مجلة الرسالة/العدد 381/محاورة أفلاطون الخيالية
مجلة الرسالة/العدد 381/محاورة أفلاطون الخيالية
حول التربية الإنجليزية
للأستاذ عبد العزيز عبد المجيد
يعتبر سقراط أول من وضع الأسلوب الحواري الاستنباطي أسلوب التهكم الذي يقف نفسه فيه موقف الجاهل، ثم يسوق أسئلته البريئة اللاذعة التي تصير بالمسئول إلى حال التشكك والحيرة؛ غير أن سقراط لا يلبث أن يستدرج محاوره إلى الغاية الخفية التي يضمرها، والتي يريد كشفها بأسئلته ونقاشه، فيتجلى الأمر ويصل إلى النتيجة، ولا يجد محاوره مفراً من التسليم له بوجهة نظره من غير أن يقصد إلى ذلك
ولقد نهج أفلاطون فيما كتبه - ولاسيما في جمهوريته ومحاوراته - منهج أستاذه سقراط: ففي (الجمهورية) مثلاً يعالج مبدأ العدالة في مدينته الفاضلة بأسلوب استنباطي حواري على لسان سقراط نفسه. غير أن الحديث يتشعب به فينتقل من موضوع إلى موضوع، ومن بحث إلى بحث، حتى يخيل لقارئه أنه يكاد يفقد الفكرة التي بدأ بها موضوعه الأول، ولكن لا يلبث حتى يعود إليها
ومما عالجه أفلاطون في (الجمهورية) موضوع التربية. وآراؤه فيها - وإن كانت قد أصبحت قديمة كبعض فلسفته - تستحق إيرادها هنا كتمهيد لتلك المحاورة الخيالية التي سأنقلها للقراء من الإنجليزية، والتي دارت بين أحد المربين الإنجليز وبينه حين بعث منذ أربع سنوات، بعد أن مر على وفاته ثلاثة وعشرون قرناً
يرى أفلاطون في (الجمهورية) أن هناك ثلاثة أنواع من الناس: نوع وهبه الله الحكمة والذكاء، وهؤلاء يربون إلى أن يصلوا إلى مرتبة الحكام الفلاسفة، وهم الساسة المفكرون، ذوو الأمر والنهي والرأي المطاع؛ ونوع دونهم في الذكاء والقدرة الفلسفية، وهؤلاء يربون ليكونوا مساعديهم في الإدارة والتنفيذ وليكونوا رجال الجيش الذين يحفظون النظام داخل الأمة ويذودون عن حياضها في الخارج؛ ونوع في المرتبة الدنيا غير الموهوبة التي لا تصلح إلا للزراعة والتجارة والصناعة، وهؤلاء يكوّنون جمهرة الشعب وعامته
والمحاورة الخيالية التي سأوردها هنا من وضع الأستاذ كرُصمان بجامعة اكسفورد. وقد أذاعها من محطة لندن ضمن سلسلة أحاديثه التي تشمل أيضاً: أفلاطون والديمق الإنجليزية، أفلاطون والأسرة الإنجليزية، أفلاطون والاشتراكية، أفلاطون والنظام الفاشستي الخ. وهاهي ذي المحاورة:
أفلاطون للمربي: يقال إنكم أنتم معشر الإنجليز مهتمون بالتربية ومعضلاتها، ومصممون على بنيان نظامها على أسس قوية لأنكم تدركون أن تربية النشء تربية صحيحة، إنما هي عامل فعال في إصلاح شؤون الدولة، وأن سلامة الأمة لا تكون إلا بالتربية الحقة
المربي: نعم، الأمر كذلك. ولقد خطونا خطوات مباركة في الخمسين سنة الماضية. ولعلك لا تدري أننا حتى سنة 1870 لم يكن لنا نظام تعليم حكومي موضوع، ولم يكن عندنا تشريع للتعليم الإجباري، ولم تكن عندنا كليات ثانوية للبنات بجانب العدد القليل من مدارس البنين الثانوية الصالحة، ولم يكن لغير أتباع الكنيسة الإنجليزية حق في التعليم العالي مهما كانت ثروتهم. أما الفقير فلم يكن له نصيب من التعليم الجامعي ولو كان من النابغين. ولكن كل هذا قد تغير الآن. فالتعليم الإجباري إلى الرابعة عشرة، والتعليم الثانوي إلى الثامنة عشرة. وهو نصيب نسبة كبيرة من الناشئة التي هي أهل له. وعندنا عدد لا بأس به من الجامعات التي تعينها الحكومة مالياً، والتي يتلقى فيها الشباب التعليم العالي إلى الثانية أو الثالثة والعشرين
أفلاطون: حقاً لقد كنتم نشطين في ميدان التربية خلال هذه الحقبة الماضية، وإني لأهنئكم على أنكم أبيتم أن تدعوا التربية كما كانت في يد الأسرة فقط، أو غيرها من الهيئات التي لا تقدر هذه التبعة، تبعة تنشئة الجيل القادم. ولكني أود أن أعرف جلياً الأسباب التي من أجلها وجهتم كل طاقتكم لجعل التعليم العام حقاً لكل فرد من أفراد الشعب
