مجلة الرسالة/العدد 369/في الأدب الإنجليزي

مجلة الرسالة/العدد 369/في الأدب الإنجليزي

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1940



دراسة شاعر قصصي

للأستاذ أحمد الطاهر

لنتخلف عن قافلة الزمان، ولنرجع إلى الوراء خمسة قرون أو ستة، ونحط الرحال في لندن، ونتخير أحد فنادقها، وليكن فندق (تابارد) في حي (سوث وارك). وما كنا لنهبط لندن في غير الربيع، فالأشجار وارقة غيناء تلتف أفنانها وتتلاقى خصلاتها وترف ظلالها، وهي لا تزال ملمة لم يحن وقت أثمارها وإن بكر بعضها، فما يزال الثمر أكماماً ونوراً، والطير يدوي في الأرض ويدوم في السماء، ثم يدف ولا يزال يواتر ذلك أبابيل ووحداناً تشدو بين إرنان شجي، وهزج دقيق، وترجيع شهي

يطرأ على الفندق جماعات من الناس مثنى وثلاث، يلقون عصا التسيار، وقد بدا على وجوههم أن تحلل بهم السفر فأعياهم: فيهم الرجال الأشداء، وفيهم النساء الضعيفات. ولكن لا يكاد أن يلتئم جمعهم حتى يشيع في وجوههم البشر، وتنطق قسماتهم بالسرور، ثم تغريهم كثرتهم فتنسيهم النصب والتعب، ثم يغرقون في اللهو والعبث؛ إن رأيتهم حسبتهم أطفالا قد استخفهم الفارح وازدهاهم الطرب

هذا خليط من الناس فيهم الطغام والهباء، وفيهم السادة والأحباء. أما هذا الرجل الأنيق البدين فهو أحد الفرسان، كمي جسور، مغوار مشهور؛ وأما هذا الذي وراءه فهو سيد من سادة الريف لعله صاحب القرية أو ذو الشأن فيها؛ وهذا الزري الضامر النحيف قس قد قنع بالكتاب عن فاخر الثياب، يلبس الأسمال والأخلاق، ويعلم الحكمة والأخلاق؛ وهذا الذي يرفل في الديباج الأحمر طبيب يلهج لسانه بالحمد والثناء، حين يذكر أيام الطاعون والوباء، إذا امتحنت المدينة عامين تعاون فيهما على الناس الطاعون والطبيب: ذلك يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وهذه الفتاة الناعمة الرقيقة راهبة من الرهبان، تتكلم الفرنسية بلهجة ظريفة سليمة، ولكنها لا تفهم لغة باريس؛ وحسبك أنها تعلمت الفرنسية في بلاد الإنجليز! أما الذي خلفها فراهب متعبد غير متأبد، لا يتذمم مع رهبنته من اقتناء الخيل والخروج للصيد، وهو ليس بالرجعي الذي يلزم القديم، بل هو مجدد كأهل هذا الزمان، لا يحبس روحه في القوس والصومعة، ولا عقله في الكتب والصحائف، ولا يكد بدنه بالزرع والحصاد، إنما همه في الحياة أن ينمي اثنين: كلب صيده ولحم بدنه. وبجواره شماس خبير بأهل المدينة ونواديهم وحاناتهم وخاناتهم، قد وهب جمال الصوت وحسن التوقيع والبداهة في المداعبة الحلوة والمحارزة المرة. وهذا رجل من عامة ذوي الأملاك مرح طروب يشغله في الحياة شيئان: الطعام المريء والخمر العتيق. وهذا كاتب قد ملأ رأسه من اكسفورد لا فرق بينه وبين جواده: كلاهما هزيل ناحل ما أغني عنه علمه وما وعى، فهو لا يزال حائراً يتخبط في غيهب الحياة، ينام الليل متوسداً أرسطو وفلسفته ويصبح خالي الوفاض لا يملك شيئاً، حتى إذا يسر له صديق هرع إلى المكاتب يلقي إليها بالمال، ويعود منها مثقلاً بأحمال؛ وهذه ربة دار امرأة صناع قد أبلت في عمرها خمسة أزواج أوردتهم جميعاً موارد العذاب، ولا تزال تتربص بسادس فهي تنصب للزوج شركا من الحب الزائف والود المصطنع حتى يقع فيه فترديه، وهذا نجار وهذا صباغ، وهذا فلاح، وهذا حباك، وهذا نجاد

