مجلة الرسالة/العدد 369/الحرب في أسبوع

مجلة الرسالة/العدد 369/الحرب في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1940



للأستاذ فوزي الشتوي

أي الصلح يريد؟

عرض هتلر في حديثه إلى مجلس الريشستاغ الألماني إلى موضوع الصلح مع إنجلترا، فأبدى استعداده للدخول في مفاوضاته؛ ولكن أي صلح يريد هتلر؟ ولماذا يبدي استعداده اليوم بعد مضي شهر على تسليم فرنسا؟ الحقيقة أن هتلر لا يريد الصلح، وهو لم يكن في يوم من أيام حياته من مريدي السلام؛ بل هو في حالة حرب دائمة، فإذا كانت ألفاظ السلام على شفتيه، فعقله وقلبه يعملان للحرب، فصلحه وسلامه يقومان على الغدر والخيانة واستغلال الفرص للقضاء على سلام غيره

فتاريخ هتلر مملوء بالصفحات السوداء من تغرير، وخيانة، وغدر، وخديعة؛ ولم يتورع في تصرفاته عن استعمال أسلحة القتل والجريمة، فعندما أراد ضم النمسا دفع رجاله لاغتيال دلفوس زعيمها، فلما خاب مسعاه في المرة الأولى كرره في المرة الثانية، إلى أن تمكنوا من قتله، وعندئذ بدا هتلر على حقيقته زعيماً للمجرمين، فحمى القتلة، بل وزاد أن مجد ذكراهم لأول مرة في تاريخ الإنسانية، فوضع على قبور من اقتصت منهم العدالة أكاليل الزهر، وأقام نصب التخليد. فيالها من أكاليل ويالها من نصب!

الاختطاف الدولي

وعندما أراد أن يضم إلى بلاده مناطق السوديت توطئة لوضع تشيكوسلوفاكيا تحت سيطرته تبع نفس الوسائل، ولكن بطرق أخرى؛ فبدل أن يقتل اختطف، فاستدرج الرئيس هاشا بحجة المفاوضة، فلما وصل إلى ألمانيا أحاطه بالحرس المسلح، وألقى إليه بشروطه، على أنها شروط لا تقبل المفاوضة؛ فلما رفضها، برزت المسدسات من مناطق الرجال، وحيل بين هاشا والنجاة وجعلت شروط الصلح شروط الفدية، مذكراً بمصير (شوشنج) وما يعانيه من آلام الأسر، وعذاب رجال الجستابو

وعبثا حاول هاشا الخلاص من التهديد أو الإكراه إلى أن نفد احتماله وأغمى عليه مرات، ولكن الأطباء المعدين في حجرة مجاورة كانوا يسعفونه بالعلاج حتى يتمكن من إمضاء الاتفاق؛ وبعد ساعات من الاضطهاد المتواصل خارت قوى الشيخ فسلم الفدية وأمضى الاتفاق

فأي فرق بين هتلر وعصابات الاختطاف والسرقة؛ فالأول يقتل الزعماء ليتخلص من عزيمتهم، ومن منافستهم، ليسلب بلادهم حريتها، وليبعث الرعب في قلوب غيرهم؛ والآخرون يقتلون منافسيهم وغرماءهم ليسلبوهم أموالهم؛ والأول يختطف رؤساء الدول مستغلاً قواعد المعاملات الدولية، ويجعلهم رهينة ترهب وترغب، إلى أن يكرهوا على تسليم الفدية؛ والآخرون يخطفون الأثرياء طمعاً في فدية يحصلون عليها من ذويهم

أي فرق بين هاتين العصابتين؟ وإذا كانت الأمة لا تسمح لمثل هذه الطائفة بالعيش، وتسلط عليها رجال الأمن للقضاء عليهم، فهل يحق للعالم أن يترك هتلر يقتل الزعماء ويختطف الساسة تحت ستار السلام؟

وإذا أردنا أن نذكر تصريحات هتلر ووعوده مع بولندا والدانمارك والنرويج وبلجيكا وهولندا، ضاق نطاق المقال، وأعدنا على القارئ سيراً مؤلمة

وشعر هتلر بأن النصر بعيد، وأن الهزيمة أقرب منه، فأراد أن يهرب من مصيره، ولوح للعالم بالسلام، ولكن العالم يعلم ما يخبئ لهم هذا السلام، فإن هي إلا فترة من الزمن يبث فيها رجال الطابور الخامس في إنجلترا فينشرون الرعب والخيانة بين رجالها، وإن هي إلا فترة من الزمن يستعد فيها هتلر بقوات تمكنه من غزو إنجلترا حتى يبدأ الحرب الفعلية من جديد، وهذا هو السلام الذي يريده هتلر

