مجلة الرسالة/العدد 365/الحرب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 365/الحرب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 07 - 1940



للأستاذ فوزي الشتوي

ماذا بقي لفرنسا

من كان يصدق أن فرنسا تقبل مثل هذه الشروط؟ ومن كان يصدق أن وزارة المارشال بتان العسكرية تعتبر مثل هذه الشروط التي فرضتها ألمانيا على فرنسا شروط صلح شريف؟ ولعله يتيسر لنا أن نقدر فداحة النكبة الفرنسية إذا فرضنا أسوأ الفروض، ثم قارنا بين ذلك الفرض السيئ وبين ما قبلته فرنسا الآن

وأكبر النكبات القومية إطلاقاً هي احتلال أرض الدولة، ونزع السلطة من يد حكومتها. وهذا ما فعلته ألمانيا مع فرنسا. ألم تحتل ثلثي أرضها وجميع شواطئها الغربية

فماذا بقي لفرنسا؟ أهي تلك الرقعة المحدودة المحاطة بجيوش الاحتلال من جميع جهاتها؟ أم هي السلطة التي منحت لوزرائها على أن يعملوا تحت المراقبة الألمانية النازية؟ أم هي المستعمرات التي فصلت عن أمها ولم يبق بينهما من رباط؟ أم هي القيود التي فرضت على الصناعة والتجارة والحرية في القول والعمل؟ ماذا بقي لفرنسا إلا موجة الحزن والأسى وندب الماضي المجيد والكرامة المهدرة؟

أنصار الهزيمة

لقد بكي الكتاب فرنسا ممثلة في باريس ما وسعهم البكاء، وشكوا إلى العالم ما أصاب عاصمة النور والحرية ما وسعتهم الشكوى، ولسنا أنصار هزيمة، ولا شكوى، ولا أنين؛ ولكننا نتعلق بحبال قوية من الأمل، لا بخيوط ضعيفة من الرجاء؛ فلم تضع الحرب أوزارها، ولم يمل العدو شروطه بعد، بل إن الأمر ما زال تحت حكم الجنيه الذهبي، والعزيمة الصادقة

وإذا كانت دعوة أنصار الهزيمة قد طغت على بتان وفيجان ودارلان، فألقوا بسلاحهم، فما زالت دعوة أنصار النصر تطغي إلى دي جول وبلانشار وتشرشل. فالأولون شيوخ من أبناء المدرسة القديمة التي حكم من عزمها الفشل القريب، والأخيرون من أبناء المدرسة الحديثة التي يقوي من عزمها ما تجد في متناول يدها من موارد هائلة تكفي لكسب النصر، وما تجد في دمائها من قوة تحبب إليها الموت على حياة تخسر فيها شرف بلادها وكرامتها

وإذا كان الاحتلال مسلماً بأمره اليوم، ومفروضاً فيه أن يستمر إلى نهاية الحرب؛ فلسنا نجد مبرراً واحداً يتيح لوزارة بتان أن تتخلى عن القتال؛ اللهم إلا إذا كانت شهوة الحكم بضعة شهور، وهي شهوة لا تلبث أن تموت في نفوس أصحابها إذا انقضت ساعة الشهوة وأتت ساعة التفكير في المصير، ولا تلبث هذه الشهوة أيضاً أن تنقلب إلى ندم وتكفير، حيث لا ينفع ندم ولا تكفير

