مجلة الرسالة/العدد 369/على هامش الحرب

مجلة الرسالة/العدد 369/على هامش الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1940



الطابور الخامس في القرآن

للأستاذ عبد الرزاق إبراهيم حميدة

- 1 -

امتلأت الصحف بحديث الطابور الخامس، وتناقلت الألسنة خبرهم، وتحدث الوزراء والقواد يحذرون الأمم منهم. والمقصود بالطابور الخامس تلك الفئة التي تظهر أو تستتر في أمة من الأمم المشتبكة في حرب مع أخرى، فتوالى الأعداء، أو تعمل على خذلان قومها بنشر الأراجيف وإذاعة الأخبار الكاذبة أو الضارة عن ضعف قومهم، وقوة أعدائهم، أو عن نتائج الحرب بما لا يفيد أبناء وطنهم، أو أنهم مسوقون إليها خدمة لمطامع أمة أخرى تحت شعار المحالفات، ومبادئ الشرف، والدفاع عن مبادئ الديمقراطية

وقد يكون عملهم إرشاد الجند الفاتحين إلى مواطن الضعف في البلد المغزو وإلى ما يدبر من خطط ترد كيد العدو وتصد زحفه

وشاعت هذه الكلمة أخيراً وصفاً لأعوان هتلر في النرويج وفي هولندا وبلجيكا، وفي فرنسا نفسها وجد هذا النوع من الناس فكان سبب نكبتها، وعاملا من أكبر العوامل في هزيمتها، ففني رجالها وضاع استقلالها، ووطئ الألمان بلادها يحكمون في أرضها وديارها وأموالها، ويغيرون على نظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويبدلون دستورها وحكومتها، ويفعلون بها ما يشاءون

والغريب أن هتلر ينفي وجود أعوان له مأجورين في بلد من البلاد التي غزاها، ويقول إن وجود هذا الطابور الخامس في البلاد المفتوحة راجع إلى فساد النظم في تلك البلاد ورغبة فريق من أبنائها في الاستعانة به على إصلاح الأحوال لتكون كألمانيا قوة واتحاداً

والحق الذي لا مرية فيه أن في كل أمة من الأمم - القديمة منها والحديثة حتى ألمانيا نفسها - اختلافاً في الرأي، ودعاة لمذاهب سياسية تخالف مذهب أمتهم، وغيرة من الطبقة الحاكمة وتشيعاً لنظم اقتصادية أو اجتماعية غير السائدة في بلادهم. وهذه الاختلافات تضعف وتقوى تبعاً للعوامل التي تساعد على قوتها أو ضعفها؛ فإذا كانت الأمة متحدة الجنس، متشابهة البيئة قوية الأخلاق، مرباة على حب الوطن والتفاني في سبيله، وكانت الحكومة قوية يقظة كانت جماعة الطابور الخامس محدودة العدد قليلة الأثر ضعيفة النشاط.

وخير مثال لذلك إنجلترا التي أخذت حكومتها بالشدة أنصار الفاشست فيها، وقبضت على زعيمهم سير (أزوولد موزلي) هو وزوجه واعتقلت من تشك في أمرهم من رعايا الأعداء كذلك

أما الدول، أمثال تشيكوسلوفاكيا التي اختلفت عناصرها، وهولندا التي ضمت عدداً غير قليل من أنصار النازي داخل حدودها، وفرنسا التي تشعبت أهواء الناس ومذاهبهم فيها، فقد قضى هتلر على استقلالها، وأصابها بنكبة الهزيمة، وألبسها ذل الاحتلال وفقدان الاستقلال

وقد كان لمثل هذه الجماعة وجود ونشاط في عهد النبي (ص) وعني القرآن بأمرهم، وكشف أسرارهم، وحذر النبي منهم، ونزلت السور تنبئه بما في قلوبهم، وسماهم (المنافقين) وخصهم بسورة من سوره، وتحدث عنهم في غيرها من السور الكريمة تارة يصفهم وصفاً عاماً، وتارة يذكر مواقفهم في ظرف من الظروف التي أحاطت بالنبي، وأحياناً يأمره أن يتخذ منهم موقفاً خاصاً، أو يحرضه على إنزال نوع من الأذى بهم

وكان ظهورها وعملها والقضاء عليها بعد الهجرة بالمدينة وما حولها، وكان القائمون بها هم اليهود من بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير. وكان هناك رءوس للضلال من الأوس والخزرج أمثال عبد الله بن أبي بن سلول

وكانت هاتان القبيلتان الأوس والخزرج في حرب دائمة قبل الإسلام وبعده إلى ما قبيل الهجرة. كانت الخزرج أكثر عدداً، ففكرت الأوس في محالفة قريش عليهم، وأرسلوا لذلك رسلاً إلى مكة، فلما علم الرسول بأمرهم - وكان قد يئس من قريش أو كاد، وأخذ يعرض نفسه ودينه على القبائل وفي مواسم الحج - دعاهم إلى خير مما جاءوا له، ودعاهم إلى الإسلام وإلى عبادة الله وحده، فأبوا ثم عادوا إلى يثرب

عقب انصراف الوفد من مكة إلى المدينة حدثت موقعة (يوم بعاث) بين الأوس والخزرج، وانتصرت الأوس. وفي الموسم الذي تلا يوم بعاث أقبل جماعة من الخزرج إلى مكة للحج، فدعاهم الرسول إلى الإسلام، فآمنوا من فورهم، وكانوا من قبل يسمعون بقرب ظهور نبي في بلاد العرب. ثم أخبروا الرسول بما في المدينة من تنازع وشحناء، ورجوا أن يصلح الله أمر يثرب على يديه، ولما عادوا إلى قومهم ذكروا لهم حديث الرسول والإسلام، فلم تبق دار في يثرب إلا وفيها حديث عن الرسول وعن الإسلام

