مجلة الرسالة/العدد 373/بعض مآثر سعد زغلول

مجلة الرسالة/العدد 373/بعض مآثر سعد زغلول

مجلة الرسالة - العدد 373 المؤلف زكي مبارك
بعض مآثر سعد زغلول
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1940


للدكتور زكي مبارك

أمتاز سعد باشا - طيب الله ثراه! - بميزات كثيرة جداً منها غزارة العلم وفصاحة اللسان وقوة الشخصية، وكانت له مآثر كثيرة جداً، منها المآثر الآتية:

أولاً - استطاع سعد بشخصيته العاتية أن يغزو ملايين القلوب بالحب والبغض، فأحبه ناس إلى حد الجنون وأبغضه ناس إلى حد الحمق: ومن عجيب أمره أن الذين أحبوه كانوا صادقين والذين أبغضوه كانوا صادقين، وكانت الوطنية الصحيحة مصدر العواطف التي تفجرت في قلوب أصدقائه وأعاديه. وما أذكر أني عرفت أحداً يبغض سعد باشا حسداً، لأن سعداً كان أهلاً للعظمة، وما كان يخطر في بال أحد أن سعداً ينال من سموّ المكانة ما لا يستحق، وإنما أبغضه مبغضوه وطنيةً كما أحبه محبوه وطنيةً، وقد جُنّ أحد أعدائه فأطلق عليه الرصاص، كما جُنّ أحد محبيه فودَّع العقل إلى غير رجعة يوم مات

وقد كنت في مطلع الحركة الوطنية من أنصار سعد، ثم تمردت عليه تمرداً عنيفاً، فكتبتُ، في الهجوم عليه ما كتبت وقلت ما قلت وأنا موقن بأني أخدم وطني بمحاربة ذلك الرجل المسيطر الجبار، ولم يصدني عنه إلا الإتلاف الذي نعمتْ به مصر في سنة 1926. فلما قضى نحبه بعد ذلك عرفت أني فقدت باباً من أبواب الثروة الروحية هو المعاداة في سبيل الوطن بلا ترفق ولا استبقاء

ماذا أريد أن أقول؟

أريد أن أقول إن سعداً قد استطاع إيقاظ الأفئدة المصرية فلم يعيش أحدٌ في عهده بلا روح ثائر أو قلبٍ خفّاق

كان المصريون لعهد سعد متحزِّبين بحماسة وصدق، ولم يكن فيهم رجلٌ واحد يواجه الشؤون الوطنية بلا اكتراث. فكان لأصدقائه جميعاً ولأعدائه جميعاً أقباس روحانية تشهد بأنهم لمبادئهم أوفياء. وأنصار الوفد وخصوم الوفد من الذين لهم في هذه الأيام قوة ذاتية قد تخرجوا جميعاً في مدرسة الحب ومدرسة البغض لعهد سعد، وكذلك نفع الرجل أعداءه كما نفع أصدقاءه، وبهذا صح القول بأنه أجج الجمرات التي صهرت أرواح الجيل الجديد.

ثانياً - اتفق لسعد أن يؤدي اللغة العربية خدمة عظيمة لا يتنبه لقيمتها إلا من يعرف ما كانت تتعرض له لغة العرب بعد الحرب الماضية

كان الأدعياء كُثروا، وكانت بدعة القول بأن العناية بالأسلوب ليست إلا حذلقة لا تليق بأبناء العصر الحديث، وكانت هناك فتنة يَنجُم قَرنها من وقت إلى وقت، وهي فتنة الرجم بأن اللغة الفصيحة لغة أجنبية وأن اللغة العامّية هي لغة المصريين. وقد وُئدتْ تلك البلايا وهي في المهد بفضل سعد، ولكن كيف؟

كان سعد من أبناء الجيل الماضي، وهو جيل سليم، ويشهد بسلامته وعافيته ما نهض به من جلائل الأعمال، فذلك الجيل هو بطل الثورة على الظلم والاستبداد، وذلك الجيل هو الذي قاومَ طغيان الغرب على الشرق، وذلك الجيل هو الذي عاونَ على قوة الشخصية القومية، وذلك الجيل هو الذي خلق مُنشَئات عظيمة منها الجامعة المصرية

من ذلك الجيل السليم كان سعد، وكان ذلك الجيل يؤمن بأن اللغة العربية هي أكرم ذخائرنا الوطنية، وكان يرى أن متانة الأسلوب هي العنصر الأول من عناصر البيان

وكذلك يفهم من لم يكن يفهم كيف كان سعد يُعنِّى نفسه ويعذِّبها في سبيل الظفر بالأسلوب الرصين

