساً أن أنافح - بالحق - ما وسعني النفاح عن المؤلف تارة، وعن المصححين أخرى، وهأنذا مورد ما كتب الأستاذ ثم أتبعه نقاشي له
1 - (ص11س21) قوله (ففتحها) صوابه (ففتحهما) إذ أن الضمير يرجع إلى العينين
هذا ما قاله الأستاذ الناقد وأقول: إنه ليس على ذلك التعبير غبار، والعرب كثيراً ما تذكر الاثنين - وخصوصاً إذا كانا لا يكاد أحدهما ينفرد وذلك كالعينين واليدين والرجلين - وتعبر عنهما مرة وبأحدهما مرة، قال الفرزدق:
ولو بخلت يداي به وضنَّت ... لكانْ عليَّ للقدرِ الخيارُ
فقال يداوي، ثم قال ضنت وهو يعني اليدين.
وقال آخر:
وكأن في العينين حبَّ قرنفُل ... أو سنبل كحلت به فانهلَّتِ فقال العينين، ثم قال كحلت فانهلت، وقال بعض المحدثين:
فدتك بعينيها المعالي فإنها ... بمجدك والفضل الشهير كحيل
ومن ثم فتعبير نهاية الأرب صحيح ليس عليه مأخذ. . .
2 - (ص25س14): ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول: أنا من يشهد لك بالتوحيد الخ
قال الأستاذ الناقد: فقوله (ونادى إلى ذات اليمين) صوابه (وأوى إلى ذات اليمين) - أي مال ولجأ إلى الجهة اليمين - وأقول: لو أن (نادى) قريبه من (أوى) خطاً، لكان ذلك كلاماً حسناً، أما وبينهما ما بينهما، ففي ذلك التخريج من التعسف ما فيه، على أنه ليس ما يدعو إلى تخطئة نادي وتبدل غيرها بها، ويظهر أن ذكر فعل القول بعد فعل النداء - وهما متقاربان معنى - هو الذي أشكل على الأستاذ، فجعله يفضل الاجتزاء بواحد منهما ويتبدل أوى بنادي، مع ذكر القول بعد النداء كثير سائغ. ورب العالمين يقول (فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى)؛ ويقول (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي). فليس من غضاضة إذن في قول النويري: (ونادى إلى ذات اليمين وهو يقول. . . الخ). إذا أعربت الجار والمجرور - إلى ذات اليمين - حالاً من الضمير المستتر في نادى
3 - (ص67س11): قوله: (فقال فتى منهم حدث السن) خطأ، وصوابه: (حديث السن)؛ وعبارة المصباح: (يقال للفتى حديث السن، فإن حزفت السن، قلت: حدثً بفتحتين)، أي من دون إضافة حدث إلى السن. . .
وأقول: لا محل لهذه التخطئة، وإن كلام المصباح الذي استشهد به الأستاذ، ليس فيه دلالة قاطعة على أن قولك (حدث السن) خطأ، وإنما يدل على أن قول (حدث) يساوي في معناه قولك (حديث السن)، على أنك لو أضفت (حدث) إلى (السن) إضافة توضيح ما بعدت ولا تجنبت، وكيف وعبارة القاموس تؤيد ما أذهب إليه وهي (ورجل حدث السن وحديثها بين الحداثة والحدوثة فتىُّ) وذلك واضح
4 - (ص127س7): قوله (حتى بلغ بها إلى البحر) صوابه (بلغ بها البحر) من دون حرف الجر لأن فعل البلوغ يتعدى بنفسه
وأقول: لا أدري كيف يمنع الأستاذ تضمين الفعل معنى فعل آخر وهو مطرد على ألسنة الفصحاء وأئمة البيان واللغة، ولست أستشهد بفعل غير الذي معنا - وذلك كثير - ولكني أذكر عبارة وقعتُ عليها في كتاب (فقه اللغة) لأبي منصور الثعالبي أورد فيها الفعل بلغ معدي بإلى، وكأنه ضمنه معنى وصل أو انتهى، والثعالبي هو الثعالبي. قال ص578: (ومثله قوله عز وجل (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) وهم لم يبلغوا إلى أرذل العمر فيردوا إليه)
5 - (ص139س7): (وقيل إن النساء خلون به ليعدلنه لها) يعني أن نسوة المدينة لما بلغهن خبر جفوة يوسف لزليخا امرأة العزيز خلون به ليعدلنه، وقد ضبط فعل (يعدلنه) بدال المهمة المشددة من فعل عدَّله إذا أقامه وسواه. قال الأستاذ المغربي: (إن الأصوب والأليق بالمقام أن تكون (يعذلنه) بالذال المعجمة من العذل على معنى أن النسوة خلون بيوسف وأخذن في عذله ولومه على ما كان من جفوته لسيدته وإنه لا معنى للتعديل والتقويم هنا إذ ليس المقام مقام تربية ولا تقويم، وإنما المقام مقام حب وجفاء)
وأقول: إنه ليس ثم داع لهذا التصويب، وإن الكلمة لا هي يعدَّلنه كما ضبطها الشارحون ولا يعذلنه كما يرى الأستاذ المغربي؛ وإنما هي يَعْدِلْنه بغير تشديد من الفعل الثلاثي عدل بمعنى عَطَفَ، والمعنى أنهن خلون به ليجعلنه يعدل إليها وينعطف، والدليل على ذلك ما يقوله صاحب الأساس في مادة عدل (وعدلته عن طريقه وعدلت الدابة إلى طريقها: عطفتها)؛ وهذا الطريق يعدل إلى مكان كذا. وفي حديث عمر رضي الله عنه: (الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني كما يُعْدَل السهم).
