مجلة الرسالة/العدد 369/محنة باريس
مجلة الرسالة/العدد 369/محنة باريس
بمناسبة ذكرى عيد الحرية 14 - يوليو سنة 1940
للأستاذ علي محمود طه
سألوني عن بياني وقصدي ... أسَفاً. . . باريس! قد ماتَ نشيدي!
شهدَ الحبُّ ذكرناكِ ولمْ ... أنسَ نجواكِ ولم أخفرْ عهودي
أنا لا أنسى لياليَّ على ... روضكِ الرفاف بالزهر النضيد
ثمر الفكر ومَجْنَى نُورهِ ... ومراحُ العينِ والقلبِ العميد
خطرةٌ عابرةٌ عدتُ بها ... عودةَ العوَّاص بالدرِّ الفريد
فاعذري المِزْهرَ في كفِّي إذا ... أخرسَتْهُ ضَجَّةُ الرُّزْءِ الشديد
يوم قالوا جلَّل القيدُ يداً ... حطمتْ بالأمس أصفادَ العبيد
حملتْ مِشْعَلَ حُرِّيَّاتهم ... في شُراةٍ من شباب المجد صِيد
كيف يا باريس بالله هوى ... ذلك النجمُ من الأفق البعيد؟
إن يَنَلْ منكِ المغيرون فما ... فتحوا غيرَ تخومٍ وحدود!
لستِ بنياناً، ولا أرضاً، ولا ... غابَ آسادٍ، ولا جنَّةَ غيد
أنت معنى عالمُ الفكر به ... يتحدَّى قبضةَ الباغي المريد
كعبةَ الأحرار! هذى محنةٌ ... راعتِ الأحرارَ في أكرمِ عيد
صُرِعَ النورُ به وانحسرتْ ... جبهةُ الشمس عن النور الشهيد
وأتى الليلُ، ومِنْ أهوالِه ... أَنْ تُرَىْ بين ظلامٍ وقيود
أين من فِرساي أفقٌ ضاحك ... مشرقٌ عن أمل الشَّعبِ السعيد
وعلى كلِّ طريقٍ موكبٌ ... صادحُ الأبواق خفَّاقُ البنود
لكأني اليوم ألقَى مأتماً ... وأرى الكُنكُرْدَ كالقبر الحريد
حالَ شدوُ الماءِ في أحواضهِ ... نَفْثَةَ الغرقى ببحرٍ من صديد
وقفتْ مصر به صامتةً ... تتقرَّى الغيب، طلَّسْمَ الوجود
غلبَتْها حكمةُ الدَّهْرِ ولو ... نطقت لَم تأتِ بالمعنى الرديد
ساحةَ الباستيل! حانَ الملتقَى ... وتعالتْ صرخةُ الفجر الوليد أين أبطالكِ؟ ماذا! أتُرى ... ضربَ الليلُ عليهم بالوصيد؟
أغمدوا أسيافهم؟ وَيْحَ! وما ... عوَّدوا أسيافَهم حبسَ الغمود
ويحهم قد شيَّعوا أعيادهم ... بين عصفِ النار أو قصفِ الحديد
فوق أرضٍ صُبِغَتْ من دمهم ... وتحدَّثْ كلَّ جبَّارٍ عنيد
فوق أحجاركِ صرعى أمسهم ... فلذاتٌ كَتَبَتْ سِفْرَ الخلود
فاذكريهم بالذي مَرَّ بهم ... وأقرئي تاريخهم، ثم أعيدي!
أيها العائدُ من غاراتهِ ... راقداً تحت قبابِ (الأنفَليد)
تلك راياتُك، فانظرْ! أَتَرى ... من سيوفٍ تحتها أو من جنود؟
أين من برلين أو آفاقها ... جيشُك الظافُر بالحشْدِ البديد
تطأُ الأرضَ إلى مَشْرِقها ... موغلاً في أَثَرِ الدُّبِّ الشريد
لفرنسا هِمَّةٌ لا تنثني ... أَمَشَتْ في النارِ أم تحت الجليد
بالقليلِ الجمعِ من أبنائها ... تنزعُ النصرَ من الجمع العديد
أممٌ ترسُفُ في أحقادها ... دِنْتَها بالصفح والصنع الحميد
لم تسيِّرْ فوقها دبَّابةً ... أو تباغِتْها بطيرٍ من حديد
يقتلُ الولدان والشِّيبَ ولا ... يرحمُ المرضَى وربَّاتِ المهود
شَرَفُ الحرب كما لُقِّنتَه ... ملتقَى سيفين في ظلِّ البنود
فاعذِر اليوم فرنسا إنَّها ... وثقتْ بالعهد في دنيا الجحود
قَرَعَتْ للنصرِ كأساً! ويحها! ... صَرَعَتْهَا خمرةُ النصر التليد!
رَقَدَتْ عن غدِها وانتبهتْ ... حيث لا ينفعُ صحوٌ من رقود
أسفرتْ سِدَّان عن مأساتها ... وتهاوى حجرُ الحصن المشيد
ثَغْرةٌ أُنْفِذَ منها خنجرٌ ... قد تَلَقَّتهُ على حزِّ الوريد
شهدَ المجدُ لها باسلةً ... خُضِّبتْ بالدم من نحرٍ وجيد
فابعثِ العزَّةَ من تاريخها ... وتألَّقْ بسناهُ من جديد
واطلَعِ اليوم عليها سيرةً ... وكن الشاعرَ واهتفْ بالقصيد:
. . . أيُّها الفاتحُ لا يغررْكَ ما ... سِرْتَ فيهِ من حصونٍ وسدود لكَ فيَّ العِبرةُ المثلى فلا ... تأمنِ الزلةَ في أوجِ الصعود!
رُّبة النور سلاماً كلما ... هتفَ الشِّعرُ بماضيك المجيد
لكِ في كلِّ خيالٍ صورةٌ ... بَرِئَتْ من وصمةِ العصر الجديد
غير ذكري يرجعُ الفكرُ بها ... لليالٍ من عصورِ الظلم سُود
لَهفَ نفسي لدمشقٍ ولمنْ ... خرَّ فيها من جريحٍ وشهيد
من شواظٍ يقذفُ الموتَ على ... رُكَّعٍ في ساحةِ الله سجود
فأنا الشرقيُّ لا أنسى الذي ... حاقَ من حكمكِ بالشَّرقِ العتيد
المساواةُ التي أعلنتِها ... أعلَنتْهُ بنذير ووعيد
والإخاءُ الحرُّ ما كان سوى ... مدفعٍ يرمي بُمرْدٍ ومبيد
وطِني الروحيُّ، إن أغضَبْ لهُ ... فلآباءٍ كرامٍ وجدود
وتراثٍ خالدٍ من أدَبٍ ... أنا فاديهِ بروحي ووجودي
كفَرتْ ثورتُكِ الكبرى بهِ ... وهوَ المحسنُ يُجْزَى بالكنود
سار بالإسلام نوراً، وهَدَى ... بسنا عيسى خُطى الحقِّ الطريد
النبيُّون همو ثوِّارهُ ... حاملو الشُّعلة، أعداءُ القيود
فخذي بالحقِّ والرُّوح الذي ... هزَّ بالثورة أركانَ الوجود
وابعثيها ثورةً أخرى فما ... يعرفُ الأحرارُ معنى للجمود!
(رأس البر)
علي محمود طه