هل تذكرون كيف كان سعد ينظم خطاباته الرسمية وهو يتوجه إلى جلالة ملك مصر أو إلى الأمة أو إلى النواب والشيوخ؟ لو صح القول بأن الجهد الشاقْ يقصِّر الأجل لقلت إن عناية سعد باشا بالأسلوب قد نهبت من عمره نحو عشر سنين، وإلا فكيف جاز أن يموت قبل أن يصل إلى السن التي يموت فيها رجلٌ في مثل هامته العالية وبُنيانه المتين؟

إن اهتمام سعد بالأسلوب خلق في القلوب فكرة الحرص على كرامة اللغة العربية، وكان ذلك بداية انهيار جيش الأدعياء، من الذين كانوا يرون أن من السهل أن يكون الشخص أديباً بدون أن ينفق من عمره سَنةً واحدة في الإطلاع على ذخائر اللغة العربية. ومن حظ مصر أنْ كان خصوم سعد باشا يرون هذا الرأي، فكانت جريدة السياسة وجريدة اللواء وجريدة الأخبار تحارب جرائد الوفد بأسلوب ظل أثرها باقيا إلى هذه الأيام

وماضي سعد باشا في صباه يوم كان محرراً في (الوقائع المصرية) يشهد بأنه كان من الذين يستهويهم القول الجزل والتعبير المصنوع، وقد لزمتْه هذه الخصلة طول حياته فكان يرى البلاغة ضرباً من الفن الجميل لا يصل إليه الرجل إلا بعد أن يتمرَّس بأساليب الفطاحل من القدماء

وكان سعد خطيباً من الطراز الأول بشهادة الأكثرين، وقد حضرت له خطبتين إحداهما في بيت البكري بعد رجوعه من باريس عقب انفضاض مؤتمر الصلح، والثانية في مصر الجديدة أيام ثورته عل المرحوم عدلي يكن، ثم حضرت له خطبة ثالثة في مجلس الشيوخ يوم احتل الإنجليز الجمارك بعد مقتل السردار في سنة 1924، وفي هذه الخطب الثلاث لم أصدِّق أن منزلته الخطابية تساوي شهرته الشعبية، ومع هذا لا يمكن التغاضي عن سعد الخطيب، فقد كان أقدر الناس على خلق الانقلابات، وخطبته بشبرا أيام (وزارة الثقة) هي مصدر التقلبات السياسية التي ظلت تقلقل حياة مصر إلى هذا اليوم. وعلى الرغم من أنه لم يرضني خطيباً فما أزال أذكر كيف كان يخرج الحروف بأصوات ونبرات هي الشاهد على أنه كان في الخطابة من الفنانين

ثم حضرت خطبه مرة رابعة وخامسة فلم يتحسن رأيي فيه، فهل كان للعداوة السياسية تأثير في حكمي على ذلك الخطيب الذي بهر الجماهير زمناً غير قليل؟

المهمْ أن نسجل أن سعد باشا عاون معاونة جدية على صيانة اللغة العربية من عبث الجاهلين بأسلوب الأدب وأسرار البيان

ثالثاً - ترفق سعد بالتقاليد حتى ليمكن الحكم بأنه كان يكره الانقلابات الاجتماعية، وهو الذي صدنا عن لبس القبعات سنة 1927، ولولا مقاومته ومقاومة الأمير عمر طوسن لجرينا في الطريق الذي جرى فيه الأتراك. وهذه المسألة تبدو في صورة المسائل الشكلية، ولكن لها جذوراً أعمق من ذلك، فلو أننا كنا جارينا الأتراك في ترك الطرابيش لكان من الجائز أن نجاريهم في كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، ولكان من الجائز أن نسايرهم في اضطهاد رجال الدين، وهذا وذاك من الأغلاط التي وقع فيها الأتراك مجذوبين بتيار الانقلاب

كان سعد من المحافظين ولم يكن من الرجعيين، وكان على محافظته حر الفكر إلى أبعد الحدود، وهو الذي مَدَّ يده فنزع نقاب امرأة وقفت تخطب بين يديه، لأنه شعر بأن منطق العصر لا يقبل أن تُلقي المرأة خطبة وهي في حراسة النقاب

رابعاً - كان الجو في أيام سعد مشبَعاً بهواء ثقيل هو الدعوة إلى عزلة مصر عن الأقطار العربية والإسلامية، وقد أنتبه سعد إلى خطر ذلك الهواء فصدَّه بحزم وعنف. ولما وقع الزلزال بفلسطين في صيف سنة 1927 تبرع سعد بمائة جنيه لمنكوبي الزلزال وتبرع المرحوم عوض بك عريان المهدي بتسعة وتسعين جنيهاً فكانت نكتة لطيفة من نكت الذوق. وعواطف سعد من الوجهة العربية والإسلامية كانت عواطف الزعيم الذي يؤمن بأن العروبة والإسلام هما سند مصر في الشرق

