مجلة الرسالة/العدد 38/شهر بالغردقة
مجلة الرسالة/العدد 38/شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة الامتحانات والسجلات بوزارة المعارف
1 - في الطريق إلى الغردقة
بعد أن اجتزنا أبا زنيمة في طريقنا إلى دير سانت كاترين في سيناء شتاء سنة 1931 وصلنا إلى ربوة تشرف على البحر، وكانت الشمس عندئذ تؤذن بالمغيب آخذه في الاحتجاب وراء جبال صحراء العرب على الشاطئ الآخر لخليج السويس، فبدت هذه الجبال وقتها والشمس وراءها واضحة جلية برؤوسها العالية مرصوصة في خط طويل مواز للبحر، وكان جبل الشايب بهامته الشامخة في الوسط أبرزها ارتفاعاً أعظمها جلالا وفخامة - كان المنظر بديعاً أثار في نفسي رغبة شديدة لزيارة هذه المنطقة، إلا أن تنفيذ هذه الرغبة لم يكن حينئذ بالأمر السهل، فالشقة بعيدة، والانتقال إليها فيه صعوبة ونفقة كبيرة، فمكثت انتظر الفرصة إلى أن سنحت صيف هذا العام بعد ذلك بسنتين، فقد تفضل صديقي العالم النابه الدكتور محمد عبد الخالق بك، فدعاني لمرافقته في رحلة علمية إلى الغردقة على البحر الأحمر، حيث مكننا شهرا كاملاً كانت كل أيامه بركة على العلم وعلينا. فالأبحاث العلمية الطريفة والتجارب الدقيقة التي قام بها الدكتور عبد الخالق بك على أسماك البحر الأحمر وحيواناته ملأت نتائجها مجلداً ضخماً كما ضاق عن نماذج الأسماك والطفيليات التي جمعها ما كان معنا من صناديق وحقائب. ثم كانت رحلاتنا العديد إلى البحر والبر، فمن مناطق المرجان العجيبة إلى المنشآت العظيمة لشركة البترول بالغردقة، وشركة الفوسفات بسفاجة، ثم إلى الكتلة الجرانيتية الهائلة لجبل الشايب ثم اختراق السلسلة الجبلية الوعرة إلى قنا على النيل.
كل هذا وغيره سأحاول أن أصفه في ايجاز، راجيا أن أوفق في رسم صورة تقريبية لمعالم هذه المنطقة المنعزلة التي لا نعرف عنها الكثير ولا القليل
كان فجر يوم الخميس 6 يوليه سنة 1933 موعدا للقيام بالرحلة، فأقلتنا السيارة من القاهرة إلى السويس عن طريق الصحراء، فبلغناها ضحى، ثم توجهنا إلى ميناء الزيت إحدى نواحي ميناء السويس حيث كانت باخرة الزيت أرتيناشل راسية فنقلنا إليها ما أحضرناه من متاع وأجهزة، وقبل الظهر بنصف ساعة وصل الربان وأعطى إشارة القيام، فسارت بنا الباخرة نحو الجنوب وسط جو هادئ وبحر ساكن، وبعد قليل دعينا لتناول الطعام مع الكابتن بيس ربان السفينة فتلقانا في حجرة المائدة مرحباً وتبسط معنا في الحديث وأفاض بكلام رقيق تتخلله النكتة الرائقة والفكاهة الحلوة، وبعد أكلة شهية اجتمعنا على السطح، وأخذنا نشاهد معالم الشاطئ من خلجان وجزر ومنارات وجبال، وفي الأصيل تناولنا الشاي، وعند الغروب تعشينا ثم قضينا سهرة لطيفة في لعب ومسامرة.
