مجلة الرسالة/العدد 378/رسالة العلم
مجلة الرسالة/العدد 378/رسالة العلم
قصة الفيتامين
ظهور مرض البري بري
للأستاذ عبد اللطيف حسن الشامي
- 4 -
لقد كان من عادة الأطباء الهولنديين الذين قاموا بخدمات خارج بلادهم في المستعمرات الأسيوية الشرقية ألا يركنوا إلى الدعة والاستقرار إذا ما اطمأنوا إلى العيش - كيلا تبلد فيهم حاسة التفكير أو تصدأ روح الاستطلاع - بل كانوا في أوقات فراغهم يعملون ما يعود عليهم بالتسلية والنفع - فحوالي عام 1890 وُكل إلى الطبيب الهولندي كريستيان إيكمان إدارة مستشفى حكومي في جاوه وكان مولعاً باقتناء الطيور المنزلية ويعيرها بعض عنايته ويخص منها الدجاج والحمام. ولم يطل به الانتظار حتى تسنّى له مشاهدة بعض الملاحظات. إذ رأى أثناء نظره إلى طيوره نظرة الفاحص وهي تمرح في الحديقة - بعضها تغدو ثقيلة الحركة بطيئة الخطى وبعضها الآخر قد فقد توازنه. ولكن لم تدم هذه الحال طويلاً فقد أصابها تصلب في عضلات الرقبة لاقت بعده حتفها.
بهذه المشاهدات الأولية وُضع الحجر الأساسي لدراسة مرض البري بري في الهند الهولندية، وهو المرض ذو الأثر السيئ في حياة الشرق الأقصى والذي لم يكتف بخطف ضحاياه من الكبار بل كان يهدد الصغار في مطلع حياتهم بشكل مخيف ويحمل هذا المرض اسمه من شكل الحركة المتصلبة في مشية الخروف والتي تبدو على المصابين، وتدل كلمة (بري بري) في اللغة الهندوستانية على الخروف، وهنا نرى نجاح الدكتور ايكمان في اختيار هذا اللفظ للدلالة على هذا المرض نظراً للتشابه التام العجيب بين أعراض هذا المرض في الإنسان وفي مشية الخروف.
سرى مفعول هذا المرض خاضعاً مماثلاً للوصف الذي أشار إليه ايكمان بناء على ملاحظاته على دجاجة، وحمامة ولم يقتصر هذا المرض الذي ذهب ضحيته قديماً مئات الآلاف على موطنه الأصلي في آسيا الشرقية بل تعداه إلى جنوب أمريكا وأفريقية وأزهق في اليابان في مدى سنين قلائل خمسين ألفاً من الأنفس وفي الحرب الروسية اليابانية خمسة وسبعين ألفاً من الروس ذهبوا جميعاً بطريقة مماثلة للطريقة التي لاقت بها طيور ايكمان حتفها.
تبعاً لالتهاب عصبي عام يقف عمل الأرجل وتضرب عن حركتها الحرة، وتذهب حساسية الجلد، وتشل العضلات نظراً لعدم استعمالها أو القدرة على تحريكها، وتضمحل وتضمر الأطراف السفلى حتى العجز، وأخيراً يهبط القلب ويتجمع الماء في الأنسجة ويعقب ذلك النهاية المحتومة.
ومذ اكتشف حوالي عام 1880 أن الأمراض الناقلة ترجع إلى وجود دقائق حية - عُزي كذلك انتشار مرض البري بري إلى تلك الكائنات الدقيقة - ولقد ذهبت عبثاً جهود الوفود الطبية التي أرسلتها الدول إلى البلاد الموبوءة للكشف والبحث عن مسببات مرض البري بري.
