مجلة الرسالة/العدد 378/القصص

مجلة الرسالة/العدد 378/القصص

ملاحظات: الهارب من الجيش Le Mauvais Zouave هي قصة قصيرة بقلم ألفونس دوديه نشرت عام 1880. نشرت هذه الترجمة في العدد 378 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 30 ديسمبر 1940



الهارب من الجيش

للكاتب الفرنسي ألفونس دوديه

ترجمة الأستاذ حلمي مراد

يعد ألفونس دوديه (1840 - 1897) أبرع أدباء فرنسا في كتابة القصة القصيرة التي تدور وقائعها في جو الحرب المظلم الرهيب، وقد يرجع ذلك إلى معاصرته للحروب الطويلة التي نشبت بين فرنسا وألمانيا. . . وهو في تعبيره عن أرق وأعمق المشاعر وعطفه على الفقراء والمظلومين يشبه الأديب الإنجليزي المعروف تشارلس ديكنز وينحو منحاه. ومن مؤلفات دوديه الخالدة: (سافو) ثم (فرومون وريزلر) و (تارتاران) و (جاك).

. . . وقصة (الهارب) هي إحدى قصصه القصيرة التي نشرت في مجلد عنوانه (وسط غمار باريس). . .

رفع الرجل كأس البيرة إلى شفتيه وهو جالس أمام حانوته يرقب العمال، وقد تسربوا إلى الطريق ميممين شطر بيوتهم. . . حيث تنتظر كلاُ منهم زوجته وأولاده.

تلك هي الصورة التي اعتاد الناس أن يروها كلما مروا بحانوت مسيو جورج لوري الحداد. . . في مساء كل يوم.

. . . إلى أن جاءت ليلة خالف فيها مألوف عادته، إذ ظل إلى جوار النار المشتعلة في أتون حانوته، إلى ساعة متأخرة بعد غروب الشمس. . . ظل ساهماً شارد الفكر، يبدو عليه الهم وتعلو وجهه مسحة من الكآبة، غير عابئ بزوجته التي اشتد بها القلق لتأخره فانساقت إلى مخيلتها مخاوف وأوهام صورت لها صنوفاً من البلايا والأرزاء، فهي آناً ترى ابنها الذي اختطفته الحرب يروح ضحية مقذوف طائش، وآونة تخاله صريع المرض أو الجوع، تمتص الحمى دماءه في نهم وشره.

وأخيراً، حين عاد الزوج. . . عقد الخوف لسانها، فلم تجرؤ على تقصي جلية الأمر منه خشية أن يجيء جوابه معززاً لمخاوفها ومبعثاً للحزن والألم. . . فسكتت على مضض والقلق يعتصر قلبها فتعلو خفقاته ويشتد به الأنين.

أما هو فلم يسكت. . . بل قذف بالصحاف التي وضعتها أمامه حين جلس إلى المائدة. . . قذف بها إلى الأرض، فتحطمت محدثة ضجة أفزعت الأطفال فأجفلوا وجفت حلوقهم عن ازدراد ما في أفواههم من طعام. . . وكأن لم يكفه ذلك، فصاح على الفور:

- يا للأنذال المجرمين.

فقالت هي في لهجة تساؤل لينة: من تعني يا عزيزي، وماذا أغضبك؟. . . ولم تكد تتم قولها حتى زجرها بصياحه:

(من أعني؟ أتسألينني لم أنا غاضب؟ حسن، إذاً فاعلمي أني حاقد على نفر من الجبناء رأيتهم منذ حين، خمسة أو ستة حسبما أذكر - ما لذاكرتي تخونني كأنها تأبى أن تذكرني أهاجوا الدم في عروقي - ومع هذا فإني أذكر أنهم أخذوا يذعرون طرقات المدينة محتمين بالجند الألمان الذين ساروا إلى جانبهم دون أن يعرف الخجل إليهم سبيلاً. . . يا للحسرة ويا للألم، لقد هربوا من الميدان وفروا من واجبهم المقدس. . . لعمري أني لا أدري أي شراب هذا الذي سلبهم كل نخوة وإدراك. . . يا للعار!)

