مجلة الرسالة/العدد 370/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 370/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1940



الوضع الحقيقي لمشكلة

جابر بن حيان

للأستاذ أحمد زكي صالح

تقرير الأستاذ رسكا

يتساءل الأستاذ رسكا: كيف وأين نظمت وألفت هذه الكتب المنسوبة إلى جابر؟ هل هي أعمال فرد واحد أم من أعمال مدرسة؟ هل حدث تأليفها وتطوره وتقدمها في مدى وقت قصير أم انتشر على بساط قرن كامل؟ كل هذه أسئلة لا زالت أجوبتها غامضة، بل قل لا زالت غارقة في بحر من الغموض والإبهام.

وتلك النصوص التي نشرت بإشراف الأستاذ هوداس لا تكفي تماماً كي نصدر حكما صحيحاً على مميزات أدب جابر بن حيان الكيميائي.

ويجب أن أعترف أن (كتاب الرحمة) بمحاوراته المضحكة بين جابر بم حيان وجعفر الصادق ما هو في الحقيقة إلا قصة ملفقة، و (كتاب الملك) يفشي سر نفسه بنفسه حينما يرجع أصله إلى جعفر الصادق، وبعض النتائج يمكن استنتاجها في شأن (كتاب الموازين) لأنه عنوانات بعض أعمال أرسطو في المنطق التي ابتدأت معرفة العالم الإسلامي لها بعد أواخر القرن التاسع من الميلاد. ولكن إذا سلمنا بصحة نقد هذه الكتب الثلاثة، فهل يؤثر هذا بقليل أو كثير في المشكلة ككل؟ وبالأحرى هل يمكن أن نفصل المؤلفات الكيميائية مسلمين بأنها من عمل جابر عن قائمة الفهرست الثانية؟ أليس من المعقول أن مؤلف الكتب الكيميائية ينتمي إلى زمن وإلى بيئة مدرسية يختلفان كل الاختلاف عن هؤلاء الذين ألفوا الكتب الطبية والفنية والرياضية والإلهية؟

من الجلي الواضح أن ذلك الذي يستطيع الأخذ بيدنا إنما هو البحث خلال المخطوطات التي عثر عليها أخيراً، وإني لموفق إذ استطعت الحصول بمساعدة الأستاذ ماكس مايرهف لا على صورة للنصوص العربية للسبعين كتاباً التي ذكرها ابن النديم فحسب، بل أيضاً على بعض النصوص غير المعروفة ككتاب (السموم) و (الملك النوعي) وغيرها من المؤلفات التي جمعت لأجل (مجمع برلين للدراسات الطبيعية)

وهذه المؤلفات قد فتحت مدى أوسع في الأبحاث في هذا الموضوع لم يتحقق من قبل، فكتاب السموم أصبح اليوم أمنع من أن ينال هجوم، وهو يبين مقدار معرفة جابر الطبية، أما الفصول المتعددة من كتاب (الخواص النوعية) فيمكن النظر إليها على أنها مقتطفات من كتب مختلفة المقرر أن جابر كتبها في هذا الموضوع، ويمكن أن نقول إن كثيراً من البحث والاجتهاد يحتاج إليه ذلك الذي يريد الكشف عن حقيقة هذه المؤلفات والإجابة على السؤال الآتي: كيف جاءت مؤلفي هذه الكتب فكرة نسبة هذه المؤلفات إلى الإمام جعفر الصادق أو تلميذه المدعى جابر. . . نقول إن الإجابة على هذا السؤال تقهقرت كثيراً. . .

وأولى الملاحظات التي يمكن استفادتها من نتائج أبحاث مجمع برلين في النصوص العديدة هي: أن ارتباط الحقائق المختصة بالكيمياء وعلم البحث عن الصنائع والطب لازم كما هو نفسه ولكنه لا يعين ولا يقدر الغرض الأخير لهذا الأدب؛ إذ أن كل التفاصيل العلمية إنما تتحرك في اتجاه مذهبي واحد، وأن المتأخرين هم الذين أعطوها المعنى والتحقيق. والسبب الفلسفي هو نقطة البدء في هذه المؤلفات كلها، وهذا السبب الفلسفي إنما ترجع إليه قيمتها، وكثيراً ما كان يتكرر بشكل يقيني في هذه الأعمال أن العلم لا يمكن أن يكون إلا إذا كانت هناك نظرية خاصة يضعها نصب عينيه. وهذه المشكلة تمت لأول وهلة لمشكلة السببية. وتبعاً لذلك فإن مفهوم (الميزان) الذي يعد من أهم مميزات مؤلفات جابر بن حيان، ونظرية الخصائص النوعية للأشياء المتعلقة بمدى التحول الكيميائي يعتمدان على أسس عددية دقيقة.

وربما لا يبدو هذا في الكيمياء الحديثة شيئاً يذكر، ولكن العجيب حقاً هو ذلك التيار الذي واظب عليه العقل البشري، واجتهاده في تبيان أن القانون الطبيعي إنما يعتمد في أساسه على أسس عددية ثابتة. ونحن أصبحنا اليوم، بعد هذه الأبحاث، نعتقد أنه نجح تماماً فيما كان يصبو إليه؛ فإن قانون الأعداد هذا في نظر جابر بن حيان يضع كل شيء في الوضع الحقيقي له في العالم.