ولا عجب إذا سلّم الدكتور ايكمان بهذا المبدأ السائد وعمل على فصل الدجاج الجديد الذي اشتراه عوضاً عن الفاقد وأبعده عن بقية الدجاج المصاب منعاً لانتقال عدوى الالتهاب العصبي - ومع هذا لم تمنع هذه الاحتياطات الجدية من إصابة الدجاج والحمام الجديد - ولكنه عندما بدأ يغير لها أصناف أكلها لم يقف تقدم المرض في الحيوانات الجديدة فقط بل تحسنت كذلك حالة الطيور القديمة المريضة ولما تبين الدكتور ايكمان هذه الحقيقة فطن إلى أن بقايا الأرز التي ترسلها مطابخ المستشفى بسبب ما - لا تصلح لغذاء طيوره فأحب شراء ما يلزمها من حبوب الأرز من خارج المستشفى ومن هذا اليوم وقفت تماماً تطورات أعراض مرض البري بري.
ولكنه في كلتا الحالتين - حالة المرض السابقة وحالة زواله - استمر إطعام الطيور بحبات الأرز. فما سر هذا الانقلاب إذن؟ ببحث الطبيب وتقصيه تبيّن له اختلاف نوعي الأرز الذي أطعمه طيوره، فالأرز الذي قدمه للطيور من مخلفات مطابخ المستشفى حتى يوم الانقلاب كان مقشوراً أبيض. أما الآخر الذي اشتراه من السوق فكان حافظاً لقشوره وما زال بأغلفته. لم يبق شك لدى الطبيب ايكمان في الصلة بين قشرة الأرز وهذا المرض بعد أن أوضحتها التجربة وأبانتها الخبرة، ولما تأكد من نتيجته هذه أراد أن يعبر عليها إلى مرض البري بري في الإنسان كي يحصل على نتيجة أخرى أهم وأجدى، ويصل إلى معرفة سبب إصابة بلاد الأرز بهذا المرض العضال.
وكان للياباني تاكاكي فضل السبق ببضع سنين في الوصول إلى أن مرض البري بري لا صلة له أصلاً بنظريات العدوى والانتقال، وصرح بأن هناك صلة بين البري بري ونوع الغذاء العام.
فهل يا ترى لم يتم بعد - حتى مع الاكتشاف العرضي للبري بري في الطيور - فتح ثغرة ما تلقى شعاعاً من نور يبدد هذه الظلمات والتخمينات؟
بحماس أكيد ورغبة صادقة تقد الدكتور إيكمان لترتيب تجاربه السابقة العرضية، فبدأ بمجموعتين صحيحتين من الدجاج والحمام، أطعم أولاها أرزاً مقشوراً، فما لبثت طويلاً حتى استشرى بينها المرض وتفشى فيها الداء ولم تقو أرجلها على حملها وذهبت سريعاً صرعى. أما المجموعة الثانية فأطعمها أرزاً غير مقشور، فلم تظهر عليها أعراض ما، وظلت صحيحة سليمة، ولما أبدل الغذاء لكلتا المجموعتين (بأن قدم لكل واحدة ما كان يقدمه للأخرى). انعكست الصورة فبرئت الطيور السقيمة، وظهر على الصحيحة أعراض الإصابة بالبري بري.
طار بعدئذ إيكمان ظفراً وفرحاً لوصوله إلى النتيجة وإن لم تكن كلها، لأن تعليله في شرحه للظواهر التي فطن إليها كان مستقيماً وكافياً إذ ذاك - ولو أنه غير متمشٍ مع الحقائق الثابتة - واعتقد إيكمان باحتواء حبات الأرز على نوع من السم ساري المفعول في الإنسان والحيوان، ويكون مرض البري بري نتيجة أو أعراضاً لفعله في الجسم وسريانه فيه، كما اعتقد بأن الترياق المضاد لهذا السم والذي يفسد مفعوله كامن في قشور الأرز. فأكل الأرز إذن مع قشوره ضمان لمصاحبة الترياق الشافي. وبهذا قضى البحاثة الهولندي على النظرية الخاطئة السائدة حينذاك عن انتشار البري بري أو الإصابة به عن طريق العدوى. وللإيضاح يجب التنويه بأنه ليس هناك شيء في حبوب الأرز، ولكن هناك شيئاً ينقصها، وتبعاً لنقص هذا الشيء أو غيابه في الطعام العام يستسلم الإنسان والحيوان للمرض؛ ولمعرفة هذا الشيء احتاج العلم لأكثر من عشر سنين لاحقة لهذا التاريخ.
