مجلة الرسالة/العدد 377/أخلاق القرآن
مجلة الرسالة/العدد 377/أخلاق القرآن
2 - أخلاق القرآن
العدل
للدكتور عبد الوهاب عزام
بينت قبلاً أن القرآن يريد بتعليمه الأخلاقي تحرير الإنسان من أهوائه وشهواته، وتزويد عقله بالمعرفة، ودفعه إلى العمل في معترك الحياة لخيره وخير الناس؛ ووعدت أن أتحدث عن أمهات الأخلاق في القرآن، فاليوم أبدأ الحديث بالعدل:
العدل القرآني هو العدل المطلق الشامل الذي لا يختلف بين زمان وزمان، ومكان ومكان، وأمة وأمة؛ والذي تستوي فيه نفس الإنسان وغيره، ويستوي فيه القريب والبعيد، والصديق والعدو، ويستوي فيه الرضا والغضب، والحب والبغض، والنفع والضرر. هو أن يعطي الإنسان كل ذي حق حقه في كل حين وفي كل أرض، وعلى كل حال. يقضي على نفسه بالحق ويقضي لغيره بالحق، ويعطي من يكره بالحق، ويحرم من يحب بالحق، ويعمل العمل فيه ضره إيثاراً للعدل، ويكف عن العمل فيه نفعه إيثاراً للعدل. هو أن يعترف بإحسان غيره ولا يبخس الناس أشياءهم، ويعترف بإساءته، ولا يحب أن يحمد بما لم يفعل وأن ينقاد لرأي غيره حين يتبين له أن الحق، ويسرع الرجوع عن رأيه حين يعرف فيه الباطل.
العدل القرآني أن يصرّف الإنسان أمور نفسه وأمور الناس على قانون لا عوج فيه ولا زيغ ولا استثناء ولا ظلم ولا محاباة، أن يسيّر أعماله على قانون إلهي لا تبديل فيه ولا تحويل، كالقوانين التي تسيّر: الشمس والقمر والنجوم والرياح، وتصرّف العالم كله كما يشاء الله.
يقول القرآن الكريم: (والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، والأرض وضعها للأنام)، أليس في هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن العدل الذي يأمر الله به هو قانون من قوانين الله بثّه في خليقته. فهو قد رفع السماء ووضع الميزان في خليقته، كل شيء مقدّر بقدره، وكل شيء محدود بحدوده، كما قال في آية أخرى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون). وكذلك أمر الله الناس أن تكون أعمالهم في هذه الأرض على هذه الشاكلة لتسقيم أمورهم وتعتدل معايشهم، فليس عدل الله أمراً يسيراً تتصرف فيه الأهواء، وتتلاعب به الشهوات والعصبيات. ليس عدل الله أمراً مما يباع باليسير من متاع الحياة الدنيا، ويهجر للحقير من أهواء النفوس، ولكنه نظام في العالم وفي الاجتماع البشري لا يستقيم شيء فيهما بدونه كما جاء في الحديث الشريف: بالعدل قامت السموات والأرض.
وآية أخرى من القرآن تجعل العدل أول صفات الله التي يقوم بها على خلقه: (شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولوا العلم، قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم). فقد شهد الله وشهد أولوا العلم من عباده أنه تفرد بالألوهية قائماً بالعدل في خلقه.
وآية أخرى تبين أن الله أوحى للناس علمه وشرائعه مع العدل، ليقوموا بالعدل في معايشهم وهو الغاية التي من أجلها أنزلت الشرائع. استمع هذه الآية الكريمة:
(لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
وأخرى من الآيات تبين أن أوامر الله وأحكامه قائمة بالصدق والعدل لا تتحول عنهما: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته).
يبين القرآن أن الله جعل العدل نظاماً للعالم، وقياماً للخلق، وأمر به في كثير من آياته، وحث المؤمنين على أن يكون ديدنهم القيام بالعدل بين الناس، والشهادة لله على الناس بالعدل، وأن ينزهوا العدل عن الهوى فلا يميلهم عنه حب ولا كره. قال في سورة النساء: (يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا. وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً.) وقال في سورة المائدة:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)
أمر في الآية الأولى أن يقوموا بالعدل ويشهدوا به الله. ولا يميلوا عنه لمحبة النفس أو الوالدين أو الأقربين. وأمر في الآية الأخرى ألا يميلوا عن العدل مع من يبغضونهم فقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا) يعني لا يحملكم بغض قوم على أن تعاملوهم بغير العدل.
وقال في سورة الأنعام: (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا تكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
والآيات التي تأمر بالعدل كثيرة حسبنا منها الآية الجامعة: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون)
ويشتد القرآن في النهي عن الظلم كما يشتد في الأمر بالعدل ويبين عاقبة الظلم في الأمم بأساليب شتى؛ والظلم في لغة القرآن وضع الأمر في غير موضعه أو الخروج عن الحق. فالمجرم ظالم، والكافر ظالم، والمشرك ظالم، والكاذب ظالم. يقول: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته). ويقول: (وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم). ويحكي القرآن عن آدم وحواء حين تابا: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين). وما هذا الظلم إلا مخالفتهما ما أُمرا به.
وعاقبة الظلم هلاك ودمار للفرد والجماعة والأمة. قلّ أن يذكر القرآن هلاك أمة أو بلد إلا بيّن أنها هلكت بظلمها. يقول في سورة الأنبياء: (وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين). وفي سورة الحج: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها، وبئر معطلة وقصر مشيد). (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإليّ المصير). وفي سورة هود: (تلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد. وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم، فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب. وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد).
هذا العدل المطلق الذي بينه القرآن وأمر به يقتضي الجزاء الحتم. فكل إنسان مجزيّ بعمله خيراً أو شرّاً. العدل يقتضي أن يميّز الخير من الشر والمحسن من المسيء. يقول القرآن: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) ويقول: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون) (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم؟ ساء ما يحكمون) بل يقرن القرآن الجزاء بخلق السموات والأرض (وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون).
فالجزاء حتم على كل صغيرة وكبيرة وليس للإنسان إلا عمله، ليس في الناس مقربون إلى الله ولا مبعدون عنه إلا بالعمل.
يقول: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى) ويقول في الرد على من زعموا أن لهم مكانة عند الله تخرجهم من هذا القانون العام قانون الجزاء: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب؛ من يعمل سوءاً يُجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً). (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره).
ومن هذا العدل المطلق والجزاء الحتم أباح القرآن أن يقابل الشر بمثله من غير بغي. قال: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) وقال: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله) ويقول: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصرنه الله) وفي سورة الشورى يوضح هذا أتم إيضاح. يقول في مدح المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون، وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين. ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم). فمن حق الإنسان أن يردّ البغي عن نفسه في غير عدوان، وأن يلقى السيئة بمثلها وينتصر ممن ظلمه، وله أن يعفو ويصفح إن رأى في العفو خيراً.
ذلكم العدل الذي بثه الله في خليقته، وأمر به عباده، وجعل فيه صلاحهم، وفي تركه دمارهم. فمن شاء الخير لنفسه وللناس فليلزم العدل في كل صغيرة وكبيرة، وليكن كما أمر القرآن قائماً بالقسط شهيداً لله.
إن الأمم تتهافت في النار، وتعود على ما شيّدت بالخراب والدمار، بما فقدت العدل وكفرت به، واتخذت لأنفسها شريعة من الباطل والزور والبغي. يريد المغترون بقواهم أن يسيطروا على الأرض بالباطل، زاعمين أنهم يسيطرون عليها بالحق، لا يرون لغيرهم حقاً، ولا لأطماعهم حداً، ولو أنصف الناس فقاموا في خلق الله بالقسط، وجعلوا الحق شريعة بين الناس، ونبذوا العصبية للباطل، ورفعوا عن أعينهم غشاوة الهوى ما سُخرت عقولهم وعلومهم وصناعاتهم للإهلاك والتدمير، ولما قذفوا بأنفسهم في جهنم وهم يستطيعون أن يعيشوا في جنة على هذه الأرض.
داء الأمم الظلم ودواؤها العدل - العدل الشامل المطلق الذي لا يختلف باختلاف الأزمان والأوطان والشعوب والأديان. إنما يأخذ الله الأمم بجرائرها عسى أن تثوب إلى رشدها وتتبين الطريقة المثلى التي حادت عنها، وإن في ذلك لعبرة.
ويقول القرآن الكريم:
(ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا يستهزئون. ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون). . . صدق الله العظيم
عبد الوهاب عزام