شهوة الحكم

ونستطيع أن ندرك أثر هذه الشهوة في نفس بتان إذا عدنا إلى ماضيه. فقد حصل على مجد كبير، وتمتع باحترام لم يتمتع به فرنسي آخر، فهو البطل الذي احتفظ بفردان في أيدي الفرنسيين طول حرب سنة 1914 فكانت أخطر نتوء في صفوف الجيوش الألمانية، وكانت بمثابة المركز الذي أفسد عليهم سيطرتهم على خطوط مواصلاتهم. فهو رجل عظيم حقاً، ولكن عظمته عسكرية فحسب، فلم يتقلد مناصب الحكم، ولم يكن رئيس وزارة مرة واحدة. أفلا يتوق مثل هذا الشخص إلى أن يربط عظمته العسكرية بعظمة سياسية، ولا سيما وهو في آخر أيامه؟ أولا يتوق مثل هذا الرجل أيضاً إلى تخليد اسمه باشتراكه في هذا الحادث الفريد في تاريخ فرنسا؟ وهو تخليد مؤلم ولكن له مبرراته وخصوصاً في نظر الشيوخ فقد أصيبت الجيوش الفرنسية بخسائر فادحة، وانقضى الأمل في الدفاع عن فرنسا

وهو عذر كاف يرضي الشيوخ. ولكننا واثقون أن بيتان سنة 1914 لو وضع في مكان بيتان سنة 1940 لما قبل هذه الشروط.

فالعزيمة التي ثبتت أربع سنوات وهي ترى بوادر الانحلال من حولها، والعزيمة التي قضت على مائة ألف ألماني في سنة 1914 ترفض رفضا باتا أن تخضع لانحلال يصيبها في ثلاثة أسابيع. ولكن هي الشيخوخة البالية، وحياة الرفاهية التي قضاها بتان في العشرين سنة الماضية بعيداً عن الحياة العسكرية جعلتاه ينظر إلى الموقف الحالي بمناظره الأسود

الرأي العام الأمريكي فالإمبراطورية الفرنسية غنية وما زالت سليمة، والإمبراطورية البريطانية غنية وما زالت سليمة، وأمريكا غنية، وإذا لم تدخل الحرب اليوم فستدخلها غداً؛ فإعداد الشعب الأمريكي للحرب يحتاج إلى سنوات، والشعب الأمريكي الآن مستعد لقبول فكرة الحرب أكثر منه في سنة 1914، وهو لم يدخل الحرب الماضية عقب هزائم الحلفاء الأولى، بل استمر بعيداً عن ميدان القتال سنتين تقريباً، فهل انقضت هذه الفترة ليقطع بتان الأمل؟

والمعروف أن نقطة الضعف في المحور الديكتاتوري هي إيطاليا فإن قوتها العسكرية، ومعداتها الحربية، وصبر جنودها على متاعب القتال، وانكشاف سواحلها لا تقاس بمثلها عند الألمان، ولهذا كان من المقدر أن تصاب قواتها بخسائر فادحة تقضي على مقاومتها نهائياً وترغمها على التخلي عن ميدان القتال

ما خسرته الحرب

أدى تسليم فرنسا إلى تغيير كبير في الموقف، فلو استمرت في الحرب لنقلت قواتها البرية إلى ممتلكاتها في شمال أفريقيا، وهي تقدر بالملايين مما يسهل الاستيلاء على ليبيا وحصر إيطاليا في الشمال وألمانيا في أوربا، وتنفذ سياسة الحصر البحري والمناوشات الحربية البرية والجوية لكما سنحت الظروف إلى أن تنهار قوات المحور؛ وعلى العموم لم يؤد تسليمها إلى تغيير خطير. فقد أعلنت الممتلكات الفرنسية تصميمها على القتال، مخالفة بذلك قرار حكومتها، فإن الجندي الفرنسي يأبى التسليم بمثل هذه الشروط ولا سيما إذا كانت قواته سليمة كما هي الحال في تونس ومراكش وسوريا ولبنان

وخسرت إنجلترا بقبول فرنسا لشروط الصلح شيئاً واحداً، وهو القوات المحاربة الموجودة في فرنسا، ولكن المستعمرات لا تلبث أن تعد قوات غيرها، وقد أعلنت بريطانيا استعدادها لإمدادها بالعتاد الحربي اللازم، ومن مصلحة إنجلترا أن تضم إليها في القتال هذه البقاع من الأرض لتحتفظ بمركزها العسكري في البحر الأبيض المتوسط، فإن الشاطئ الأفريقي في غربه في يد الممتلكات الفرنسية، وضمان موالاته لبريطانيا له أهميته لثلاثة أسباب

