مجلة الرسالة/العدد 368/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 368/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1940



طبق الأصل

معركة. . .

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

نشبت في الأسبوع الماضي على صفحات (الأهرام) معركة بين فريق من كبار الكتاب المصريين، كان مثار الخلاف فيها أن بعضهم أراد أو تمنى أن يعالج مفكرونا وأصحاب القلم عندنا شئوننا الاجتماعية والاقتصادية والقومية والحربية وغيرها من شئوننا الفقيرة إلى التفكير والتدبير، بينما رأى البعض الآخر أن هذا الوقت العصيب الذي نجتازه ليس أنسب الأوقات لمعالجة هذه الشئون التي لا ريب تحتاج في دراساتها إلى أعصاب مستريحة وعقول مطمئنة. وأين هي اليوم هذه الأعصاب التي لا تتحفز في اليوم الواحد مرات لا مرة واحدة، والني لا تشرئب إلى الغيب تريد أن تستخلص منه الحادثات وما يتبعها من النتائج، وما هي مستخلصة شيئاً إلا هذا الجهد الذي يبذله. وهذا الشرود الذي تعانيه. وأين هي اليوم هذه العقول التي تستطيع أن تتلقط مادة الفكر ومادة النطق في خلال هذه المفاجآت المنهارة على الناس من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون. . .

هذه كانت معركة الأسبوع الماضي

وستنشب في الأسبوع المقبل معركة أخرى بين هؤلاء الكتاب الكبار وسيدخلها غيرهم، وقد جاءتني أنباؤها، واطلعت على ما أعد هؤلاء الكتاب لها من وسائل الهجوم وعدد الدفاع فآثرت أن أستعجل الزمن وأن أطلع قرائي على ما أطلعتني عليه الصدف، أو الملائكة

ما قل ودل

لما كنت في باريس، في المرة الأخيرة، ألقى صديقي الأستاذ مارسيل دوديه محاضرة قيمة في دار جمعية (الشمس والقمر والنجوم) كان أهم ما جاء فيها قوله المأثور: (إن الإنسانية يجب عليها أن تفكر منذ الآن في البحث عن وطن جديد غير الأرض تكون نسبة الأكسجين في مناخه أقل من نسبته في مناخ كوكبنا هذا، فإنه لا شيء يساعد على إشعال النفوس بالغيرة والحقد والغيظ مثلما يساعد الأكسجين على ذلك). . . وقد أثبت الأستاذ مارسيل دوديه نظريته هذه بصور كثيرة عرضها بالفانوس السحري كما أنه قام أمام النظارة بعدة تجارب أجراها على الأرانب والجرذان وعلى نوع خاص من الحشرات لا يوجد مثله في مصر ويوجد منه كثير في فرنسا وسامه اللاتيني (سانكا مانكا هوساروم) وقد دلت كل التجارب التي ألقاها الأستاذ مارسيل دوديه على أن نظريته صحيحة كل الصحة، ولكن الحرب لم تمهله حتى يتم أبحاثه فقد فوجئ بصفارات الإنذار وهو في معمله. ولست أدري ماذا حدث له بعد ذلك وإن كنت آسفاً كل الأسف على أن بحثاً جليلاً كهذا وئد وهو في طفولته. . .

أ. . .

البحث مستمر

كتب صديقنا الأستاذ الصاوي يقول: إنه كان في باريس حين ألقى العلامة الفرنسي الجليل الأستاذ مارسيل دوديه محاضرته الخالدة عن (المسكن الجديد) وهو الكوكب الذي كان هذا العلامة الفذ يريد أن ينقل الجنس البشري إليه فراراً من الأكسجين الأرضي الذي يشعل في النفوس الغيرة والحقد والغيظ فيسبب بها الحروب والويلات والأهوال. . .