وفي موسم الحج الذي قبل الهجرة بايع النبي قوم آخرون من أهل يثرب وتسمى بيعة العقبة الثانية أو بيعة النساء، وأرسل النبي معهم مصعب بن عمير يعلمهم الدين. فأسلم على يديه كثير من أشراف يثرب منهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، ودعا سعد عشيرته إلى الإسلام أو يقاطعهم فأسلموا جميعاً

وفي عام الهجرة جاءه من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان وبايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، وأقسم سيدهم البراء بن معرور فقال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا. ثم قام أبو الهيثم بن التيهان فقال: إن بيننا وبين الرجال (يعني يهود المدينة) حبالاً وإنا قاطعوها. وأعرب عن خوفه منهم إذا تركهم لليهود بعد أن يظهره الله على أعدائه، ففهم النبي الكريم مراده، وتبسم وقال: بل الدم الدم، والهدم الهدم. يعني أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم

علمت قريش بما كان فأرسلت وفداً منها إلى منازل الحجاج من أهل يثرب، وأخبروهم بما حدث، وقالوا إنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. فحلف نفر من مشركي يثرب أنه لم يكن شيء من هذا، وكانوا صادقين لأنهم لم يعلموا بما كان في الليلة السابقة. وقال لهم عبد الله بن أبي بن سلول، وهو رأس النفاق فيما بعد: إن هذا الأمر جسيم، ما كان قومي ليتفوتوا عليّ بمثل هذا، وما علمته. فانصرفوا عنه وأخيراً تأكد لدى قريش ما كان من بيعة العقبة الثالثة، ولكن بعد أن نفر الناس من منىً وفاتهم أهل يثرب

كان إسلام أهل المدينة نصراً للإسلام والمسلمين، وكان فرصة طيبة لأصحاب النبي في مكة، فقد وجدوا مهاجراً جديداً يفرون إليه بدينهم ويقيمون بمنأى من أذى قريش في حماية إخوان لهم في الدين، وجعل الله المدينة دار أمن لهم يلجئون إليها؛ فخرجوا مهاجرين إرسالاً، نساء ورجالاً، إلا من حيل بينه وبين الهجرة من المستضعفين

خافت قريش تلك الحركة ورأوا فيها خطراً يتهددهم، وصمموا على أن يحولوا بين النبي وبين دعوته بكل ما وسعهم من قوة وحيلة، واجتمعوا للتشاور في دار الندوة، وتشاوروا في واحدة من ثلاث كما حدث القرآن الكريم بذلك في سورة الأنفال: (وإذ مكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقر رأيهم على قتله، وذلك بأن يجمعوا من كل قبيلة شاباً فتياً نسيباً، ويعطوه سيفاً صارماً، ثم يقف هؤلاء الفتيان على بابه ليلاً، ويضربوه ضربة رجل واحد وهو خارج لصلاة الفجر فيتفرق دمه في القبائل، ويرى بنو عبد مناف أن لا قدرة لهم على حرب جميع القبائل، فيرضون بالدية

أخبر الله الرسول بما كان وأمره بالهجرة، فذهب إلى أبي بكر الصديق - وكان من قبل يمنعه حتى يأذن الله لهما - وأخبره الخبر وأعد الرواحل والدليل. وفي الليلة الموعودة التي عينتها قريش لتنفيذ مكرها أمر النبي علياً أن يبيت في فراشه لئلا يرتاب أحد في وجوده، وخرج النبي من بيته في آخر الليل وهو يقرأ (وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)، فألقى الله النوم على الفتيان، وأخذ النبي الكريم حفنة من تراب رمى بها في وجوههم وهو يقول: شاهت الوجوه

ثم ذهب إلى أبي بكر، وسارا حتى وصلا إلى غار ثور بأسفل مكة، واختفيا فيه ثلاثة أيام حتى انقطع رجال قريش عن طلبهما، ثم جاء الدليل وخادم وركبوا جميعاً وساروا في طريق المدينة حتى وصلا إلى (قباء) في اليوم الثامن من ربيع الأول لثلاث وخمسين سنة من مولده . وذلك في اليوم العشرين من سبتمبر سنة 622 من ميلاد المسيح

أقام النبي بقباء أربعة أيام وأسس مسجد قباء، ثم ارتحل إلى المدينة يحيط به أنصاره من أهل يثرب، وكان كلما مر بقبيلة ناداه رئيسها أن ينزل عندهم، وأخذ بخطام ناقته، ولكنه كان يقول: دعوها فإنها مأمورة. ومشت الناقة حتى جاءت إلى موضع مسجده الآن فبركت، ثم قامت وبركت، فنزل النبي ووضع الرحل عند أبي أيوب الأنصاري واشترى مكان المسجد والدور التي بناها له ولزوجاته

ومن ذلك اليوم تبدأ حياة جديدة تختلف عن حياة مكة له ولأصحابه ولأهل المدينة أنفسهم، وبدأت عوامل النفاق تبدو، وتحركت العداوة والبغضاء في نفوس المنافقين، ولقي النبي من مكرهم وسوء أعمالهم ومؤامراتهم هم واليهود شيئاً حتى أراحه الله منهم جميعاُ وذلك هو موضوع الحديث التالي إن شاء الله

عبد الرزاق إبراهيم حميدة