أولاً - الاستناد إلى قواعده في تونس والجزائر

ثانيا ً - ضمان حياد طنجة، وهي البقعة المواجهة لجبل طارق وقد احتلتها أسبانيا في المدة الأخيرة بالاتفاق مع فرنسا، وكانت من قبل بقعة محايدة

ثالثاً - تونس، ولها أهمية ممتازة لأن استيلاء إيطاليا عليها معناه شطر البحر الأبيض إلى قسمين، وبالتالي منع المواصلات بين شرق البحر وغربه، أو منع الصلة بين قنال السويس وجبل طارق

الأسطول البحري

ويلي المستعمرات الفرنسية في الأهمية الأسطول البحري الفرنسي، ولم ترد إلينا حتى الآن أخبار عما حل به؛ وإن كان الجنرال دي جول صرح بأنه تلقى وعداً من قادته بمواصلة القتال. والمعروف أن هذا الأسطول لم يكن وحيداً، بل كان موزعاً في عدة أماكن مع الأسطول البريطاني؛ فإذا حاولت قطعه الانسحاب وتنفيذ أوامر حكومة بوردو؛ فإن الأسطول البريطاني يتولى إغراقها حتى لا تكون تحت سيطرة الأعداء

وفي اعتقادنا أن ربابنته لا يقلون وطنية عن الألمان، فإذا كان الألمان قد فضلوا إغراق أسطولهم في حياة سكابافلوا في سنة 1914، عندما شعروا بأنه سيسلم إلى إنجلترا، فإن الفرنسيين لن يتركوه غنيمة سهلة لأعدائهم. ولا شك أنهم يفضلون القتال إلى جوار حلفائهم الإنجليز على إغراقه أو تسليمه؛ ولهذا فمن السهل أن ندرك أنه سينضم إلى الأسطول البريطاني في دفاعه عن قضية الديمقراطية، ولإعادة حرية فرنسا إليها، فإن نصر بريطانيا الآن هو الأمل الوحيد للفرنسيين الأحرار

والأسطول الفرنسي أسطول قوي حديث تمتاز وحداته بسرعتها، كما يمتاز رجاله بفهم دقيق لفنون القتال البحرية. به مدرعات خفيفة لا يوجد ما يماثلها في أساطيل الدول الأخرى، وبه غواصات ضخمة تستطيع تحمل السير في المحيطات؛ ويكفي أن نذكر أن حمولة الغواصة سيركون مثلاً 2880 طناً بينما الغواصات الأخرى قد لا تصل إلى نصف هذه الحمولة

ويتكون الأسطول الفرنسي من القطع الآتية:

سفن قتال. . . . . . . . . . . .

7

حاملات طائرات. . . . . . . . .

1

مدرعات ثقيلة. . . . . . . . .

7

مدرعات خفيفة. . . . . . . . .

43

مدمرات. . . . . . . . . . . .

69

غواصات. . . . . . . . . . . .

87

المجموع. . . . . . . . . . . .

214

وعد بالنقض

وأشرنا في مقالنا الماضي إلى المناورة البارعة التي أذاعتها الحكومة البريطانية حينما أعلنت استعدادها لاتحاد الجمهوريتين البريطانية والفرنسية، وقد أنتجت هذه المناورة، فلم يتيسر لمندوبي هتلر أن يعلنوا فرنسا بعزمهم على الاستيلاء على الأسطول الفرنسي، بل اكتفوا بإعلان تجريده من السلاح، كما أعلنوا أنهم سيتركون بعض قطعه للدفاع عن المستعمرات الفرنسية

