مجلة الرسالة/العدد 381/4500 ثانية في صحبة أم كلثوم

مجلة الرسالة/العدد 381/4500 ثانية في صحبة أم كلثوم

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1940


للدكتور زكي مبارك

لم تسمح الظروف بلقاء الآنسة أم كلثوم بعد الذي دوناه من لحظات التلاقي في كتاب (ليلى المريضة في العراق) وهي لحظات قصار ولكنها جياشة بأقباس المعاني، ولو طالت تلك اللحظات لظفرنا من سحر الحديث بأطايب وأفانين

ولم يكن ذلك الحرمان عن هجر منها أو صدود، فما يستطيع ذلك الروح أن ينسى أن له مآرب وجدانية من مسامرة أرباب الوجدان، وإنما شاءت المقادير أن تصرفنا بالشواغل القاسية عن التأهب لمداعبة الأفاعي والصلال

وما معنى ذلك؟

معناه أني سأتحف أم كلثوم بصورة وصفية تبسم لها في حين وتعبس لها في أحايين، مع العرفان بأني لم أقل غير الحق في وصف ذلك الروح اللطيف

وهل لهذه الحمامة الموصلية روح لطيف؟

ما وازنت بين غناء أم كلثوم وحديث أم كلثوم إلا تذكرت قول شوقي في الصوت الحنان

وَترٌ في اللَّهاة ما للمغنِّي ... من يدٍ في صفائه ولِيانِهْ

فهذه الحمامة تغرد بلا وعي ولا إحساس في نظر من يحكم بظاهر ما يند عن شفتيها الورديتين من أغانٍ وأحاديث

فهل تكون في حقيقة الأمر كذلك؟

إن كانت أم كلثوم بلا وعي ولا إحساس فعلى الأدب والفن العفاء. وكيف تُحرم أم كلثوم قوة الروح وهي بلا نزاع ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل؟

وأين من يزعم أن قلبه سلم من الشوق لأغاني أم كلثوم، وما مرت لحظة واحدة في المشرق أو في المغرب بدون زفرة أو لوعة تثيرها أغاني أم كلثوم؟

وهل سمع الناس في قديم أو حديث صوتاً أندى وأعذب من صوت أم كلثوم؟

تلك الفتاة هي الشاهد على أن الله يزيد في الخلق ما يشاء، فتبارك الله أحسن الخالقين!

ولكن كيف نحل هذه المشكلة: مشكلة الفرق بين غناء أم كلثوم وحديث أم كلثوم؟

الحل سهل: لأن العقدة مشتركة بينها وبين محمد عبد الوهاب وإليه وإليها انتهى الإبداع عالم الغناء

عبد الوهاب رجل أعمال وأم كلثوم رجل أعمال، وذلك سر العبقرية عند هذين الروحين، وهو الدليل على أن الله لا يهب المواهب لأهل التخاذل والانحلال، والزهد في جمع الثروة هو الآية الحق على التخاذل والانحلال. وغضبة الله على من يحسبني أمزح في هذا الحديث!

دعتني أم كلثوم مرة لتناول العشاء في أحد مطاعم القاهرة فأجبت الدعوة، ولكني رأيت أن أدفع عن نفسي، فاستظرفتني جداً وصرّحت بأني لم أقل غير الحق حين قلت: (إني أعظم من الجاحظ ولو غضب الدكتور طه حسين)

ولن أنسى أبداً موقف القصبجي الملحن وقد زعم أنه صائم مع أن العشاء كان في جوف الليل ولم نكن في رمضان ولا شعبان، ولكنه كان يعرف أن (حمامة الشرق) لا يسرها أن يكون القصبجي رجلاً له أمعاء تظمأ وتجوع كسائر الناس، وكيف يكون فناناً وهو يحس الظمأ والجوع؟!