المربي: مما لاشك فيه أن من بين الأسباب التي دعتنا لهذا إيماننا بمبدأ العدالة. فنحن شعب ديمقراطي، ونعتقد أن التربية يجب ألا تكون وقفاً على طبقة خاصة من الشعب، بل يجب أن تكون حقاً مشاعاً لكل فرد. وما فائدة أن نخول للفرد حق الانتخاب واختيار من يمثله في المجالس النيابية إذاً كان هذا الناخب جاهلاً لا يحسن اختيار ممثله. وتربية الشعب هي الوسيلة التي بها يكون للانتخاب أو التمثيل النيابي معناه ومغزاه، فلا يكون له ذلك المظهر الصوري التقليدي. ومن السهل أن يكون للأمة حكومة نيابية، وهيئة برلمانية، ومؤسسات ديمقراطية، هي نتيجة الانتخابات العامة. ولكن كل هذه مظاهر خادعة ما لم يكن الشعب متعلماً. والمؤسسات الديمقراطية لا تجعل الشعب ديمقراطياً، ما لم يكن أفراده قد عرفوا معنى الديمقراطية واستطاعوا أن يتمتعوا بها، وأن يستفيدوا منها. ومعرفة معنى الديمقراطية واستغلالها الحكيم ليس شيئاً يسقط من السماء، بل لابد لخلقها في نفوس الشعب من المال والمجهود. ونحن جادون في هذا السبيل بالتربية التي نقدمها لأبناء الشعب في مدارسنا. وليست التربية عندنا أن نصب عقول الناشئة في قوالب منتظمة، فتخرج قطعاً منتظمة تركب في عجلات المحرك الحكومي، فتؤدي وظيفتها دائرة مع هذه العجلات دوراناً آنياً، حتى إذاً عراها الصدأ أو تحطمت ألقينا بها جانباً، واستبدلنا بها غيرها، والحقيقة هي أننا لا نريد أن نجعل أبناء الجيل القادم صناعاً مهرة فحسب، ولكنا نريدهم أن يكونوا مواطنين صالحين في شعب ديمقراطي، قادرين أن يقوموا بدورهم بنجاح فيما هم أهل له، سواء أكان ذلك في ميدان الكرة، أم في نقابة التجار أم في المجلس المحلي أم في دار النيابة. نريد أن ننشئهم بحيث يعرفون كيف يحكمون أنفسهم ويساعدون من يحكمهم. فأنت إذاً ترى أن غاية التربية في مدارسنا ليست إقدار الناشئة على كسب الخبز ونيل الوظائف، ولكن الغاية من تعليمهم التاريخ والجغرافيا والاقتصاد هي أن يصبحوا في أمتهم أعضاء يقدرون حقوقهم المدنية، ويعرفون واجب الأمة عليهم
أفلاطون: صحيح كل هذا، وهو يطابق تماماً ما قرأته لأحد ساستكم إذ يقول: إن التعليم العام للشعب ما هو إلا تجربة في الحكم الذاتي. ولقد كان لهذه العبارة أثرها ومعناها في نفسي لأني أنا كنت قد حاولت في مدينتي الفاضلة أن أجعل جميع أفرادها يشتركون في حكومتها الذاتية. غير أن تجربتي لم تنجح فحدثني إذاً عن نتائج تجربتكم التربوية هذه، وهل توقظ في الشعب شعوره بضرورة اشتراكه في أمور السياسة الخارجية والداخلية؟
المربي: نعم، أعتقد ذلك، فالشعب قبل الحرب الماضية مثلاً ما كان ليعنى بالشئون الخارجية، أما الآن فالشعب جميعه يعنى بالسياسة الخارجية، ووزير الخارجية في البرلمان أكثر النواب حديثاً، وأكثرهم إجابة عن الأسئلة المتنوعة التي توجه إليه من كل حزب ومن كل صوب، ولا تسمع الآن في أحاديث الأسرة الإنجليزية إلا أخبار الحرب والسلم
أفلاطون: ولكن هل تظن أن لاهتمام الشعب بالسياسة الخارجية وتدخله فيها كما ذكرت أثراً في اعتدال هذه السياسة وتحسنها؟ المربي: من غير ما شك. وآية ذلك أن الحكومة لا تستطيع الآن - كما كانت تستطيع من قبل - أن تقرر في الخفاء أي شأن من شئون السياسة الخارجية
أفلاطون: إن سؤالي مرة أخرى هو: هل كان لاهتمام الشعب بالسياسة الخارجية أثر في اعتدال هذه السياسة وتحسنها؟
المربي: أجل، لقد جعل اهتمام الشعب بالسياسة الخارجية الحكومة تدرك تبعة تصرفاتها، وأنها مسئولة عنها أمام هذا الشعب الذي انتخبها، فهي إذاً لا تستطيع أن تعمل ما تشاء، ولكن ما يشاؤه الشعب
أفلاطون: ولكن هب الحكومة أرادت أن تفعل شيئاً تراه هي صالحاً، ولا يراه الشعب كذلك، فما هو الموقف؟
المربي: نحن نعتقد أنه من الحكمة أن يفعل الشعب الفعلة الخاطئة بإرادته وحريته متى قرر ذلك بدلاً من أن يكره على عمل الصواب. . .