وهنا عادت الزوجة إلى لهجتها الوادعة فقالت: (خفف عن نفسك يا عزيزي ولا تتعجل في الحكم، فلربما عاودهم الحنين إلى بلادهم فآثروا التحرر من خدمة الجيش. . . أو ربما)

ولكنه لم يدعها تتم قولها إذ بادرها بالصياح:

(أو تجرئين يا خائنة على تبرير فعلتهم؟)

قالها وهو يلوح بقبضته الغليظة في الهواء، ثم ما لبث أن أهوى بها على المائدة واستأنف القول (ولكنك - كسائر النساء - تعجزين عن فهم شيء من أمور الدنيا، فلقد تأثرت عقلياتكن بسذاجة الأطفال وغطت غشاوة من الجهل على أبصاركن، فبانت الواحدة منكن لا تحسن التمييز بين الضعف والخيانة. . . أفلا تدركن ما قد فعل أولئك الأوغاد؟ إنهم لمارقون يجب أن تتبرأ منهم فرنسا بل وتلقي بهم إلى الموت. . . وإلا فإني - وقد أمضيت في الجيش سبعة أعوام كاملة - لن أتردد في الانزواء مبتعداً عن الأرض التي يطئون بأقدامهم الدنسة) تناثرت هذه الكلمات من فم الرجل بل من قلبه - مصدر إيمانه وموطن عقيدته - قوية دافقة فاهتزت لها أركان الغرفة وردد البيت صداها مدوياً مزمجراً.

وكأني بها قد استنفدت كل جهده وهدت من كيانه، فخرج إلى الفضاء كي يسري عن نفسه بعض ما عانت وينعم بقسط من الهواء الذي تركه الله مباحاً حتى لأمثاله من البسطاء البائسين غير مفرق بينهم وبين من يشمخون بأنوفهم نحو السماء وهم من التراب وإليه مصيرهم المحتوم.

. . . فانطوت الزوجة على نفسها حتى أوى أطفالها الثلاثة إلى مضاجعهم بعد أن اخترقت آذانهم الصغيرة المرهفة تلك الصيحات الجامحة. . . ثم وقفت ومشت إلى النافذة في خطوات وئيدة، وحين بلغتها استندت إلى حافتها بالمرفقين وراحت تتطلع في شوق ولهفة ممزوجين بالقلق، إلى الحديقة التي ترامت الخضرة بين جنباتها؛ وبين التنهدات الزفرات جال فكرها المرهق في شتى المناحي وعاد حاملاً خليطاً من الخطرات:

. . . إنه محق، ويجدر بي أن أوافقه فهم حقاً جبناء أذلاء. . . ولكن مالي وشأنهم، ولِمَ لا يكون الحق في جانبهم. . . أفليست أمهاتهم لم يسعدن بلقائهم بعد فرقة طال عليها الأمد. . . ألسن سيستقبلنهم بشغف وسرور وقلوبهن تقطر ضحكات عذبة رقيقة، وإذاً فما الذي نبغي من الدنيا سوى ذاك؟)

واستمرت الخواطر المبعثرة تتجاذب ذهنها المكدود الذي ما لبث أن نبذها جميعاً ليتمثل ابنها الحبيب في صور سريعة متتابعة: هاهو ذا قبل رحيله إلى الميدان. . . ثم وهو في الحديقة قرب البئر التي اعتاد أن يملأ منها الدلاء ليسقي الزهور والشجيرات.

وانتفضت فجأة. . . على صوت باب الحديقة يفتح ثم يغلق بعد أن ولجه شخص في حذر، كلص متسلل. . . ولكن الكلاب لم تنبح، فماذا دهاها؟

ومن خلفها انبعث صوت متهدج: (أماه). . . يا إلهي إنه هو ابنها الأكبر في سترة الجندية التي كساها الغبار. ولكن ما باله يهمس هكذا. . . صه، إنه أحد الجبناء الهاربين من الجيش. وإلا لنطق صائحاً كعادته. . . نعم فلم يلجمه سوى العار الذي يكتنف أوبته. . .

وارتمى الابن بين ذراعي أمه معانقاً مستعطفاً فلمس منها صدراً حنوناً وقلباً رقيقاً يصفح عن زلته، كيف لا وقد طغت على حواسها عاطفة جامحة من الحنين والشفقة. . . بل والاغتباط بعودته إلى أبيه. . وأمه. . . والمصنع. إنه لم يطق البعد عن هذا الجو الذي ألف، ليستعيض عن بر الأسرة وعطفها بالأصوات الآمرة الزاجرة والحياة الجافة المضنية.

. . . واكتفت الأم بدفاع الابن فصدقته وغسلت بدموعها آلامه. . . وهل كانت تملك غير ذلك وعيونهما متواصلة القطرات وفماهما يفيضان بالبسمات.

وصحا الأطفال على صوت الاخوة فهرولوا إلى الأخ الأكبر، حفاة الأقدام، ليتبادلوا وإياه العناق والقبلات.