والحقيقة هي غير ما قال الأستاذ الصاوي، فأنا الذي كنت في باريس في ذلك الوقت، وأنا وحدي الذي حضرت هذه المحاضرة القيمة، ولقد رويت ما استقيته منها للأستاذ الصاوي عندما قابلته في اليوم التالي في مطعم (سان سوسي) حيث قال لي إنه هبط باريس منذ ساعتين فقط، وما كنت أظن الأمانة العلمية تهون على الأستاذ الصاوي إلى حد أن ينسب لنفسه الاستماع إلى ما لم يسمعه، وادعاء العلم بما لم يأخذه بنفسه على أهله

وإني استحلف الأستاذ الصاوي بالضفدعة التي أكلناها معاً في ذلك اليوم أن يعود إلى الحق فينسب الفضل إلى أهله وذويه

على أنه لا يهمني كثيراً أو قليلاً أن يأخذ عني الأستاذ الصاوي هذا الذي أخذه، فكم أخذت مني معلومات نسبها الآخذون إلى أنفسهم وهي لي أنا تعلمتها في رأسي هذا الذي أحمله فوق كتفي والذي كدت أنوء بأثقال العلم التي احتواها.

ومع هذا فإني سعيد. ومن أسعد من العالم الذي يرى علمه يتفشى في الناس، ويروج ويذيع؟

هذه كلمة عاجلة أردت بها أن أضع الحق في نصابه، وكفاني الحق وكيلا.

زكي مبارك

(حاشية):

نسيت أن أقول إنه بلغني أن الأستاذ مارسيل دوديه لا يزال مستمراً في أبحاثه.

موضوع للتفكير

كثر اللغظ في هذه الأيام حول موضوع الهجرة من الكرة الأرضية إلى كرة أخرى من هذه الأكر المنثورة في الفضاء. الواقع أنه موضوع جدير بالتفكير، وإن ظهر لنا اليوم أنه قد يكون بعيد الحدوث. ولكن كل الاختراعات التي حققها العلم في هذا العصر كانت في العصور السابقة أحلاماً اعتبرها الناس إذ ذاك بعيدة الحدوث

والذي يراجع التواريخ ويقلب الكتب يجد أن رجال الآداب والفنون عادة هم الذين يسبقون رجال العلم في تخيل هذه الأحلام، ويجئ رجال العلم بعدهم فيحققونها

والأستاذ مارسيل دوديه رجل من كبار الأدباء والفنانين والمفكرين لا في باريس وحدها، وإنما في أوربا كلها، وهو شيخ تجاوز التسعين من العمر، وقد كان هو أول من فكر في اختراع الدبابات، وإن لم يكن تفكيره قد اتجه إليها مباشرة، ففي نهاية الربع الثالث من القرن الماضي كتب الأستاذ مارسيل دوديه قصة (السلحفاة الحديد) ونشرها في جريدة (العقل الجديد). فاستغل العلماء هذه الفكرة واخترعوا بها الدبابة

وعلى هذا الأساس أستطيع أن أدعو الأدباء والكتاب والفنانين والمفكرين المصريين إلى أن يسرحوا في عالموت الخيال ما استطاعوا عسى أن يوفق أحدهم إلى فكرة يمكن تحقيقها مادياً. وعندئذ يكون لمصر فخر المهاجرة بالبشرية من هذا الكوكب الذي قضى ربك أن ترتفع فيه نسبة الأكسجين ارتفاعاً يسبب الحروب والكوارث