أفلاطون: كأني بك تعتقد أن الحرية خير من الفضيلة؟
المربي: لا، لا أعتقد هذا. ولكن الرأي عندي أن الفضيلة مستحيلة بدون الحرية. إنك لا تستطيع أن تكره الطفل على أن يكون خيِّراً، بله الكبار من الرجال والنساء
أفلاطون: قد تكون على حق! وإذاً فلماذا تريدون الحكومة مادام الشعب يريد أن يعاني التجارب القاسية بأفعاله الخاطئة وتصرفاته الحمقاء، وهو مطمئن لأنه قام بها بمحض حريته ومجرد رغبته. ألا ترى أن الأصلح إلغاء النظام الحكومي نهائياً!؟
المربي: إن أسئلتك كالحلقة المفرغة لا يدري لها طرف. وإنك لتلعب بعبارتي وتتهكم حتى ليحسبها السامع جوفاء. . . لا يختلف اثنان في أنه يجب أن يحال بين الأفراد وبين أي تصرف يتنافى مع حرية غيرهم. وهذه هي الحكمة في قيام الحكومات، ولكن يجب أن تترك الحرية لأفراد الشعب بقدر المستطاع ليقرروا بأنفسهم مصير شئونهم. إن الهدف الذي نرمي إليه - نحن المربين - في هذا العصر هو أن نعد مواطنين يحسنون استخدام حقهم الانتخابي، ويعرفون كيف ولِمَ ينتخبون، فلا ينتظر منهم أن يكونوا خبراء في شئون السياسة والاقتصاد، ولكن يكفي أن يكونوا ذوي بصر وفكر بهما
أفلاطون: ألست تقر أنكم لم تكوّنوا بعدُ هذا النوع من الرجال؟ فلِم إذاً تتعجلون - قبل أن تتم مشروعاتكم التعليمية وتنضج - فتكلون إلى أنصاف المتعلمين من الشعب الفصل في شئونكم السياسية؟ إن هذا لقلب للموضوع وللوضع المنطقي! الواجب أن يكون عندكم أولاً نظام عام للتربية يكوّن هؤلاء المواطنين الذين وصفتهم في نقاشك، وحينئذ تكلون إليهم مطمئنين الإشراف على سياسة الدولة داخلية وخارجية، غير أني أعتقد أنكم متى كوّنتم هذا النوع من المواطنين كامل التربية لم تعد ثمة حاجة إلى أية حكومة
المربي: لقد عدت بنا من حيث بدأنا. إن العالم لم يصل بعد إلى المثل الأعلى، ولن يصل إليه، فلا مفر من مواجهة الواقع كما هو، ونحن في بلادنا نعتقد أننا إذا وكلنا إلى المواطنين العاديين الإشراف على أمورهم ومستقبلهم فإنما نعطيهم الحرية التي بدونها نرى الحديث عن الفضيلة والخلق لغواً
أفلاطون: لقد قلت الآن إن الغاية من قيام الحكومة هو منع الأفراد أن يتعدوا في تصرفاتهم إلى حقوق الآخرين، وإلزامهم أن ينصرفوا لأمورهم ويدعوا غيرهم وشأنهم، فإذا كان الأمر كذلك فمن واجب الحكومة، في سياستها الخارجية، أن تحول أيضاً بين أفراد شعبها وبين تعديهم إلى حقوق غيرهم من أفراد الشعوب الأخرى. وأنت الآن تريد مواطني بلادك أن يوجهوا الحكومة فيما تبحثه من الشئون العالمية، وأن يتدخلوا فيما تقرره منها. ومعنى هذا أن سياستكم الخارجية ستكون طبعاً خاضعة لنفوذ ذوي المصالح الشخصية من المواطنين الذين همهم الوصول إلى منافعهم المادية على حساب الشعوب الأخرى
المربي: كلا، إننا نتوقع عكس هذا. إن عامة الشعب لا ترغب في الحرب، وليس له مطامع مادية أو استعمارية، إن هذه إلا مطامع تجار السلاح والذخيرة والرأسماليين. أما عامة الشعب فتريد السلم والعدالة العالمية