6 - (ص242س2): (فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول) قوله (فحملوه) لعل صوابه (فحملوهما)، أي حملوا كلاًّ من الخضر وموسى وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر، ويشهد لما قلنا قوله بعد (فلما ركبا في السفينة) بألف التثنية أي الخضر وموسى
وأقول: إن ذكر الاثنين ثم إعادة الضمير على أحدهما دون الآخر مما جرى عليه العرب في تعبيرهم كما استشهدت في أول هذه التصحيحات، وخصوصاً إذا كان ثم مسوغ بلاغي أو معنى لهذا الحذف؛ وهذا المسوغ ذكره الأستاذ الناقد نفسه في خلال كلامه، وذلك قوله: (وإن كانوا لم يعرفوا إلا الخضر). على أن الحذف باب من أبواب البلاغة المشهورة، فقوله (فحملوه) يتضمن محذوفاً أي (موسى) وذلك مطرد في كثير من كلام العرب وفي كلام الله، ألم تسمع إلى قوله تعالى (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله)؛ قال بعض المفسرين: (إن الضمير في ينفقونها عائد على الفضة، واستغنى بذلك عن عود الضمير إلى الذهب والفضة معاً للدلالة)
والعرب تخاطب الاثنين أيضاً، ثم تنص على أحدهما دون الآخر فتقول: ما فعلتما يا فلان؟ وفي القرآن (فمن ربكما يا موسى) وأغفل هرون، وفيه (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، خاطب آدم وحواء، ثم نص في إتمام الخطاب على آدم وأغفل حواء، فلا فرق بين عبارة النويري وهذه الشواهد إلا أن هذه للخطاب وتلك للغيبة، وسبب الحذف واحد في الجمع وهو التنويه بالأهم غيبة أو خطاباً
وقريب من هذا - أو عكسه - ما تفعله العرب من نسبة الفعل إلى الاثنين وهو لأحدهما كقوله تعالى في قصة موسى نفسها (فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما) مع أن النسيان كان من أحدهما لأنه قال (فإني نسيت الحوت وما إنسانيه إلا الشيطان) وكقوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) وأحدهما عذب والآخر ملح، ثم قال: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح لا من العذب
وهكذا يجد المتأمل في لغة العرب غير قليل من السعة والمرونة لا محل للتزمت فيه. . .
7 - (ص271س5): (قال موسى يا رب بما سمعت دعاء بلعام على فاسمع دعائي عليه قوله: (بما سمعت) لعل صوابه: (كما سمعت) أي اسمع دعائي كما سمعت دعاءه. . .
وأقول: إن في هذه التخطئة غير قليل من التجني على اللغة إذ أن مثل هذا التعبير عند تذوق أساليب العربية وقرأ كلام الله وأحاديث رسوله صحيح سائغ رائع، ولأقرَّب المعنى المراد أستعدي الإعراب فهو رائدنا إلى الصواب. وذلك أن (الباء) في عبارة النويري للسببية و (ما) مصدرية، والمعنى: (يا رب، بسبب سماعك دعاء بلعام على فاسمع دعائي عليه). وذلك كثير في كلام الله وإليك الشواهد:
(أ) قوله تعالى: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم
(ب) قوله تعالى: (قال لا تؤاخذني بما نسيت) أي بنسياني
(ج) قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)
(د) قوله تعالى - وشبيه به عبارة النويري لفظاً، وليس كمثله شيء -: (فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) أي بسبب كفركم
وبعد: ففي تصويبات الأستاذ المغربي - غير ما ناقشت - كثير لا محل له، كتصويبه (المضيق بالمطبق) وهو سجن إبراهيم تحت الأرض مع أن المضيق كما في القاموس هو المكان الضيق. وقد خصصت عبارة النويري بأنه تحت الأرض، وذلك هو المراد ففي كل غناء عن (المطبق) التي يأبى الناقد إلا أن يدسها دساً، وكتصويبه (النحيب بالنحيب) والأولى صحيحة تؤدي المعنى كما اعترف، وكتصويبه (تفوهت بنوهت) والأولى تؤدي المعنى مع زيادة اقتضاها المجاز الخ. . .
(القاهرة)
محمد محمود رمضان
مدرس بالجمالية الأميرية