خامساً - كان سعد أقوى نصير للمواهب الأدبية، وكان ينظر إلى القلم نظر الخوف والرجاء، ولم يكن يجيد المتعة الروحية إلا في محاورة أهل الفكر والبيان

كان سعد يحب أنصاره من الكتّاب فيقرِّبهم ويشجِّعهم، وكان يبغض خصومه من الكتّاب بغضاً شديداً، فلا يأوي إلى فراشه إلا بعد أن يطمئن إلى أنه سيقرأ في غده ما ينقض تحاملهم عليه، وكان يتقدم بنفسه من حين إلى حين فيخوض غمار المعارك القلمية بإمضاء مستعار ليشفي صدره من المتطاولين على مقامه الجليل

سادساً - كان سعد من أرباب القلوب، وتتجلى عظمة سعد من هذه الناحية إذا تذكرنا كيف نسى ما كان بينه وبين خصومه من الأحقاد السُّود بعد إذ منّ الله بنعمة الائتلاف، فقد كان سعد يبكي لفراق عدلي يكن وعبد الخالق ثروت، وكان صدقه في مودة هذين الخصمين من أكرم ما صدر عن قلبه السليم

سابعاً - كان لسعد فضلٌ عظيم في تقوية الشخصية الحزبية، وهي أساسٌ لجميع الأعمال الوطنية، حين تَحسُن النيات، وتصفو الضمائر، وتطيب القلوب

كان سعد رئيس الأمة، ولكنه لم ينس أبداً أنه رئيس الوفد، فكان يجاهد في تقوية ذاتيته الحزبية بعزيمة قهَّارة وقلب صوَّال، وهو الذي رفض السماح لأحد أنصار الوفد بالاعتراض على الحكومة الوفدية في مجلس النواب

وهنا ندرك أن سعداً كان يعرف قيمة المبادئ، وما كانت تجوز عليه الحيلة الطريفة التي تقول بالتفرقة بين المبادئ والأشخاص، والتي تبيح للرجل أن يخرج على حزبه بحجة أنه من أنصار الحق! ومعنى هذا الكلام أن الرجل يجب عليه أن ينصر حزبه ظالماً أو مظلوماً، وأن يؤازره في جميع الأحوال، ولو أعتقد أنه على ضلال

وبهذا الحزم الصارم نجح سعد، ولعله كان يفهم جيداً أن العضو في الحزب كالجنديّ في الكتيبة، فما يجوز له أن يتحدث في تعديل خطط القتال

أما بعد، فهذه لمحات من مآثر سعد، وما أريد بها التكفير عن الأعوام التي قضيتها في الهجوم عليه، فما كان لي من غاية ولا غرض في ذلك الهجوم شببتُ ناره في جريدة الأفكار وجريدة المحروسة وجريدة اللواء؛ وإنما كنت جندياً من جنود الحزب الوطني، وكنا نرى صادقين أن هدم سعد من أوجب الفروض

فإن قيل إن جهادنا في تحطيم سعد قد ذهب أدراج الرياح، فأنا أجيب بأن هذا من حظ مصر ومن حظ الحزب الوطني، لأن الحزب الوطني يسره أن يكون في مصر رجال ترضى عنهم الأمة وتقيم لهم التماثيل

الحزب الوطني ينتظر خصوماً من طراز سعد، خصوماً أقوياء لا تهدمهم معاول الحق، وما أعظم الرجل الذي تعجز عن هدمه معاول الحق!

وهل كان عبد العزيز جاويش على خطأ في محاربة سعد زغلول؟

وهل كان مصطفى الشوربجي آثماً في تفنيد المطالب الوفدية؟

إن انتصار الوفد في عهد سعد وفي عهد النحاس لن ينسينا مبادئنا، ونحن مع ذلك نرحب بانتصار الوفد ونرجو أن يطول بيننا النزاع والشقاق، لأننا نؤمن بأن السلام ضرب من الموت

كانت لنا مبادئ وكانت لنا ميادين قتال

فمتى يرجع ذلك العهد، العهد الذي كنا نشتجر فيه حول المقاصد الوطنية ونحن في غياهب الاعتقال؟

أيقضَى علينا أن نعيش في أمان فلا نعرف غير مصاولة الكاتبين والباحثين؟

ولكن لا بأس، فما كان النقد الأدبي إلا خدمة وطنية، لأن الأدب هو سفير مصر في الشرق

وسلام الله عل شهداء الوطنية في جميع الصفوف.

زكي مبارك