ودراسة بعض النصوص التي ذكرت آنفاً تقودنا خطوة أخرى نحو الغرض الفلسفي للبحث لهذه الأعمال. أقول إن هذه الدراسة تقودنا خطوة أخرى حين تطلعنا على الصلات والعلاقات بين هذا الغرض الفلسفي وبين النظريات الجابرية في العلم الإلهي التي هي الغرض الفلسفي وبين النظريات الحقيقية لهذا الأدب الجابري.

فالنظريات العلمية التي احتوت عليها هذه المؤلفات قيل إنها ليست شيئاً آخر غير معلومات محمد () و (علي ابن أبي طالب) وأستاذ جابر (جعفر الصادق)، وهذه الخرافة تذهب إلى حد أنها تفسر بعض نصوص القرآن على ضوء الكيمياء كما ينسب لعلي بعض المحاضرات في موضوعات كيميائية، وفي بعض هذه النصوص يظهر بعض المذاهب التي تتفق تماماً وما تقول به فرقة الإسماعيلية من الناحيتين الفلسفية والعملية، ومن ثنايا أفكار هذه المدرسة الدينية التي رئيسها وإمامها وأستاذها الإمام جعفر، يمكن أن يفهم المعنى الكامن في نظريات جابر ابن حيان، وهذه الحقيقة تثبت عرضاً أي في كل هذه المؤلفات إنما ترجع أصولها إلى النصف الأخير من القرن التاسع أو النصف الأول من القرن العاشر للميلاد أي القرنين الثالث والرابع من الهجرة، أو قل في ذلك بلغ فيه الإسلام الذروة في هضم الفكر اليوناني، وهكذا يمكن أن ترد تلك الثروة العلمية والفكرية التي توجد في مؤلفات جابر بن حيان.

مناقشة رأي الأستاذ رسكا

الأستاذ رسكا في نقده لكتب جابر الثلاثة: الرحمة، الملك، الموازين، لا يحتاج لكثير عناية لتنفيذه، إذ أن رسكا يتناول الموضوع من ناحية سلبية بحتة، مثل الأستاذ رسكا في ذلك كمثل اثنين يتحاوران، بعد أن عرض أحدهما رأيه قال له الآخر كلا إنك مخطئ وتركه ومضى في طريقه، فهو لم يبين له لماذا هو مخطئ وما هو صواب هذا الخطأ، كذا الحال في نقد رسكا لهذه المؤلفات الثلاثة، فهو يقول إنها ليست لجابر بن حيان، فهل ينتظر منا الأستاذ رسكا أن نحني هاماتنا لرأيه سامعين طائعين مختارين؟ وحتى هبني سلّمت بصحة هذا النقد الضعيف فأي قيمة تكون له في إخراج هذه الكتب الثلاثة عن دائرة مؤلفات جابر الكيميائية وهي تبلغ سبعين مؤلفاً؟ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الأستاذ رسكا في القسم الثاني من كلامه ينحو نحو الجدليين، إذ أنه يلتجئ إلى أسلوبهم وأعني بذلك أسلوب (المعقول وغير المعقول).

إن الأستاذ رسكا عالم له أسلوب العلماء وطبعهم وروحهم ونحن لذلك نسمو به عن أسلوب الجدل، إذ أن العلم ليس أمامه معقول وغير معقول، إنما أمامه حقائق يسلم بها، أو لا يسلم بها، حقائق يبرهن على وجودها أو يبرهن على عدم وجودها، فالقول بأنه من المعقول أن تفصل كتب جابر الكيميائية عن غيرها قضية كاذبة علمياً، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: هل نسى الأستاذ رسكا أن التفكير الإسلامي كان في هذه المرحلة الزمانية أو الفكرية تفكيراً عاماً شاملاً أي تفكير وأن التخصص في التفكير وفي البحث لم يعرف في الإسلام إلا بعد ذلك بقرن من الزمان على الأقل؟؟

أما القسم الثالث من رأيه وهو تفسير الانتحال لجابر بن حيان فهو تستعيره من أبحاث مجمع برلين، وسنتركه الآن ونعرض هذه الصورة بشكل أوسع لدى الأستاذ ب كراوس الذي كان مساعداً بهذا المجمع إذ ذاك.

رأي الأستاذ كرواس

يرى الأستاذ كراوس أن هذا الأدب العظيم يبين لنا كل ما درس في الإسلام من العلم اليوناني لا يمكن أن يكون بأية حال من عمل مؤلف واحد، ولا يمكن كذلك أن يصعد إلى النصف الثاني من القرن الثاني من الهجرة، إذ أن جميع الظواهر التاريخية تدلنا على أن هذا الشكل كان من إنتاج أخريات القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع.