ولقد كاد النسيان يطوي هذه النتائج الباهرة للبحاثة الجليل الشأن إيكمان، ولم ينل من جهوده أي غنم أو مكسب إلا بعد مضي ثلاثين عاماً إذ حصل مع زميله الإنجليزي الكيميائي هوبكنز على جائزة نوبل في عام 1929.
واعترض طريق إيكمان كثير من العقبات عندما جاهر بنتائجه التي قلبت كل قديم وكل مسلمة رأساً على عقب، ولم تسلم هذه النتائج من الطعن والتجريح، ولم تدّعم وتثبت إلا في عام 1910 عندما رحل الطبيب الألماني ماكس موسكفسكي إلى فينا الجديدة في وسط أفريقية للبحث والتنقيب عن البري بري، وكان قد مهد لبحثه بقراءة ودرس ما كتب حتى ذلك الوقت ومطالعة المذكرات الصحيحة والمطبوعات عن مرض البري بري ورأى ما صرح به إيكمان الهولندي عن نتائجه واتخذ كل هذا دليلاً ومرشداً، وأخذ يجمع المعلومات من الوطنيين سكان البلاد. وكان من ضمن ما حصل عليه من أقوال هؤلاء المواطنين أن المرء يستطيع تحصين نفسه ضد البري بري أو الشفاء من أعراضه عند سقوطه فريسة له إذا ما تناول بجانب وجباته نوعاً من الفاصوليا يسمى (الفاصوليا المشعة) وفي لغة أهل الهند الهولندية: (كاتيانج إيدجو) وقد يكفي حتى منقوع هذا البقل في الماء بعد غليه فيه، فاستنتج موسكفسكي من هذا أن هناك شيئاً في قشور الأرز والبقل المذكور (الفاصوليا) ضرورياً جداً لحفظ الصحة وعند غياب هذا الشيء ينشط التهاب الأعصاب وأن هذا الشيء ليس بالبكتريا ولا بالسم.
وفرض على نفسه ورجال بعثته ألا يأكلوا سوى الأرز المطبوخ في ماء من منقوع الفاصوليا - وبدلاً من انتظار ظهور أعراض المرض التي لا تسلم منها أبداً أمثال هذه البعثات - تمتع هو ورفاقه بصحة موفورة طوال عام عاد بعده إلى وطنه ألمانيا يفاخر بتغلبه على هذا المرض.
وكما يقول المثل (زامر الحي لا يطرب) أو (لا يُسمع النبي في بلده) كذلك شهر الناس بمسكفسكي وسفهوا رأيه، ولكنه لكي يبرهن على صحة أقواله ويدلل على أن مرض البري بري ليس من الأمراض المعدية التي تنتقل بالعدوى وأنه مرض يتصل اتصالاً كلياً بغذاء الإنسان وما يعده لطعامه - قام بإجراء التجربة على نفسه معرضاً حياته النافعة للخطر المحقق، وفي سبيل العلم ومنفعة بني الإنسان امتنع عن جميع ألوان الطعام العادية غير الأرز مدة أربعة شهور ونصف شهر. وكانت النتيجة الحتمية طبعاً أن وقع مريضاً يرزح وينوء بمرض البري بري في أشد أعراضه وصوره. وعندما بلغ به المرض مبلغاً كبيراً وأصبح خطراً يهدد حياته أخذ يعمل على دفع الداء ولكن ليس بالامتناع أصلاً عن أكل الأرز بل بالاستمرار عليه مع إضافة صنف آخر من الطعام هو حساء من قشر الأرز، ولا عجب أن اختفت تماماً أعراض المرض بعد أسبوعين اثنين.
(يتبع)
عبد اللطيف حسن الشامي