كل أولئك الذين رأيت لهم قبلة واحدة هي الحج إلى بيت الشهيد توماس في كانتربري. فبيته مثابة المؤمنين ومقصد المخلصين

ولعلي قد أنسيت أن أحدثك عن صاحب الفندق فهو رجل حلو الفكاهة رقيق الحاشية يرى أن الحج ركن من أركان الدين، حكمة شرعته أنه سبب رزقه ومورد الخير له، وهو لا يدخر وسعاً في إيناس الحجيج وتيسير السبل لهم. وقد تراءى له أن يحج هذا العام فما فصلوا عن الخان حتى بدا له أن يجد سبيلاُ للترفيه عنهم ودرء أوصاب السفر، قال: يا قوم نحن ثلاثون فعلى كل واحد منا أن يقص على إخوانه قصتين في الذهاب ومثلهما في الإياب، فمن فازت قصته بالإعجاب فله عشاء في فندقي يدفع ثمنه بقية الصحاب

ولست أدري هل كانوا جميعاً قد قصوا ما قضي عليهم، ولكنني أعلم أن رجلاً منهم قد وعى ما سمع من القصص أو هو أجرى على أفواه الحجيج قصصاً تخيلها وأسماها (قصص كنتر بري)!

هذا الرجل هو (جوفري شوسر) أبو الشعراء الإنجليز وزعيم قصصيهم

ولقد أدرك القراء أن وصف الحجاج والفندق ووصف المدينة في الربيع، وكل ما قرءوا من أول هذا المقال، إنما هو مقدمة قصص (كنتر بري) للشاعر الذي ندرسه، نقلتها عنه في أمانة ووفاء، لنتبين أسلوبه، وندرس حياته وآراءه، وما تأثرت به كتاباته من آراء غيره ومما أحاط به من ظروف وأحداث كان لها الأثر في تفكيره وبيانه

فالشاعر كما ترون خلال هذه السطور القليلة التي قرأتم والتي أرجو أن أوفق للمزيد منها في مقال آخر، لا يحاول أن يبسط سلطانه على عقل القارئ ولا يختار موضوعاً اجتماعياً بعينه ليدلي فيه برأي قوي عنيف يفزع به القارئ أو يجذبه إليه، ولكنه يعمد إلى الحقائق المجردة والمشاهد المألوفة فيدعها تسيطر على عقله هو ثم يصفها لك كما أثرت في نفسه وكما يراها هو، فلا يلبث القارئ أن يؤخذ بالصورة التي رسمها له، ويتأثر بالعوامل التي تأثر بها الشاعر، فيرى بعين الشاعر ويفهم بعقل الشاعر في غير عناء ولا كلفة. وإنك لتدرك بعد هذا أن شاعرنا قوي السلطان على قرائه، ولكنه لا يقسرهم طاعته، شديد التأثير فيهم ولكنه لا يسلط عليهم قوته، وإنما هم القراء الذين يهرعون (لبضاعته) ويخضعون لطاعته والتأثير به. قال فيه أحد المترجمين له: (لم تكن هناك أخيلة قد ألقى عليها الشعراء ضوءاً يمكنه أن يختار منها ويقتبس، ولكنها كان يفحص الأشياء في حدود ضيقة لنفسه وبنفسه حتى يستطيع وصفها وصفاً لا يفترق عن صنعة المثال، فوصفه للطبيعة يشعرك بهبوب الريح ورطوبة الثرى وبرودة الجو)