ولم الآن. . .؟ إن الشهر الذي انقضى منذ توقيع الهدنة الفرنسية لم يمض عبثاً، فقد خبر فيه هتلر قواته، وشاهد نتائج إغاراته على إنجلترا، فعرف أن بريطانيا العظمى بعيدة المنال، وأن سلاح العنف لن يصل به إلى غرضه، فعاد إلى سلاح الخديعة ليوهم أنصار السلام بأنه ملاك، وليحمل إنجلترا تبعة استمرار الحرب، فيشتد عضد أنصار الهزيمة فيها، وتسري في الرأي العام لهجة الصلح، ولكن هيهات! ففي تاريخ إنجلترا كله ما يدل على أنها إذا عزمت على أمر فلا مفر منه إلى النهاية

وهي خلة فرضتها عليها الظروف، فهي تبدأ الحرب متراخية ضعيفة، ولكنها لا تلبث أن تحشد جهودها، وتوجه قوتها إلى الغرض المنشود، وهي تتكلف في هذا التحول كثيراً من الخسائر المادية والأدبية مما يعز عليها أن تتخلى عنه وهي في منتصف الطريق

سياسة الإمبراطورية

فهي تضع خطة نضالها على حرب طويلة الأجل، تكون في نهايتها أقوى منها في أولها، وقد فرضت عليها سياستها الإمبراطورية هذا السبيل حتى لا ترهق شعوبها بالاستعدادات الحربية في زمني الحرب والسلم، وتكتفي بالسيطرة على جميع المواد في زمن الحرب؛ وغني عن القول أن مواردها تنمو في فترة السلم نمواً كبيراً بفضل تقدم العمران، وأن شعوبها إذا أحست بالخطر ضحت في سبيله، حرصاً على رفاهيتها من أن تهددها دولة أخرى؛ وعلى هذا الأساس تدخل الميدان واثقة من قوة عزيمة رجالها، واثقة من اتساع مواردها

عرف هتلر كل هذا واختبره، ولهذا السبب يعرض الصلح الآن. فخير له أن يحل مشاكله وهو قوي من أن يحلها وهو ضعيف، فالحالة الأولى تتيح له التهديد بالرفض أما الثانية فلا يسعه فيها إلا القبول، فقد أدرك الآن أن خطة الحرب الخاطفة التي بنى عليها سياسة انتصاره يرجح فشلها على نجاحها

في الشرق الأقصى

وثمة ميدان آخر بدأت الحياة تدب فيه، وبدأ الناس يتكهنون بما يجري فيه، فسألني عدة أصدقاء ما هو الموقف في الشرق الأقصى؟ ماذا ينتظر أن يجد فيه من الأحداث السياسية والعسكرية؟

فهناك أمريكا واليابان والروسيا والصين؛ وهناك أيضاً أملاك لهولندا وقد احتل بلادها الألمان، وأملاك لفرنسا وقد سيطر على فرنسا النازيون، فانقطعت الصلة العسكرية بين هذه الممتلكات وبين أمها، بحيث يتعذر عليها وحدها الوقوف أمام غزو ياباني سياسي أو عسكري

والموقف في الشرق الأقصى دقيق لا يتيح للباحث أن يقطع فيه برأي، وأمريكا هناك هي القطب الرحى، وهي أقدر دولة على حفظ التوازن والسلم ولو إلى حين. وقد ناقشنا في مقالنا الماضي ناحية من العلاقات وتضارب المصالح بين الروسيا واليابان ونناقش الآن موقف أمريكا في هذا المجال، فإن كانت مصالحها في أوربا لا تدفعها إلى دخول الحرب والاقتصار على إمداد إنجلترا بالعتاد الحربي فإن مصالحها في الشرق الأقصى رغم اتساع المحيط الهادي تدفعها إلى الاحتفاظ فيه بالتوازن الدولي بجميع الوسائل ومنها الحرب

المصالح الأميركية

فقد تضاعفت تجارتها في الصين قبل حربها مع اليابان حتى بلغت ستة أمثال ما كانت عليه، فأصبحت 250 مليون دولار؛ فإذا اعتبر هذا المبلغ بسيطاً بالنسبة لأمريكا، فإن زيادته المطردة وتضاعفه في فترة قصيرة مما يبعث كبير الأمل في نفوس الأمريكيين ولا سيما أن الصين بدأت تأخذ بأساليب الحضارة الحديثة من صناعية وزراعية

واستيلاء الروسيا أو اليابان على الصين يقضي على التجارة الأمريكية فيها، ويهدد أميركا ودولها بالغزو، فبنت أمريكا سياستها في الشرق الأقصى على ألا تكون لإحداهما فيه إمبراطورية واسعة تضم إليها الصين، ومن ثم يسهل عليها الاستيلاء على الجزر الواقعة في المحيط الهادي وأهمها الفلبين وهاواي، وعندئذ يتاح لها أن تغزو أية دولة شرق المحيط الهادي، وتتخذها قاعدة لتهديد الولايات المتحدة تهديداً مباشراً

ومن سياسة أميركا في الشرق أيضاً أن تثبت أقدام الدول الأوربية فيه، حتى لا تكون مهمة حفظ التوازن واصطدام المصالح قاصرة عليها، فعندما اشتدت حركة الحصار الياباني على تيانتسين، واتخذ اليابانيون مع البريطانيين وسائل قاسية تدخلت أميركا وهددت اليابان بقطع العلاقات التجارية