أشهد أن البخل حق، وأنه من خصائص أهل العبقرية، وإلا فكيف صحبت الدكتور طه حسين عشر سنين ولم أتناول الغداء في داره غير مرة واحدة لظروف قهرية قضت بأن نمضي النهار كله في درس شواهد الشعر المنحول سنة 1926؟

وكذلك يكون شقيق الروح محمد عبد الوهاب، فهو أبخل من الجارم بمراحل طوال، وهو إلى اليوم لا يدرك أن الدينار قد ينقسم إلى دراهم، وأن الدرهم قد ينقسم إلى فلوس، إنما الدينار دينار، فإذا انقسم فهو هباء، وإليكم هذا الخبر الطريف:

نشر الموسيقار محمد عبد الوهاب كلمات في مجلة الاثنين عن ذكرياته في زيارة العراق، وقد قرأت تلك الذكريات وأنا في بغداد فحزنت لأني عرفت منها أن الأستاذ الصراف خدعه فزين له الذهاب من دمشق إلى بغداد في سيارة عربية لا إنجليزية، وكانت النتيجة أن يقضي ثلاثة أيام بلياليها في الطريق بين دمشق وبغداد، فصممت على تأنيب الأستاذ الصراف حين أراه، ثم عظمت الدهشة وعظم الاستغراب حين عرفت من الأستاذ الصراف أن الموسيقار عبد الوهاب هو الذي اختار تلك السيارة لأن أجرتها أرخص بمبلغ لا يقل بحال من الأحوال عن دينارين! ماذا أريد أن أقول؟

لعلي أريد القول بأن الاهتمام بجمع الثروة يدل على الشغف بحب الدنيا، وحب الدنيا هو الأصل الأصيل لحيوات النوازع والغرائز والأحاسيس

وحب الدنيا كان السر في عبقرية أحمد شوقي أمير الشعراء، فقد صحبته مرات كثيرة وهو يطوف على أملاكه بالقاهرة وضواحي القاهرة، وشهدت كيف ينظر إلى كل بقعة من أملاكه وقلبه يهتف: (كل مليحة بمذاق) ورحم الله شوقي، فما مات إلا وهو حزينٌ حزين على فراق أملاكه الواسعة بأرجاء هذه البلاد

وحب الدنيا هو السر في عبقرية عبد الوهاب وأم كلثوم، عبد الوهاب ساكن العباسية وأم كلثوم ساكنة الزمالك، وهل يستطيع مخلوق أن يقول إنه على شيء من الأدب أو الفن وجيوبه خاوية؟

آه، ثم آه!!

كنت غنياً وكانت لي أموال مرصودة في مصارف مختلفات، ثم شاء القدر أن أترفق بمرضاي من الملاح فأنفق عليهم ما أملك، فأنا اليوم فقير، فقير، فقير، بحيث ترفض أم كلثوم أن تكون (ليلى المريضة في الزمالك) بحجة أنها صحيحة، لا بحجة أني لم أعد أملك البر بمرضاي من ذوات الخد الأسيل والطرف الغضيض!

وهجرتي إلى العراق هي سبب هذا البلاء، فقد أعداني العراق بالكرم وراضني على البذل والجود، فأنا اليوم بلا ذخيرة ولا عتاد

ألم تسمعوا أني كنت أتمرد على رؤسائي بالجامعة المصرية وبوزارة المعارف، فكنت أملك الزهد في مناصب الحكومة في كل وقت؟

فإن صح أني صبرت أخيراً على خدمة الحكومة أربع سنين فاعلموا أن أخاكم مكره لا بطل، وأنه لم يتمرغ في تراب (الميري) إلا وهو في فاقة وإملاق

وآه ثم آه من الصبر على خدمة الحكومة أربع سنين!

