مجلة الرسالة/العدد 368/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 368/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1940



الوضع الحقيقي لمشكلة

جابر بن حيان

للأستاذ أحمد زكي صالح

الباعث على نشوء مشكلة جابر

نحن الآن أمام شخصية فذة، ذلك لأن (جابراً) هو شخصية العلم، لا في العصور الوسطى الإسلامية فقط، ولكنه شخصية العلم في القرون الوسطى الأوربية.

ومنذ عام 1922، احتلَّت مشكلة جابر بن حيان الصدر والمكانة الأولى بين أهم المسائل التي عالجها العلماء المستشرقون في أوربا بوجه عام وفي ألمانيا بنوع خاص

ويمكن أن نقول: إن من أهم الأسباب لنشوء مشكلة جابر بن حيان وجود عدد معين من الكتب الكيميائية اللاتينية التي ينسب أصل تأليفها العربي لجابر بن حيان العربي المسلم

وهذه الكتب تعرف في الأدب اللاتيني الكيميائي بالأسماء الآتية

1.

2.

3.

4.

ولعل أهم باعث على الشك في صحة نسبة هذه الكتب لجابر بن حيان، هو هذه اللغة الواضحة، وذلك الأسلوب الجميل، وهذا العرض المنسجم الطلي، وغير ذلك من ظواهر الوضوح الفكري التي كتبت بها هذه الكتب. ذلك في حين أن التراجم اللاتينية لبعض المؤلفات العربية الأخرى كانت في لاتينية مضطربة وأسلوب مشوه قبيح، ولهذا السبب خُيِّل لبعض العلماء المستشرقين غموض أصل هذه التراجم وأنها مدخولة على جابر بن حيان

ولكي نعرض المشكلة عرضاً حسناً، ونضعها في وضعها الصحيح يجب أن نعرضها على شكل أسئلة نحاول أن نجاوب عليها، فإذا استطعنا ذلك سهل علينا إصدار الحكم الصحيح في هذه المشكلة، فنتساءل:

أولاً: هل يمكن أن تكون الكتب الكيميائية التي عرفت في الأدب الكيميائي في القرون الوسطى تحت اسم من أصل أوربي؟

ثانياً: إذا لم تكن هذه الكتب من أصل لاتيني فهل يمكن أن تكون ذات أصل عربي؟

ثالثاً: هل حقاً أن هذه الكتب كتبها جابر بن حيان العربي المسلم؟

رابعاً: إذا كان كذلك، فمن هو جابر إذن؟

ولكن في عرضنا للمشكلة، لن نعرض لها جزءًا جزءًا، ولكن سنعرضها ككل، وبعد ذلك نناقش ما وصلنا إليه من نتائج

شخصية جابر بن حيان

جابر بن حيان من تلك الشخصيات التي عاشت في صدر الإسلام، وكلنا يعرف أن أهم ميزة يمتاز بها رجال هذا العصر هي العقلية الجامعة العامة، وأعني بها تلك التي يطلق عليها وجابر خير من كان يمثل هذه العقلية، إذ أنه جمع بين العلم والأدب، وكان فيلسوفاً ومتكلما شيعياً، وكيميائياً، ومنطقياً، وإماماً للشيعة، وطبيباً، وإذا عرفنا شيئاً عما يذكره (الفهرست) من مؤلفاته أمكننا أن نتصور على أي شكل وصورة كانت عقلية جابر

فنحن نجد في (الفهرست) إلى جانب ما يذكره له من كتب الكيمياء وهي حوالي 250 كتاباً، نجد كذلك 300 كتاب في الفلسفة و 500 في الرد على الفلاسفة، و1300 في العلوم الآلية والحيل ومثيلها في عدد الحروب، و 500 ونيفاً في الطب، وعدداً كبيراً من الكتب في علوم التنجيم والفلك والسحر والتعويذ والعلم الإلهي

ونحن لا نذهب إلى القول بصحة ما جاء في هذا الثبت، فقد يكون ابن النديم قد فهم (الرسالة) على أنها كتاب أو أراد التهويل، ولكن الذي يعنينا هنا أن ابن النديم يريد أن يصور لنا عقلية جابر بن حيان على أنها عقلية جبارة

أصول الترجمة اللاتينية لمؤلفات جابر

ليس من شك في أن اتحاد شخصية التي يقول بعض المؤرخين إنها الشخصية اللاتينية المؤلفة للكتب السابق ذكرها مع شخصية جابر بن حيان - يكون عديم القيمة إذا كانت نسبة المؤلفات اللاتينية لجابر محض انتحال، وفي نفس الوقت تقدم البرهنة على ذلك مفتاحاً لمصادر هذه المؤلفات. وفي اختبارنا إياها كي نرى هل هناك احتمال يمكن أن يدل على أصلها العربي يتحتم علينا أن ندرس الكتب العربية لجابر بن حيان التي وصلت إلى أوربا؛ ولكن الأهم من هذا كله هو أن ندرس محتويات هذه الكتب الأربعة التي سبق أن أشرنا إليها

