مجلة الرسالة/العدد 370/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 370/رسالة الفن
متفرقات
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
من أيام الفاروق
احتفلت مصر يوم الاثنين الماضي بالعيد الدستوري للملك فاروق
وللملك فارق فضل على الفنون الجميلة فيما له من أفضال على سائر نواحي الحياة في مصر. ومن أنصع أياديه البيض على الفن تشجيعه للتمثيل والشعر تشجيعاً ملحوظاً رائعاً.
وإني أسجل بالفخر لجلالته عدة حوادث لها دلالاتها المسعدة التي تنتعش بها نفوس الفنانين.
أما الحادثة الأولى فقد كانت يوم وقف الفاروق في مقصورته بعد ختام الفصل الأخير من رواية (لو كنت حيلوة) التي مثلتها أمام جلالته فرقة الريحاني في دار الأوبرا، فقال جلالته لشعب الريحاني الذي هو من شعبه: (أرجو أن تكونوا جميعاً قد أفدتم من هذه الرواية ما يجب أن يفاد منها). . .
وقد كانت هذه الرواية تصور أخلاق نظار الأوقاف، وبلايا المستحقين في الأوقاف، كما كانت تعرض إلى جانب هذا ألواناً من الدس الشنيع والتآمر الخاطئ في ثوب مكروه بغيض. . .
فكان لكلام جلالته على أثر هذه الرواية معنى، وكان من هذا المعنى أن جلالته يحب من شعبه أن يعدل إذا حكم، وأن يزن الحق بقسطاس الله، وألا يطلب الحق إلا طلباً صريحاً لأن الحق لا يطلب إلا صراحة، والدس والتآمر للزور.
وكان لهذه الحادثة بعد ذلك معنى آخر، وهو إعجاب جلالته بفرقة الريحاني، وهي الفرقة التي ظلت تعمل السنوات الطوال في صبر واجتهاد كانت تنتزع يهما صفوة المصريين نفراً نفراً وهم متحرجون من الاعتراف بالتفوق الفني (لكشكش) لا لشيء يحرجهم إلا أنه (كشكش) وليس (عطيلا) ولا (هملت)
ولكن بعد كلمة الملك رفع (كشكش) رأسه بالحق وأما الحادثة الثانية فقد كانت تمثل فيها فرقة أنصار التمثيل والسينما رواية نسيت اسمها ولكن أذكر أن موضوعها كان يدور حول الصدق، وأن أبطالها التزموا الصدق فيها يوماً من أيام المسرح. . . وبين فصلين من فصول هذه الرواية تشرف الأستاذ سليمان نجيب بالمثول بين يدي الملك فسأله جلالته: (هل تستطيع أن تقول لي وأنت بطل من أبطال الصدق اليوم من هو الذي يصلح لأن يحكم مصر؟) فأجاب الأستاذ سليمان نجيب بقوله: (هو الرجل الذي تختارونه جلالتكم). . . وهي إجابة مؤدبة من الأستاذ سليمان نجيب، ولكن جلالة الملك كان غير شك يريد في ساعة الصدق هذه أن يسمع رأي رجل من الرجال المنتسبين إلى الفن، والفن هو أصدق الصادقين، وقد شرفه الملك بتوجيه هذا السؤال إليه ولكن ممثل الفن الذي تلقى هذا السؤال كان مؤدباً.
وأما الحادثة الثالثة فقد كانت في حفلة من حفلات الجمعية الخيرية، وقد ألقى في هذه الحفلة الشاعر النابغة محمود حسن إسماعيل قصيدة، فدعاه جلالته إلى مقصورته وحياه ولاطفه، وكان محمود إذ ذاك لا يزال يتسلق المجد بمشقة وتعب، فلما ظهر بإعجاب المليك به قفز إلى القمة ولم يعد شاعر في مصر يستطيع اليوم أن يطاوله.
من هذه الحوادث تستطيع أن نقول إن لجلالة الفاروق فضلاً على الفن فيما له من أفضال، فهو راعيه وهو موئله.
الدكتور أدهم
اللهم ارحم الدكتور أدهم، فقد كان يريد أن يعرفك، وكان يريد أن يصل إليك، ولكنه ضل الطريق، وكفاه شقاء أنه قتل نفسه حين ضل.
وقصة الدكتور أدهم مأساة قد يحسن عندها الصمت الحزين ولكني أوثر أن أقول فيها كلمة لأنها فرصة مناسبة - وإن كانت مؤلمة - يمكن أن تقال فيها كلمة من كلمات الإيمان والرضا.
مما هو ملحوظ أن أغلب الذين ينتحرون علماء ومفكرون يجرهم العلم والتفكير إلى الإلحاد.
ومما هو ملحوظ كذلك أن أغلب الفنانين يشقون في حياتهم شقاء مريراً ومع هذا فهم لا ينتحرون وإنما يصبرون، ويعيشون، ويحتملون ولا يشكون.
ومما هو معروف ثابت إلى جانب هذا وذاك أن الموت ضد الحياة، وأنه لا حي يطلب لنفسه الموت.
هذه الحقائق كل منها مرئي على انفراد، فإذا أطلقنا بعضها على بعض استطعنا أن نقول إن الفن يورث الإيمان والحياة، وإن من العلم ما قتل كما يقول الأستاذ بشارة الخوري.