وبديهي من تتبع الوعود والاتفاقات النازية أن هذا الكلام لا يتجاوز الورق الذي سطر عليه، ولكن الغرض الأساسي منه هو استدراج هذه الوحدات إلى مناطق السيطرة الدكتاتورية، فإذا أصبح في متناول يدهم تلغى قصاصة الورق ويشترك الأسطول في الأعمال الحربية الدكتاتورية، فإن ألمانيا وإيطاليا في أشد الحاجة إلى مثل هذا الأسطول لتعزيز قوتهم البحرية، وليس من المعقول أن تهددهم بريطانيا بأسطولها ويكون تحت سيطرتهم أسطول يتركونه تنفيذاً لاتفاق لا يوجد ما يرغمهم على تنفيذه، ولا سيما أن سوابق هتلر تدل على أنه إذا وعد اليوم وعداً ينقضه غداً ويمكننا أن نرى في شروط الهدنة نفسها بوادر هذا النقض فهي تقول في المادتين الثامنة والتاسعة: إن الأسطول يستخدم في الرقابة الساحلية والتقاط الألغام.

ومعنى هذا عسكرياً أن الأسطول الفرنسي يستخدم في الأعمال الحربية لسببين:

1 - إن شواطئ فرنسا كلها في أيدي الألمان، فهو في هذه الحالة يدافع عن قواعد ألمانية من حق بريطانيا ضربها ومن واجب الأسطول الدفاع عنها

2 - تتجاوز الرقابة الساحلية الأعمال الإقليمية لأن أحد أركانها مراقبة حركات القوات المعادية وتدميرها كلما سنحت الظروف.

وهذا يفسر أن ألمانيا وضعت شروطاً مطاطة تبيح لها استخدام الأسطول على أوسع صورة ممكنة.

الأسطول الجوي

ننتقل بعد هذا إلى أداة قتال أخرى يسهل نقلها، وهي الأسطول الجوي الفرنسي. فمن الراجح أن كثيراً من أسرابه ستغادر قواعدها للانضمام إلى قوات بريطانيا، ولا نكون مغالين إذا قلنا إن بعضها قد غادر مطاراته فعلاً. فإن تمرد الضباط الفرنسيين على قرارات حكومة بوردو شمل جميع القوات والساسة وتناول المسيو رينو رئيس الوزراء السابق مما لا يدع مجالاً للشك أن كثيرين تبعوه مقتنعين بصحة رأيه

وفي شمال أفريقيا؟!

ويجد بنا ألا نختم هذا المقال قبل أن نقول رأينا عن الموقف العسكري في شمال أفريقيا، فهو موقف يستدعي التفكير. فالوعود الدكتاتورية لا يحدها اتفاق ولا قانون، وأحلام موسوليني بالإمبراطورية الرومانية حية زادتها الانتصارات الأخيرة قوة، فإذا كانت حركاته العسكرية في أفريقيا نائمة الآن، فلسببين:

أولهما: ضعف استعدادها في ليبيا بسبب اشتغالها في الحرب في أوربا، ووجود خمائر العرب المتمردين في ليبيا

ثانيهما: حر الصيف وطول الصحراء، وخلوها من الماء مع شدة الحاجة إليها لري عطش الجنود، وكثرة المقادير اللازمة لري هذا العطش في الصيف عنه في الشتاء

فإذا زال هذان السببان فلن نلبث أن نرى الحركات على أشدها في شمال أفريقيا مستندة إلى قواعد إيطاليا في ليبيا. وهذان السببان لا يلبثان أن يزولا بزوال الصيف وقدوم الشتاء

فقد خلا الميدان الأوربي من القتال، فيسعى الأسطول الإيطالي لنقل القوات الألمانية والإيطالية إلى ليبيا بتلك الأعداد الكبيرة والمعدات الهائلة.

وطبعاً يحرص الأسطول البريطاني على عرقلة هذه الصلات، ومنع وصول القوات إلى ليبيا

فإذا تيسر لقوات الحلفاء الاستيلاء على ليبيا قبل قدوم الشتاء فإن الموقف العسكري في شمال أفريقيا يصبح مضموناً ولا يقلق الناس إلا إغارات الطائرات وهي كما قلنا لا توصل إلى نصر عسكري حاسم.

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة