مجلة الرسالة/العدد 377/العلاقة بين الجسم والذكاء

مجلة الرسالة/العدد 377/العلاقة بين الجسم والذكاء

مجلة الرسالة - العدد 377
العلاقة بين الجسم والذكاء
ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1940



للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد

يقول المثل السائر: (العقل السليم في الجسم السليم). والأمثال تقبل عادة من غير محاولة إثبات. ولكن إلى أي حد يطرد هذا المثل؟ إن الملاحظة تؤيد أن من بين أصحاء الأجسام كثيراً من الأغبياء وضعاف العقول، كما أن من بين ذوي العاهات والمرضى عدداً من العبقريين. وقد عرفت إنجلترا مصرياً كان قد أقعده المرض سنوات طويلة، فعطل من وظائف رجليه ويديه وظهره وأسنانه، ومع هذا كان نشط العقل، يفكر وينتج. كان يُقرأ له في الفراش، وكان يؤلف ويملي، ويقرض الشعر العربي والإنجليزي، ويملي مقالاته باللغتين. وكان لبق المنطق، حاضر الفكرة. وقد لا يكون من الصعب أن نعثر على آخرين أمثال صاحبنا هذا، ولكن الملاحظة العرضية لا تكفي لتحقيق القضايا العلمية. وسأعرض في هذا المقال نتيجة أبحاث العلماء في العلاقة بين الذكاء والجسم.

شغل العلماء من القرن الثامن عشر بمعرفة ما إذا كان من الممكن الحكم على صفات الفرد العقلية من صفاته الجسمية. وقد ظهرت عدة نظريات كانت كلها محاولات لكشف العلاقة بين العقل والجسم. وقد تناولت بحوث العلماء في هذا الصدد الموضوعات الآتية:

1 - شكل الجمجمة وحجمها، وملامح الوجه، وعلاقة كل هذا بالعقل.

2 - قدرة الرئة على التنفس وعلاقة هذه القدرة بالذكاء.

3 - دقة تمييز الحواس المختلفة، ومقدار سرعة إدراكها وعلاقة ذلك بالذكاء.

4 - زمن الرجع (أو رد الفعل) للمؤثرات الحسية الخارجية.

5 - الإفرازات التي تخرج من الغدد الصماء وأثرها في الوظائف العقلية.

6 - العلل الجسمية وأثرها في الإنتاج العقلي والذكاء.

- 1 -

كتب لافاتير السويسري كتاباً عن (الفراسة الوجهية) في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، قال فيه بإمكان الحكم على ذكاء الفرد من تقاطيع وجهه، وشكل الجبهة والأنف وحجم الفك. ومع أن هذه النظرية لاقت أنصاراً حين ظهور الكتاب، ولا يزال لها في العصر الحاضر مؤيدون من عامة القراء؛ فمن المؤكد علمياً أنها نظرية باطلة، لأ الذكاء الحديثة المعتمدة لم تثبت وجود علاقة بين تقاطيع الوجه والذكاء، إلا عند البله والمعتوهين.

وفي سنة 1810 ظهرت رسالة لعالمين فرنسيين هما جال واسبورتزهيم تشرح نظرية القيافة الجمجمية وتشير إلى وجود عدد من الملكات العقلية المختلفة كملكة الإدراك، وملكة الحفظ، وملكة التذكر، وملكة العزم الخ، وحصرها في ست وعشرين. ولكل ملكة من هذه الملكات مركز خاص في الدماغ. ويقابل كل مركز من هذه المراكز الدماغية مساحة خاصة في الجمجمة. وكل نمو في مراكز هذه الملكات يقابله نمو في مساحاتها الجمجمية. أي أنه من الممكن معرفة قوى هذه الملكات العقلية بقياس بروز مساحتها الجمجمية. ولم تعمر هذه النظرية طويلاً

وفي أواخر القرن الماضي ظهرت في إيطاليا مدرسة تقول بوجود تلازم إيجابي مطرد بين الصفات الجسمية التشريحية وبين ذكاء الفرد وخُلقه، وزعيم هذه المدرسة هو البروفسور سيزاري الأخصائي في علم الإجرام. وتتلخص نظريته في أنه من الممكن معرفة ضعاف العقول، والبلهاء، وذوي الميول الإجرامية من خلق الرأس وحجمه وتركيبه. فعدم انتظام شكل الجمجمة، وبروز الجبهة، وضيقها، وانخفاضها، وانفطاح الأنف وعرضه، وضيق قوس الحنك وارتفاعه، وعرض الأذنين وكبرهما، وعدم انتظام شكلهما؛ كل هذه دلائل على ضعف عقل الفرد. وكان ممن عنوا بكشف العلاقة بين حجم الرأس والعقل جولتن في إنجلترا وبيتيه في فرنسا، وقد دلت تجاربهما على أن التلازم الإيجابي بين حجم الرأس وذكاء الفرد من القلة بحيث لا يعتمد عليه في معرفة الذكاء

كان لنظرية لمبروزو صدى شديد في المعاهد التي عنيت بدراسة الإجرام وصفات المجرمين؛ ففي سنة 1910 وسنة 1911 أجريت تجارب في السجون الإنجليزية لقياس جماجم المسجونين وبروز جباههم، وأنوفهم، وآذانهم الخ. ثم قورنت نتائج هذه المقاييس التي اتبعت فيها طريقة لمبروزو بسجلات المسجونين، ونتائج اختبار ذكائهم، فانهارت بهذه التجارب نظرية لمبروزو، وامحت من بين النظريات العلمية. وكانت هذه آخر المحاولات التي قصد بها إثبات تلازم بين شكل الجمجمة وحجمها وتقاطيع الوجه وبين الذكاء. وفي هذا يقول الأستاذ (كارل ببرسن) بعد أن أجرى اختبارات على ستة آلاف تلميذ مدرسي وطالب جامعي: (إن التلازم الإيجابي بين مقاييس الجمجمة وبين الذكاء من القلة بحيث لا يعتمد عليه في الحكم على ذكاء الفرد)

- 2 -

وموضوع العلاقة بين القدرة على الشهيق وبين الذكاء قد يظهر غريباً. ولكن أحد الأطباء بمانشستر الدكتور (مامفورد) عنى بهذا الموضوع، فأجرى اختبارات على تلاميذ مدرسة ثانوية وعلى طلبة الجامعة ووجد تلازماً إيجابياً مطرداً بين القدرة على الشهيق العميق واتساع الرئتين، وبين ترتيب التلاميذ في الفصول. فالتلاميذ المتقدمون أقدر على الشهيق العميق والتنفس القوي من التلاميذ المتأخرين. وقد لاحظ الدكتور أيضاً من نتائج الاختبارات أن هذا التلازم الإيجابي يضعف كلما كبر التلاميذ في السن. وقد أبدت نتائج هذه الاختبارات اختبارات شبيهة بها أجريت في كاليفورنيا بواسطة الأستاذ ترمان.

- 3 -

أما دقة التمييز الحسي، وإدراك الفروق الحسية - لمسية أو ذوقية أو شمية أو سمعية أو بصرية - وعلاقة ذلك بالذكاء فيرجعان إلى نظرية البروفسور فنت الألماني، التي كانت تشير إلى أن الحواس هي منافذ العقل، والمدركات الحسية هي التي يتألف منها العقل. ومن الممكن إذاً قياس الذكاء بقياس قدرة الحواس، وقوتها على تمييز المحسوسات المتقاربة. فأجريت تجارب على الحواس استخدمت فيها أجهزة كأجهزة معامل الطبيعة والضوء، بعضها لقياس قوة قبضة اليد، وبعضها لقياس مقدار التمييز اللمسي، وبعضها لقياس القدرة على إدراك الفروق الصغيرة في الأنغام والألوان والظلال. وقد قام بهذه الاختبارات جولتن في إنجلترا وكاتل وثورنديك في أمريكا. وكانت نتيجة هذه الاختبارات أن قدرة التمييز الحسي في الملموسات والمذوقات والمشمومات لا تدل على ذكاء الفرد، وأن لا تلازم بين هذه القدرة والذكاء. فلا فرق في قوة التمييز هذه بين الأطفال والكبار، ولا بين الأغبياء والأذكياء، ولا بين المتحضرين وغيرهم.

والأستاذ اسبيرمان وآخرون يقولون بأن للقدرة على تمييز

النغمات الموسيقية المختلفة أو المتقاربة علاقة بذكاء الفرد، وأن بينهما تلازماً إيجابياً قوياً، فكلما كان الفرد أكثر ذكاء كان

أقدر على تمييز النغمات. وهو يرى (أن الذكاء له109 من

نجاح الفرد في تمييز الأصوات ذات النغمات المتقاربة)

أما العلاقة بين الذكاء وبين حدة النظر والقدرة على تمييز المرئيات المتشابهة، فقد أثبت عدد كبير من الاختبارات بين تلاميذ المدارس أن الأغبياء وضعاف العقول يكثر فيهم ضعف البصر، ولو أن كثيراً ممن يشكون من (قصر النظر) أذكياء ونابغون. وإذا حكمنا بنتيجة الاختبارات التي أجريت قلنا إن بين القدرة على تمييز المرئيات قريبة الشبه وبين الذكاء علاقة قوية وتلازماً إيجابياً. وبهذا يقول أنصار اسبيرمان

- 4 -

من الملاحظ أن الإنسان إذا كان تعباً جسمياً فإن زمن الرجع للمؤثرات الحسية الخارجية عنده يكون أطول من زمن الرجع حين نشاطه. ونحن في أوقات الصباح أسرع رجعاً منا بعد القيام بعمل عضلي طويل. وقد تنبّه علماء النفس لهذه الظاهرة، وحاولوا أن يعرفوا إلى أي حد يرتبط الذكاء بزمن الرجع الحركي للمؤثرات الحسية. وقد اخترعت آلات خاصة تسجل الفرق بين زمن صدور المؤثر الخارجي - عن طريق اللمس أو البصر أو السمع أو الذوق - وزمن رد الفعل. وأجريت اختبارات لأفراد كثيرين لمعرفة ما إذا كانت سرعة الرجع دليلاً على شدة الذكاء، والنتائج التي أسفرت عنها الاختبارات متضاربة بحيث لا يصح الجزم بها نهائياً.

- 5 -

اهتم علماء النفس منذ أوائل القرن الحالي بدراسة الشخصية وعناصرها، والعوامل الفيزيولوجية التي تؤثر في تكوينها. ومن المدارس السيكلوجية التي لها رأي وجيه في دراسة الشخصية مدرسة أمريكية ترى أن للغدد الصماء أثراً هاماً في تكوين الشخصية بما تفرزه من عصارات تسمى الهرمونات والذكاء عامل من عوامل الشخصية

والهرمونات هذه عصارات ذرية تسير في الدم وتعمل على تنشيط وظائف الأجهزة العضوية المختلفة أو أضعافها، كالجهاز الهضمي والتنفسي والتناسلي والعصبي؛ وبعض هذه الهرمونات يؤثر في المخ ونشاطه. ومن الغدد التي تفرز الهرمونات الغدة الدرقية وموضعها الرقبة. وهي تفرز هرموناً يحتوي على كميات من (اليود) ضرورية لنمو الجسم ونشاطه. ويولد بعض الأطفال وعندهم ضعف في هذه الغدة، ولذلك لا ينمون نمواً طبيعياً، فيظلون أقزام الجسم، ضعاف نمو المخ، أغبياء، بطيئين في أعمالهم. ومعنى هذا أن للهرمون الدرقي أثراً في ذكاء الفرد. وتوجد غدة أخرى اسمها الغدة النخاعية وموضعها قاعدة الدماغ، وتفرز هرموناً يشبه في أثره الهرمون الدرقي، أي أن له أثراً في نمو الجسم ونشاطه وفي نمو العقل ونشاطه.

من أجل هذه الصلة بين العقل والجسم وغدده كان من الضروري لطلبة علم النفس في الجامعات الأوربية والأمريكية أن يدرسوا علم وظائف الأعضاء، والعلاقة بين الوظائف العقلية والوظائف العضوية، كما أصبح من الضروري أن يدرس طلبة الطب قدراً من علم النفس، والحقيقة أن علم الطب وعلم النفس يكمل الواحد منهما الآخر، لأن موضوعهما واحد وهو الإنسان

- 6 -

ولمعرفة علاقة صحة الجسم أو مرضه بالذكاء يجب أن نفرق أولاً بين ما يسمى نسبة الذكاء الثابت عند الفرد وبين نوع الإنتاج وجودته، وقد أجريت عدة تجارب في هذا الموضوع، وكلها تقريباً يؤكد أنه ليس للمرض أو الصحة أثر في نسبة الذكاء الثابت إلا إذا حدثت العلة في سن مبكرة وأصبحت دائمة. وأما العلل الطارئة كتسويس الأسنان، والتهاب اللوزتين، والعمى، والصمم فإنها تضعف من كمية المنتج ونوعه، وإن كانت لا تؤثر في نسبة الذكاء الثابت. ويقول الأستاذ فريمان: (إنه ولو فرضنا أن مرض الجسم أو ضعف نموه لا يؤثر كثيراً في نمو العقل فإنه من الممكن أن يؤثر تأثيراً محسوساً في القدرة الإنتاجية للفرد وفي وظائف مواهبه العقلية، وعل كل حال يجب أن نذكر دائماً أثر المرض وضعف الجسم كلما حاولنا أن نحكم على ذكاء الفرد من مقدار إنتاجه)

أما صاحبنا الذي أشرت إلى ذكائه في طليعة هذا المقال فمن يدرينا لعله لو كان سليماً لكان إنتاجه أكثر وأكمل من إنتاجه أثناء المرض (بخت الرضا. السودان)

عبد العزيز عبد المجيد