فكتاب (الجمع) الذي يعد بحق أعظم وأهم مؤلفات جابر كلها، قسم إلى كتابين: الكتاب الأول مقسم إلى أربعة أبواب؛ والثاني إلى ثلاثة:

فأما الباب الأول من الكتاب الأول فإن المؤلف يعالج فيه الصعوبات التي يقابلها الكيميائي في تحضير الإكسير. وفي الباب الثاني يدحض جابر براهين وأقوال أعداء الصنعة وخصومها. واختص الباب الثالث بمناقشة خصائص عناصر الكبريت والزرنيخ والزئبق التي منها تتكون المعادن في نظر جابر بن حيان. ويبين في الباب الرابع الكيفيات التي بها تعالج المعادن والكحول والتبر ووصف التجارب الخاصة بكل معدن؛ ثم تحدث بعد ذلك عن العناصر الهامة والأجهزة اللازمة لكل تجربة

وفي الباب الأول من الكتاب الثاني عالج تحضير الكحول وبعض المعادن، ثم في الباب الثاني ذكر عدداً من الوصفات الطبية لا بأس بها، وفي الباب الثالث ذكر بعض التجارب التي لا تحتاج إلى شرح طويل

وسنقتصر هنا على ملخص هذا الكتاب لأهميته ولإحرازه قصب السبق على الثلاثة الآخرين، إذ أن هذا الكتاب أخذ منزلة إنجيل الكيمياء في العصور الوسطى فضلاً عن أنه نشر مرات باللاتينية منذ العصور الوسطى حتى الآن

مناقشة آراء المستشرقين في جابر ومؤلفاته

ولقد عَزّ على بعض المستشرقين أن يوجد مثل هذا المفكر الجليل الشأن، في الشرق خاصة وفي الإسلام عامة؛ فأخذوا يبتدعون أساليب الشك، ويحاولون بمعاول الهدم أن ينالوا من جابر بن حيان، ولكن هل قُدر لهم النجاح فيما أرادوا؟

هذا ما سنحاول الإجابة عنه!

وضروري جداً، لمن كان في سبيل بحث كبحثنا هذا، أن يؤرخ تأريخاً بسيطاً لحركة الاستشراق العلمي

كانت دراسة المستشرقين للناحية العلمية في العالم الإسلامي عديمة القيمة في القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر؛ ولكن منذ خمس وعشرين سنة ظهرت حركة جديدة في محيط الاستشراق لتبيّن أصول العلم العربي الذي يوجد بين طيات تلك المخطوطات العربية العديدة الموجودة في دور الكتب الشرقية والغربية، والتي يرجع الفضل في نشر بعضها إلى: برجستراسر وبراون وتكاتش وسوتر ومسبيرو

وهناك مدارس كثيرة من تلك التي اختصت بالكيمياء والطب والفلك والرياضة والطبيعة والفلسفة صبغت نفسها في نفس الوقت بصبغة استشراقية، نذكر من هؤلاء: رسكا وودمان وستشو وكروس وبلستر وسرطون ورينو وغيرهم

تقرير الأستاذ شميدر

الأستاذ شميدر له صولة وجولة في تاريخ الكيمياء، وبطبيعة الحال اتصل بحثه بمشكلة جابر بن حيان ومؤلفاته، ونحن نقتطف بعض عبارات مما كتبه:

قال: إن أشهر الكتاب العرب الذي عالجوا الصنعة (أي الكيمياء) هو جابر بن حيان الذي عاش حسب تقدير ليوافريكانس في القرن الثاني الهجري، ويمكن أن يقال بالدقة في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد. وليس ثمة عربي قبل جابر استطاع أن يكتب مثل ما كتب جابر. وليس ثمة عربي بعده استطاع أن يصل إلى مثل ما وصل إليه جابر، الأمر الذي ترتب عليه أن أطلق على جابر بن حيان في التراجم اللاتينية اسم (ملك العرب)، وإنه ليظهر لي غريباً وبعيد الاحتمال أن أولى محاولات التأليف في موضوع معين في شعب من الشعوب قد تبلغ هذه المرتبة من الناحية العلمية، ولكن المشكلة زال ما كان يعتريها من غموض بفضل استكشاف ليوافريكانس الذي ذهب إلى القول بأن جابر لا يمت إلى العرب بصلة، وإنما هو منحدر من سلالة إغريقية. فلقد عاش جابر في إشبيلية بأسبانيا حيت ألم بكل فروع الفلسفة اليونانية العربية، وربما يكون جابر هذا هو الذي أنشأ الجامعة العربية هناك، أو على الأقل يمكن أن يعتبر مؤسس مدرسة فلسفية انتشر تلاميذها في القارات الثلاث، وأخذوا ينشرون العلم باسم جابر بن حيان. ولما كانت كل مؤلفات جابر بالعربية فإنه اكتسب لنفسه الجنسية العربية وكذلك اكتسبها لعلمه ولكن إذا أنعمنا النظر في هذا الرأي الذي يأخذ به الأستاذ شميدر وجدناه مليئاً بالأغلاط التاريخية، وذلك أن جابراً لم يذهب إلى إشبيلية، وما عاش بها قط، إنما عاش متنقلاً في بلاد المشرق بين الكوفة وبغداد، وأن جميع كتب التاريخ العربية تثبت لنا ذلك بشكل قاطع، هذا أولاً، وثانياً: إذا كان صحيحاً ما يقول به شميدر من أن جابراً معتنق جديد للدين الإسلامي، فما هو اسم جابر الأصلي؟ ولمَ لَمْ تذكر في كتب التاريخ هذه الحقيقة؟ وهبني سلمت بصحة ما يقول به شميدر فكيف يمكن التوفيق بين ما يقول به وبين ما تقول به كتب التاريخ الصريحة من أن جابراً تولى إمامة الشيعة، بعد موت جعفر الصادق، وهم على ما هم عليه من تطرف وغلو شديدين في الدين الإسلامي؟

وهذا كله لا يسعنا إلا أن نرفض ما يقول به الأستاذ شميدر

تقرير الأستاذ مايرهوف

يرى الأستاذ مايرهوف أن تلك الكتب التي تنسب لجابر هي في ذاتها مشكلة، إذ كيف يتيسر أن نفهم أن رجلاً عاش في القرن الثامن وله كل هذا الاطلاع على الأدب اليوناني الكيميائي؟ ولكن يظهر أن هذه المؤلفات من أعمال جمعية في القرن العاشر من الميلاد أي القرن الرابع الهجري شبيهة بتلك التي أطلقت على نفسها (إخوان الصفاء). وأسماء المؤلفين اليونان هي التي تذكر فقط أعمال جابر الطبية، ولكن النصوص بعيدة عن أصحاب هذه الأسماء جد البعد، وتدل على روح مدرسية صريحة، ففي حين أنه قليلاً ما يأتي ذكر الأعلام السريانية والهندية، نجد كثيراً ما وردت الأعلام الفارسية. . . وعلى أية حال فمن المشكوك فيه أن نعدها الحلقة الأخيرة من سلسلة تقدم علمي امتد من عصر ما قبل الإسلام إلى العصر الإسلامي

ولكن رأى مايرهوف لا يعدو أن يكون تقريراً ساذجاً، فالأستاذ رسكا يقول: إن المسألة لا يمكن أن تفسر هذا التفسير البسيط الساذج من أن أعمال جابر بن حيان إنما هي أعمال مدرسة استمرت عدة قرون

ولكن، فلنتوسع قليلاً في مناقشة ما يذهب إليه مايرهوف: فمايرهوف يبني أساس برهانه على أنه لا يمكن لجابر أن تكون له هذه المعرفة الواسعة المدى بالكيمياء، وهو الذي عاش في القرن الثامن للميلاد، ولكن أنسى الأستاذ مايرهوف وهو الفطن اللبيب الذي بحث في الأصول التي استقى منها الإسلام العلم وبين بكل وضوح وجلاء أنه ما أتى القرن الثاني من هجرة الرسول، أي القرن الثامن من الميلاد، حتى كان لدى المسلمين معرفة حسنة بل جيدة بالعلوم، وخاصة الطبيعية منها التي كانت لدى الفرس والسريان والهنود والمصريين واليونان

ولكن يمكن أن نلتمس له عُذراً إذا عرفنا أن المدة بين رأيه الأول ورأيه الثاني تقرب من ثماني سنوات. فإذا كان مايرهوف سنة 1937 يهدم الأساس الذي بنى عليه مايرهوف تقريره سنة 1930 فلا يسعنا إلا أن نرفض النتيجة المترتبة على رأيه الأول، وهي أن أعمال جابر من أعمال مدرسة امتدت حوالي ثلاثة قرون

(يتبع)

أحمد زكي صالح