فلماذا؟
الواقع أن هذا يرجع إلى أن الفنان يرى بالتجربة أنه لا ينتج شيئاً يروقه هو ويعجبه إلا على عجز منه، لا تدبير له فيه ولا إرادة. ومن هذا يتعلم الفنان أنه في هذه الدنيا مرزوق يعطيه الله ما يريد، ومحروم يمنع الله عنه ما يشاء. وبهذا العلم يعيش الفنان ويصبر ويشيخ وهو يرجو السعادة وينتظرها، بل إنه لينعمن بالسعادة في أرذل أوقات الشقاء، تلك الأوقات التي يراها الناس شقاء، والتي يستشف الفنان فيها من لطف الله وكرمه وإحسانه ما لا يستشف غيره ممن ربطوا عقولهم على صنوف خاصة من الحاجات والنعم فهم لا يرون غيرها، ولا يرضون من غيرها، بينما الحياة المجردة نعمة.
أما رجال العقل والفكر - العقل الأوربي والفكر الأمريكاني - فأولئك الذين يكرهون الحياة لأنهم يحرصون تفكيرهم في نوع خاص من الحقائق المجردة يريدون أن يعوها وعياً منطقياً معقولاً بينما هي أعز من أن ينالها هذا الوعي، وبينما هي تتطلب ممن يحب أن يصل إليها أن يعزز عقله إذا ارتقى بخلق مرتق، وبأفعال مرتقية، وبحياة ينسجم فيها الارتقاء الإنساني من كل نواحيه. وبهذا فقط تستطيع النفس أن تصل إلى الحقائق العليا.
والعجيب أننا حين نحدث أصحاب العقل والفكر هؤلاء بمثل هذا الحديث يقولون لنا: وما دخل الأخلاق والعبادات التي لا نعدها إلا شعوذات في الوصول إلى الحقائق المجردة؛ وأذكى ذكي منهم يسألنا قائلاً: هل يلزم أن أكون رجلاً فاضلاً كي أعرف أن المغناطيس يجذب الحديد، وأن الأرض تدور دورة كاملة في اليوم، وأن لها قمراً واحداً بينما لزحل أو عطارد أكثر من قمر. . .؟!
وجوابنا على هذا الذكي الأذكى هو أن الشر إذا لم يكن يؤذي نفس صانعه فإنه يؤذي نفس من يقع عليه، فهو إذن شيء تكرهه النفس، وهو إذن عدو لها، فيجب على النفس التي تريد أن تعرف نفسها أن تتخلص أولاً من هذا الذي تكرهه، عدوها الكامن فيها. . .
وبعدئذ حين تعرف النفس نفسها. . . وترى نفسها. . . تستطيع أن تسأل: من أين هي؟ وإلى أين هي؟ وستعرف أنها من الله وأنها إليه راجعة، كما عرف ذلك كل مؤمن، وكل فنان ألهمه الله فنه. وبعد أن تعرف النفس نفسها تستطيع أن تعرف غيرها. . .
رحم الله الدكتور أدهم مرة أخرى
وإني أعود فأنتهز هذه الفرصة لأنصح شبابنا الحائر وراء المعرفة بألا يغتر بعقله، وبأن يعتمد في المعرفة على خلقه كما يعتمد على تفكيره.
اللهم وفقنا جميعاً، واللهم ارحمنا جميعاً. . . يا أرحم الراحمين يا رب. . . هداك
هل هو انتقام؟
الأستاذ عزيز عيد من أشد الناس صبراً على المكاره، فهو في أوقات المحنة لا يشكو، ولا يكفر بالله، ولا يتملق أحداً، وإنما ينتظر، ويظل ينتظر حتى يأتيه فرج الله من حيت لا يحتسب أو من حيث يحتسب.
ولكن ليس معنى هذا أننا إذا كنا نملك إسعاد الأستاذ عزيز عيد أن نمسك عنه ما نستطيع أن نقدمه إليه لا لشيء إلا لأنه قوي النفس صلب الكرامة.
لقد سمعت أن الأستاذ عزيزاً يفكر في أن يؤلف فرقة صغيرة يمثل بها في الاستراحات التي تتخلل الروايات في دور السينما.
وهذا عمل كان يقوم به الفقير حسن بك، كما كانت تقوم به فرقة الحلو البهلوانية وغيرها، وإذا أقبل الأستاذ عزيز عيد على عمل كهذا فإنه لن يقوم به إلا لأنه رأى مجال الفن قد ضاق عنه.
فهل صحيح أن مجال الفن قد ضاق في مصر عن عزيز عيد، وفي مصر فرقة قومية ترعاها الحكومة وتنفق عليها؟
إن هذا يكون صحيحاً إذا كان أقل فرد من أفراد هذه الفرقة له دراية فنية، وتجربة مسرحية تفوق ما للأستاذ عيد
فهل تستطيع الفرقة القوية أن تدعي هذا؟
إن كل ما يعيب الأستاذ عزيز عيد هو شدة طموحه الفني، فهو لم يخرج من الفرقة القومية في هذه المرة إلا لأنهم عهدوا إليه بإخراج (مجنون ليلى) فأراد أن يكرمها، وطلب من الفرقة أن تنفق عليها نفقات رأتها هي باهظة فأمسكت عن إنفاقها.
ولقد كان من الممكن أن تقف المسألة عند هذا الحد، ولكنهم شاءوا في الفرقة القومية أن يشعلوا عزيزاً فلم يعتذروا له بالفقر وإنما سخفوا فكرته، فتحمس هو لها، فاتسعت شقة الخلاف بينهما، فانفصل الأستاذ عن عمله
وإني أتجه الآن بهذه الكلمة للشاعر الفنان الأستاذ خليل بك مطران. ولا أريد أن أزيد. . .
عزيز أحمد فهمي
-