أفلاطون: هذا جميل حقاً، ولكن هل يعرف أفراد الشعب كيف يحققون هذه المبادئ العالمية السامية؟ دعني أنبئك وما ينبئك مثل خبير؛ إن فن السياسة فن دقيق صعب المراس، وإن علوم الحرب ليست من العلوم التي تدرك في يوم؛ فهل ترى أن أفراد الشعب خبيرون بفنون السياسة عليمون بتاريخ العلاقات الدولية؟ أو هم فقط غيورون متحمسون تدفعهم العواطف النبيلة، فإذا ما صدمتهم الحقائق الصماء ذهبوا كفقاعات الصابون في الهواء
المربي: نحن الآن جادون في تعليمهم فن السياسة والعلاقات الدولية. ولكن الحق هو أن هذا العالم يحتاج إلى قليل من المكر السياسي، وكثير من الخلق المستقيم
أفلاطون: نحن على وفاق. فإن كل ما يحتاج إليه المواطن هو العواطف الخلقية القوية القويمة. ولكن هذه العواطف وحدها لا تكفي لتكوين من يصلحون للحكم. وأنتم في تجربتكم التي تقومون بها الآن بتربية الشعب تحاولون أن تعدّوا جيلاً يستطيع أن يحكم نفسه بنفسه. وعندي أن هذا الجيل يحتاج إلى شيء آخر بجوار العواطف الخلقية التي أشرت إليها. إن مهنة السياسة تحتاج إلى مهارة ولباقة عقلية. وإذاً فلابد أن نفرق بين التربية التي يحتاج إليها المواطن العادي والتربية التي يحتاجها الحاكم السياسي. فهذا الأخير يجب أن يعرف شيئين: قواعد السياسة التي يريد أن يتبعها، والعالم الذي يريد أن يطبق فيه هذه القواعد. فهو باحترافه السياسة يشبه كل صاحب مهنة فقد نجد الرجل المغرم بالصور الجميلة، الذي يدرك الجمال أنى يكون ويحبه بكل قواه، ولكن هذا الإغرام أو الحب لا يخلق منه رساماً أو مصوراً. فالمصور لابد له من معرفة قواعد التصوير، وخواص الألوان ومزجها ونتيجة أخلاطها، وأنواع الأوراق والمواد التي يستعملها في تصويره، وأصناف الفراجين التي يستخدمها وهلم جرا. هذا إلى الهبة الطبيعية التي تكون فيه. والأمر كذلك في الحكم؛ فليس يكفي أن يكون الحاكم ذا ميول خلقية نبيلة كحبه للعدل والسلم، لا، بل لابد من أن يعرف أصول السياسة، وحوادث العالم اليومية، العالم الذي سيطبق فيه أصول سياسته. فأمر السياسة العالمية الخارجية إذاً ليس من السهولة بحيث يمكن أن يصير المرء بها وفيها خبيراً. ولهذا لا أفهم كيف يستطيع مواطنوك أن ينقدوا سياسة الحكومة وأن يوجهوها
المربي: إن المواطنين لا يستطيعون طبعاً أن يفهموا دقائق الأمور، ولا أن يتعدوها أو يغيروها، ولكنهم يستطيعون أن يقرروا اتجاهات السياسة العامة التي يجب أن تتبعها الحكومة
أفلاطون: أخالفك في هذا. لأن الاتجاهات العامة من المكان والأهمية بحيث تحتاج إلى فيلسوف لحل معضلاتها التي هي معضلات الحرب والسلم، والاعتداء والدفاع، ولكن مهما يكن من الأمر فلنترك بحث السياسة الخارجية، ولنرجع إلى موضوع إصلاحاتكم في التربية ونظمها. لقد ذكرت في حوارك أن غايتكم المثلى في التربية هي أن تكون عامة لكل أفراد الشعب، ولعلي لا أكون بعيداً عن الصواب إذا قلت إنك تريد (أن تكون فرص التربية والتعليم للجميع سواء). فما الذي تريد أن تصل إليه بهذا كله!؟
(يتبع)
عبد العزيز عبد المجيد