ولتهرب اليابان من المسئولية الدولية بنت سياستها على المكر والدهاء، فألفت حكومة صورية في منشوكو لتنفذ بها سياستها؛ فعلى حكومة منشوكو أن تزرع وعلى اليابان أن تجني الثمر ناضجاً، فمنطقة شنغهاي مثلاً منطقة دولية موزعة على الدول، فتلبس حكومة منشوكو قفاز اليابان وتطالب الدول بإخلائها، فإذا احتجت الدول إلى اليابان على أنها المحرك الأصلي قالت إنها غير مسئولة عن تصرفات حكومة أخرى مستقلة

أمريكا تعمل ولهذا برزت في الدوائر الأمريكية فكرة تضع اليابان في وسط المعضلة، فتخطر بأن كل حركة أو عمل ينفذ من جانب حكومة منشوكو تعتبر اليابان مسئولة عنه، وتتخذ قبلها العقوبات أو التصرفات اللازمة

أما هذه التصرفات فهي:

1 - عرقلة التجارة اليابانية في أمريكا وهي أكبر عملائها، فتفرض الضرائب على الواردات اليابان

2 - عرقلة مساعي الصين في اليابان وإفساد خططها

ويؤيد هذين التصرفين الموقف الدولي الحاضر وحالة الحرب الناشبة في الميدان الأوربي والميدان الصيني، وقد نتجت عنه ثلاثة عوامل

ا - تعتمد اليابان على التجارة الأمريكية، فلم يبق لها من أسواق سواها

ب - ضعف اليابان نتيجة لحربها مع الصين وصعوبة تخلصها من هذه الحرب

ج - ضرورة احتفاظها بقوات بحرية وبرية كبيرة لتدافع عن ممتلكاتها إذا نشبت الحرب بينها وبين إنجلترا

ولا تعتمد أمريكا على اليابان اعتماداً كبيراً في تجارتها، فالأقطار الأمريكية من أغنى أقطار العالم، وهي البلاد الوحيدة التي تستطيع الاستغناء عن الدول الأخرى لاتساع رقعتها وتوفر خاماتها

وقلنا في مقالنا السابق أن مساعي إنجلترا للصلح بين الصين واليابان على وشك النجاح، ومعنى هذا إضعاف هذه العوامل وخصوصاً العامل الثاني، ولكنه يلاحظ أن صلح الصين واليابان لا يعيد للأخيرة ما فقدته من عتاد وقوات حربية، ولكنه يعطي لهذه البقعة السلام، وهو ما ترجوه الدول ذات المصالح فيها، حتى تعود تجارتها واطمئنانها إلى سابق عهدهما

وهناك عامل آخر يحبذ وقف القتال بين الصين واليابان، فالخطر الأكبر هو أن تسيطر الروسيا على الصين، وهذه نتيجة طبيعية لاستمرار الحرب، فإن أمل الصين في الانتصار ضعيف نظراً لتفوق اليابان العسكري وموقعها الجغرافي الحصين، فهي جزيرة كإنجلترا؛ فكل أمل الصين هو وقف الزحف الياباني أو إخلاء بعض المناطق الصينية المحتلة

وبعض المقاطعات الصينية خاضعة للنفوذ السوفياتي، فإذا طالت الحرب وتخلت قوات هذه المقاطعات فيها، فإن النفوذ السوفياتي ينتشر في الصين كلها، ويتدحرج من السلطة العسكرية إلى السلطة المدنية، وتصبح الصين بلاداً بلشفية، أو بعبارة أوضح تتكون الإمبراطورية الشرقية بزعامة الروسيا، وهو الخطر الذي تخشاه دول أمريكا وأوربا

وتخيف هذه النتيجة اليابان، لأنها إذا تحققت قضت على جميع أحلامها في الصين، وحققت أحلام الروسيا، وهو خطر يهدد جزر اليابان نفسها إذ توضع الأراضي الصينية تحت تصرف الروسيا، أو تصبح جزءاً منها كما حدث في ليتوانيا واستونيا ولتفيا، فقد بدأ النفوذ الروسي فيها صغيراً، ثم تدرج إلى أن أعلنت انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي

فمن مصلحة اليابان إذن أن تضع حداً لحربها مع الصين اتقاء لشر الروسيا، ولا سيما أن فقر الصين مرعى خصيب للمبادئ الشيوعية ومنها تنتقل العدوى إلى اليابان، فمستوى المعيشة فيها ليس أكثر ارتفاعاً منه في الصين، ولا يبعد اليابانيين عن الشيوعية إلا بعض المعتقدات الدينية والتقاليد التي لا تلبث أن تنهار أمام شظف العيش وغريزة حفظ النفس

ولهذا فلا يستبعد أن يكون الصلح بين اليابان والصين صلحاً شريفاً يقبله الطرفان ويحفظ كرامة المتحاربين.

فوزي الشتوي

بكالوريوس في الصحافة