وأحسب أن مما ساعده على هذه القوة الوادعة وهذه السطوة الهادئة أسلوبه التهكمي وسخريته الحلوة المرة إن جاز هذا التعبير، فأسلوبه حلو يستسيغه القارئ ولا يستطيع أن يعبس له، بل لا يسعه إلا أن يضحك منه ويتأثر به؛ وهو مر لأنه يكشف عن العيب الذي يريد الشاعر الكشف عنه، فيريك منه أبشع صورة وأشدها إيلاماً للنفس. أنظر إليه حين يصف أطباء عصره كيف يضحكك من وصفهم، وكيف يؤلمك من جشعهم وما نال الناس منهم ومن الطاعون: فطيبيه الذي يصف رجل يلهج لسانه بالحمد والثناء حين يذكر أيام الوباء، وهو والطاعون إذ اجتمعا على المدينة أفنياها، هذا يحصد الأرواح، وهذا يجمع الأرباح. وانظر إليه حين يصف المرأة المزواج يعبر عن ذلك بأنها (أبلت) في عمرها خمسة أزواج، ثم يدعها ويسخر من الرجال الذين يقعون في حبائلها. . .

ولعلك لمحت فيما قرأت له أن أكثر سخريته وأشدها منصب على رجال الدين من قساوسة وشمامسة ورهبان؛ ونحن نبادر قبل أن نعرض لهذا البحث - إن أتيح لنا أن نعرض له - فنقول إنه متأثر في هذا بعاملين: أولهما حال رجال الدين في ذلك العصر وما كان بينهم وبين الملوك والأمراء من تحاسد وتباغض وتنازع في السلطان، والملوك والأمراء هم أرباب الفضل والنعمى على شاعرنا؛ وثانيهما خضوعه في هذا وفي غير هذا لما تأثر به في آرائه وأسلوبه من كتابات الشاعر الإيطالي بترارك وغيره من شعراء الطليان الغابرين وكتابهم

ولد هذا الشاعر في لندن منذ نحو ستمائة سنة. وقليل ما عرف عن فجر حياته، بل لم يسمع اسمه في لندن إلا عندما كان موظفاً في بلاط الدوقة كلارنس التي كانت زوج ابن إدوارد الثالث

وكان شوسر لا يزال شاباً في طراءة السن، ثم انخرط في سلك الجندية وحارب في حروب فرنسا المعروفة بحروب مائة العام. قيل إن الفرنسيين أسروه وطلبوا له الفداء ويهظوا واشتطوا على أهله وصحبه في الفدية، فاكتتبت أولئك في جمعها وساهم الملك بماله في ذلك. ولما عاد إلى بلاده استخدمه الملك خاصة له وأصبح له في الأسرة المالكة منزلة محترمة. فكان موضع الثقة في السفارات، والرسول المجتبى في الملمات. سافر إلى فرنسا وإلى إيطاليا فحذق اللغتين وقرأ شعرهم ولقي شعرائهما. وشغل بعد هذا مراكز حكومية كإدارة المكوس وعضوية مجلس الشورى ورياسة المقاطعات، ولا تزال جامعتا اكسفورد وكمبردج تتنازعان بنوة هذا الشاعر

ولعله لا يتعاظمنا أمر فقره في أخريات حياته، فهذا شأن الكثيرين من الكتاب والشعراء حتى اليوم، ولعل هذا هو ما أوحى إليه وصف الكاتب بقوله: (ما أغنى عنه علمه وما وعى - حائر يتخبط في غيهب الحياة، ينام الليل متوسداً أرسطو وفلسفته، ويصبح خالي الوفاض لا يملك شيئاً) لعله كان يصف نفسه، فكذلك كان شاعرنا، عاش على قليل من المال رتبه له هنري الرابع ابن صديقه جون أوف جونت، واتخذ له مسكناً في وستمنستر في بقعة منها يشغلها الآن جزء من كنيسة وستمستر المعروفة ببيعة هنري السابع ومات بها عام 1400م ودفن في زاوية الشعراء من هذه الكنيسة. وكان أول شاعر نال هذا الشرف

ولنا عود إن شاء الله إلى قصصه وآثاره.

(الإسكندرية) الصاغ أحمد طاهر