كان الوقت صيفاً، فنمنا على السطح، واستيقظنا في اليوم التالي مع بزوغ الشمس، وكانت السفينة تسير عندئذ أمام رأس محمد، الطرف الجنوبي لسيناء، ثم أخذ البحر أمامنا في الانفراج
وبعد قليل اختفى الشاطئ الشرقي عن الإبصار، ثم مال بنا الطريق نحو الجنوب الغربي، ودخلنا مضيقاً واسعاً في الغرب من جزيرة شدوان، وعند الساعة العاشرة صباحاً لاحت في الأفق معالم الغردقة، نقط بيضاء وخطوط سوداء، عبارة عن خزانات الزيت وأبراج الآبار - وقبيل الظهر مرت الباخرة أمام الطرف الشمالي لجزيرة الجفاتين، ثم دخلت الميناء بسلام ورست حذاء رصيف خشبي يحمل أنابيب كبيرة تتصل بالشاطئ، وذلك للشحن والتفريغ: شحن الباخرة بالزيت، وتفريغ الماء العذب منها
يشرف على الميناء أما الرصيف منزل إنيق، يقيم فيه مدير الشركة، وخلفه على ربوة عالية خزان ضخم (فنطاس) يسيل الزيت الخام منه إلى أحواض الباخرة عند الشحن - وعلى مسافة قليلة من الميناء مكاتب مصلحة الحدود يرفرف على ساريتها العلم المصري الكريم
نزلنا إلى البر وركبنا السيارات، فانطلقت بنا إلى محطة الأحياء المائية على عشرة كيلو مترات جهة الشمال، والطريق إليها مرصوف ينحني في أوله ليدور حول تل عال مشرف على البحر، ثم يستقيم ويخترق منشآت شركة الزيت: فأبراج عالية هنا وهناك على اليمين وأخرى على اليسار، ومساكن العمال والمسجد والكنيسة، ومكتب البريد، ومكاتب الشركة ومصانعها ثم (فيللات) الموظفين والنادي كلها منثورة في فضاء واسع تتخللها الشوارع المنتظمة، والحدائق النضرة بهندسة جميلة تجعلها شبيهة بمباني مصر الجديدة
وصلنا المحطة بعد نصف ساعة، ونزلنا ضيوفاً على الدكتور كرسلاند مديرها فتفضل ودعانا للطعام، ثم بعد ذلك انتقلنا إلى الاستراحة التي أعدت لإقامتنا
2 - في محطة الأحياء المائية
محطة الأحياء المائية شيدتها الجامعة المصرية على البحر الأحمر منذ ثلاث سنوات لتمكين علماء البيولوجيا من اجراء أبحاثهم المتعلقة بالأحياء البحرية في نفس المواطن التي تعيش فيها.
وتشغل مباني المحطة بقعة واسعة من الشاطئ على بعد خمسة كيلو مترات من مباني الشركة، وقد بلغ ما أنفق على تشييدها وإعدادها حتى العام الماضي نحو خمسة عشر ألفاً من الجنيهات. وكل مبانيها من الخشب على شكل الأكشاك مقامة بالقرب من البحر أو داخله فيه فمنزل المدير والمكتب والاستراحات ومنازل الموظفين والعمال على الشاطئ في ثلاثة صفوف تواجه البحر، ثم المعامل وقد أقيمت داخل البحر على مسافة مائتي متر من الأرض تصل إليها على رصيف مبنى في الماء
وقد لوحظ في اختيار المكان وقوعه بالقرب من منطقة بحرية غنية بالمرجان، كما أن قربه من شركة الزيت كفل للمحطة الحصول على الماء العذب الكافي للشرب وللتجارب العلمية، وكذلك حاجات المعيشة كما جعل اتصالها بالسويس بواسطة السفن ميسورا مرة كل أربعة أيام - ويؤتي بالماء العذب وبالأطعمة على اختلاف أنواعها من السويس في بواخر الشركة كما يؤتي أحياناً بالطيور والخضراوات من قنا في السيارات - وتدير الشركة مصنعاً للثلج ومخبزاً كامل المعدات. وبالجملة فان أسباب المعيشة بالغردقة موفورة لدرجة كبيرة تنسيك انك تعيش في منطقة كانت من ثلاثين سنة مضت بلقعاً لا تجد فيه غير بعض أكواخ حقيرة يسكنها جماعة من صيادي السمك المساكين الذين يجوبون الشاطئ المصرية في طلب الرزق عن طريق الصيد أو تهريب الممنوعات.
(يتبع)
الدمرداش محمد