وإن كتابات جابر بن حيان لتضع لنا بادئ ذي بدء أساس مشكلة دينية تاريخية، فكما أن الكيميائين القدماء قد اتجهوا إلى الأجنوزية المسيحية كذلك جابر يقدم في مؤلفاته العلمية أجنوزية الإسلام، ولم تكن آراء جابر ابن حيان كتلك الآراء الساذجة الأولية التي وجدت في محيط الشيعة في القرن الثاني من الهجرة، إنما كانت أقرب إلى تلك التي كان يتردد صداها في محيط غلاة الشيعة في القرن الثالث من هجرة الرسول. وهذه الآراء كانت ذات صبغة سياسية وثورية خطيرة عرضت الإسلام نفسه للخطر، إذ أن جابراً أعلن قرب قيام الإمام المنتظر الذي سيبطل حكم الإسلام ويحل محل القرآن نور العلم والفلسفة الإغريقيين، وكان محل عرض هذه الآراء هو نظريات جابر في مؤلفاته حيث عرض هذا الوحي الروحي الخالص الجديد والذي أوحى به الأئمة العلويون.

ووجهة نظر جابر بن حيان في العلم الإلهي تقترب من القرامطة الذين ابتدءوا يلعبون دورهم في العالم الإسلامي منذ سنة 260 هـ. ودرجات العلم مقسمة عنده نفس التقسيم الموجود عند القرامطة والإسماعيلية.

ونظرية امتداد الأمامية قد تقدمت بنفس الخطوات التي تقدمت بها الأمامية، فالأماميون يقسمون تاريخ العالم من حيث الوحي إلى مراحل سبع يكون آخرها بعث الإمام الجابري، وعلى ذلك فإن الأئمة الذي تبعوا علياً، حتى الإمام القائم الجديد يكون عددهن سبعة وعلى التوالي: الحسن والحسين ومحمد بين الحنفية وعلى بن الحسين بن محمد الباقر وجعفر الصادق وإسماعيل الإمام المنتظر أو القائم. ونحن نلاحظ أن جابراً في تعداده للائمة على عكس القرامطة والإسماعيلية لم يعتبر علياً إماماً من هؤلاء السبعة، وأن هذا السانيت، الذي يسمو عن الناتيك هو الذي يكون به تجسد الأئمة السبعة الأرضي، وفي هذه النظرية يقترب جابر من تلك التي يقول بها النصيرية الذين يعتقدون أن هناك ثلاثة أقانيم: (ع) أي علي، (م) أي محمد (س) أي سليمان، والسين في نظر جابر سابقة ومتقدمة على الميم، وفي هذا المذهب يسمى الإمام جعفر (بالإمام المجيد) أو (اليتيم) الذي له تفضيل على مباشر علي (ع) كما أن له الحظوة على (م)، (س). وهنا يقبل جابر القول بنظرية التجسد والتناسخ والأدوار، والإكرار، والنسخ، والفسخ، والمسخ.

وإن جابراً ليعلن على رؤس الأشهاد أن عمله إنما هو وحي أستاذه جعفر الصادق، وإلى هذا (المنبع من الحكمة) ترجع كل معرفة جابر، وما هو إلا جامع ومعلق على مؤلفات أستاذه. وربما كان ذلك راجعاً إلى أن جابراً نفسه يأتي في التسلسل الديني في مرتبة تلي مرتبة جعفر الصادق مباشرة، أضف إلى ذلك بعض أساتذته مثل حاربي حميرات، أرهون الحمار، جعفر البرمكي،. ولكن نحن نرى أن كل هذه التأكيدات ما هي إلا افتراءات باطلة إذ أنها متناقضة تماماً مع ما كتبه جابر نفسه في مؤلفاته. وعلى ذلك فإن تلميذ جعفر الصادق المسمى جابر بن حيان يظهر أنه محض اختراع، ونحن ندرك تماماً لماذا تنسب كتب كهذه إلى الإمام جعفر الصادق الذي يعتبر في الأدب الشيعي خير مصدر للعلم اليوناني وخاصة للعلوم السحرية ولعلم الفلك، أضف إلى هذا كله أن جعفر هذا والد الإمام السابع إسماعيل الذي نص على ظهوره في هذه المؤلفات.

ويشير الفهرست إلى بعض الشك الذي يخالج نفراً من الشيعة المعاصرين لأحد أصحابه في صحة نسب هذه الكتب لمؤلفها، وثمة رجل آخر هو أبو سليمان السجستاني المنطقي، يذكر في كتابه (التعليقات) ملاحظة يستنتج منها أنه هو نسفه يعرف المؤلف الحقيقي للكتب التي تنسب لجابر بن حيان، ويسمى أبو سليمان باسم الحسن بن النقاد الموصلي، ولكن على رغم هذه الرواية فإننا نعتقد أن مؤلفات جابر لا يمكن أن تكون من إنتاج رجل واحد رغم تطور التفكير المنسجم فيها. ونحن نعتقد كذلك أن هذا التفكير لم يصل إلى هذا الحد الذي وصل إليه إلا في سنة 330هـ.

(البقية في العدد القادم)

أحمد زكي صالح