وقدمت الأم إلى ابنها طعاماً ولكنه لم يقربه وإنما أقبل على الماء يروي ظمأه منه بأقداح متتالية اختلطت في جوفه بما سبقها من الجعة والنبيذ

وبعد لحظات لم تطل ردد الممر أصوات خطى متزنة تقترب. . . إنه الأب الحانق

واندفعت الأم تهمس لولدها: (أسرع يا ولدي بالاختفاء حتى أوضح له الأمر على مهل). وهكذا حثته على الانزواء بدل أن تفخر بالظهور إلى جانبه لو كان قد عاد. . . رجلاً

وحين دخل الأب وجدها تطرز ويدها ترتعد، فقد نسي الابن قبعته فوق المائدة. . . وأبصر الرجل كل شيء فأدرك ووعى، فلم يعد ينفع الإنكار! وبقبضته الغليظة أطاح بالقبعة إلى الأرض وركلها بقدمه صائحاً:

(أين هو. . . كريستيان. . . كريستيان. . .)

تقدم الابن ذاهلاً يكسو وجهه الاصفرار، لا يكاد يقوى على المسير. . . ثم لم يلبث أن تراجع متخاذلاً بينما ارتمت الأم على زوجها تستعطفه:

(بالله لا تقتله. . . فأنا المذنبة. . . لقد استدعيته حين لم أقو على الفراق. . . اعف عنه ولا تكن قاسياً). واسترسلت في نحيب جاراها فيه الأطفال وهم كالأصنام. . . لا تفهم ولا تعي.

ورمى الحداد ببصره إليها وقد ارتسمت على وجهه تجاعيد الصرامة، فالتقطت نظرته القاسية. . . وقد فقدت الجرأة على البكاء.

رفعت الشمس عن وجهها حجاب الظلام بعد إغفاءة طويلة، والأم المعذبة يقظى لم تغف ولم تغمض لها أجفان. . . بعد أن قضت الليل تنتفض وجلاً من نزوة قد تزين للرجل القضاء على فلذة كبده - ابنها الحبيب - بدافع من الوطنية أو الشرف والكرامة. . . تلك الأشباح التي تهددها في أعز من لها. . . وتوشك أن تفرض عليها ضريبة باهظة.

أما الابن التعس فقد أمضى ليلة لم يكن يخلص منها من حلم مزعج رهيب إلا ليواجه حلماً آخر أكثر إزعاجاً ورهبة. . . حتى فاض الضياء فغمر الكون كله خلا ذلك البيت الذي اكتنفته ظلمة قاسية. . . موحشة.

ومر الليل على الحداد العجوز. . . طويلاً مخيفاً، وهو يبكي وينتحب باحثاً بين غرف البيت عن شيء، لا يدرك كنهه، فقده قبل ساعات. . . ولم يكد الفجر يرسل نوره في عروق الظلام حتى قام الرجل يخطو نحو غرفة ولده حتى ولجها وتقدم إلى الفراش بخطىَ ثابتة صائحاً بالابن في صرامة: (انهض) ورفع هذا عينيه المخضلتين بالدموع فرأى أباه بثياب السفر وفي يده عصاه المثقلة بالحديد. . . فلم يتمالك نفسه من الوثوب من فراشه، وأمسك برداء الجندية ليلبسه، ولكن الأب صرخ قائلاً: (كلا. . . عليك بغيرها).

وحين اعترضت الأم بأنه لا يملك سواها، صاح مزمجراً: (إذاً فليأخذ من ملابسي. . . إنها لن تلزمني بعد الآن).

قالها وهو يتناول من ابنه رداءه العسكري ثم عاود الكلام بعد حين: (هيا بنا. . .)

. . . وحين ضمهما الطريق تتابعت في ذهن الابن صور الطفولة في سرعة خاطفة فذكر تلك الأيام السعيدة حين لم تكن السنون قد أثقلت كاهله بعدُ بأعباء الدنيا. . . ولم يلبث أن أطلق من صدره آهة عميقة قال الأب على أثرها بصوت خفيض: (كريستيان. . . إليك مصنعي، فهو كل ما أملك، فخذه ما دمت قد ابتعته بدماء مواطنيك وسلامة بلادك. . . خذه ولتنعم في ظله بما تشاء، مجرداً من الشرف الذي لم تعرفه. . . أما أنا، فذاهب إلى غير رجعة. . . نعم سأوفي عنك الدين لفرنسا فبت قرير العين وعش بلا كرامة.)

. . . تساقطت دموع الابن في لحظة الوداع وانبعثت إلى حلقه غصة أوشكت أن تخمد أنفاسه فنادى أباه بصوت مبحوح: (أبـ. . . تاه)

. . . وخرجت الأم إلى الطريق صائحة: (لوري. . . لوري إلى أين. . .)

ولكنهما لم يسمعا سوى صدى صوتيهما، فقد مضى الأب في طريقه. . . ليلحق بالجيش

مضى ليكفر عن خطيئة الابن. . . الهارب.

(حمامات القبة)

حلمي مراد

المحامي