فما رأى الكتاب عموماً؟ وما رأى أخي طه على الخصوص؟

أحمد أمين

أوهام لست أدري كيف جاز على الأستاذ أحمد أمين أن هناك أستاذاً في باريس اسمه مارسيل دوديه، وأن هذا الأستاذ عضو في جمعية اسمها جمعية الشمس والقمر والنجوم، وأن هذا الأستاذ ألقى في هذه الجمعية محاضرة عن الأكسجين في الأرض والأكسجين في الأرض والأكسجين في السماء، وأن هذه المحاضرة خرج منها السامعون أو السامع الواحد الذي يؤكد أنه سمعها ورأى فيها صوراً بالفانوس السحري وتجارب على الأرنب والجرذان، وعلى تلك الحشرة العجيبة التي اسمها (سانكا مانكا هوساروم). . . بفكرة هي أن الناس يستطيعون أن يعيشوا في أرض غير هذه الأرض وفي جو غير هذا الجو. . . مع أن قصة هذه المحاضرة كلها من أولها إلى آخرها ليست إلا مزاحاً أراد به صديق عابث أن يلهو مع الدكتور زكي مبارك الطيب القلب السليم النية، فقدمه إلى شاب من هواة التمثيل في باريس، بعد أن تنكر هذا الشاب في زي شيخ من العلماء الطاعنين في السن. وقد اختلق هذا الشاب الماجن الساخر كل ما حسبه الدكتور زكي مبارك حقاً، وألقى عليه المحاضرة الساخرة في نادي التمثيل الذي ينتسب إليه، وقد حسبه الدكتور المبارك جمعية علمية يعمل أعضاؤها على هجرة الأرض وسكنى السماء. . .

وقد كنت أربأ بصديقي الأستاذ أحمد أمين عن تصديق مثل هذه الأشياء، ولكن يظهر أن الذين قالوا: إن لكل عالم هفوة لم يكونوا كاذبين.

طه حسين

ولكني مسرور

بعد أن فضح أستاذنا الدكتور طه حسين ذلك الشاب الفرنسي الخبيث الذمي ادعى أنه أستاذ علامة، وأن اسمه مارسيل دوديه، وأنه يبحث عن سعادة البشرية واطمئنان الإنسانية، فحملني الخبيث على تصديقه والإيمان به. . .

بعد هذه الفضيحة، قد يحسب القراء أنني أريد السفر إلى باريس الآن لأبحث عن هذا الشاب وأخنقه وأشرب من دمه. . .

ولكن لا. . .

فما هذا والله إلا من ظرف باريس، ولطف باريس وإنك لا يمكن أن تجد هذه الدعابة العذبة الحلوة الشهية إلا في باريس

رعاك الله يا باريس، وجدد شبابك، وأعاد لك البهجة والحبور، ولتمزحي معي بعد ذلك كيف شئت. . .

يا باريس. . .

زكي مبارك

وأخيراً

تيقظت من تأملاتي العميقة التي يسبح فيها فكري في سماء الفن البنفسجية المتماوجة الأضواء، على صوت شاب من جماهير المعجبين بي الذين يضايقونني بزياراتهم وأسئلتهم التي يوجهونها إليّ بالتليفون وبالبريد، وبالتلغراف أحياناً، ظناً منهم أنني ما دمت مفكراً وفناناً وفيلسوفاً فإنني أستطيع أن أصغي إلى أسئلتهم وأن أجيب عنها مع أنني أتعب نفسي كثيراً في عملية الإصغاء والفهم، فعقلي الطائر وراء الحقائق المتراقصة فيما بعد آفاق الإدراك لا يستطيع أن يغوص إلى حيث تدب المخلوقات العادية على أرض العقل الناعس المتهدل

تيقظت على صوت ذلك المعجب وهو يسألني رأيي في مسألة الأستاذ مارسيل دوديه؛ فطلبت منه أن يقصها عليّ بمنتهى الإيجاز حتى أستطيع أن أحصرها فلا تفلت منها شاردة ولا واردة، فلما فرغ منها طلبت منه أن يعطيني مهلة يوماً أو يومين حتى أفكر في هذا الموضوع

وبعد طول التفكير نتأت في عقلي فكر جديدة، وهي: لماذا لا نتخلص من هذه الأبدان التي تحتاج إلى الأكسجين والهيدروجين وسائر هذه المواد التي تحجب عنها أنوار الأفراح المقامة في السماء؟

وأخيراً اعتزمت أن أبدأ بهذه التجربة. . .

وكما طلبت من ذلك الشاب المعجب بي أن يمهلني فأمهلني حتى اهتديت إلى هذه الفكرة، فإني أطلب من القراء أن يمهلوني هم أيضاً حتى أهتدي إلى الطريقة التي يمكن بها أن نتخلص من أجسامنا الكثيفة توفيق الحكيم

. . . وهذه (هدنة) تقف عندها المعركة

(عزيز أحمد فهمي)