وهل خلق الشعراء لهذا الاستعباد؟ وهل كان ذلك هو المصير المنشود لمن يؤمنون بفاطر النخيل والأعناب؟

ولكن لا بأس فمن واجب الشاعر الذي أخضعه الفن للقوافي والأوزان أن يقبل الخضوع لقيود الوظيفة وقيود المجتمع وما قيمة الفلسفة إن لم نحسن تعليل الصبر على قيود الوظيفة وقيود المجتمع؟

وما حديث الـ4500 ثانية في صحبة أم كلثوم؟

كانت النفس حدثتني بوجوب السفر إلى الإسكندرية في أواخر أيلول لأرى كيف ينجزر الصيف عن الخريف في تلك الشواطئ للِفيح، فرأيت على المحطة فتىً من عصبة الفن الجميل وهو يهتف: (أما ترى ثومة يا دكتور؟)

والتفت فرأيت إنسانة نحيلة تكبح سحر عينيها بمنظارين سمراوين وهي تحاور المودعين حواراً تقع فيه ألفاظ غلاظ على غير ما ينتظر من فتاة لها تلك المكانة بين البيض الخَفِرات من بنيات وادي النيل

وأقبلت فسلمت تسليم الشوق بتهيب واحتراس، لتفهم أني لا أريد نضالها في ميدان التنكيت، ولكن الشقية تغابت وتجاهلت رغبتي في البعد عن هذا الميدان، ولم تكن إلا لحظة حتى اقتنعت بأن الزمالك تجاور بولاق!

ما الذي يحمل ثومة على خلع البرقع وهي تحاور الرجال وفيهم من لا يتأدب وهو يحاور النساء؟

لم يبق بين ثومة وبين الفصيلة النسائية أية صلة، فهي اليوم رجل أعمال، وهي أبو كلثوم لا أم كلثوم!!

وقت ثومة لا يضيع في مراجعة الأدب القديم والأدب الحديث - كما تسمعون - وإنما يضيع وقت ثومة في تدبير المال لاقتناء النفائس من البيوت والبساتين

وثومة ليست غبية، فهي تعرف أن البيئات الفنية يكثر فيها الوباء، وأنه لا موجب لطاعة الفطرة التي يتجلى فيها الحنان النسوي، لئلا يكون من أثر ذلك أن تدور حولها الأقاويل والأراجيف في زمن الأقاويل والأراجيف

ومن أجل هذا لا تجيد أم كلثوم ممثلة إلا في مواقف الانفراد، فهي كتلة من الثلج حين تحاور رجلاً في مواقفها التمثيلية، وهي نارٌ تتأجج حين تخلو إلى نفسها في موقف من مواقف التذكر والاشتياق

العزلة هي الفرصة الوحيدة لانفجار العواطف في صدر أم كلثوم، لأن هذه الإنسانة تتوهم أن المجتمع لا يُحسن غير التجريح والاغتياب، فهي تلقاه بلسانٍ حديد لا يجيد غير السخرية والاستهزاء، فإذا اعتزلت الناس أو توهمت أنها اعتزلت الناس صارت أم كلثوم الحقيقية بشفتيها الورديتين وثناياها اللؤلؤية وأنفها المسنون. ولو استبحتُ مغازلة هذه الشقية لقلت إن ابتسامها يصدر عن وادٍ سحيق هو وادي الخلود!

وما أسعد من يظفر بابتسامة صفية من أم كلثوم ولو لحظة واحدة من عمر الزمان!

هانحن أولاء في محطة القاهرة، وإني وإياها لمختلفان، فهي ذاهبة إلى المنصورة وأنا ذاهب إلى الإسكندرية، وسنفترق في طنطا كارهين أو طائعين

وأترفق فأقول: ألا تحتاج الحمامة الموصلية إلى رجل يضايقها لحظات؟

فتجيب: وأنت؟ ألا تحتاج إلى من يضايقك ساعات؟

ثم نأخذ في الحديث بعنف ولجاجة وصيال، فهل كان بيني وبين هذه الروح ثأر قديم؟ وهل سمعت أني اغتبتها فقلت إنها ريحانة هذا العصر وأغرودة هذا الجيل؟ وهل نقل الوشاة أني زعمتُ أنها أطيب من العطر وأرق من الزهر المطلول؟

لا أعرف ما ذنبي عند أم كلثوم، ولم أخرج على الأدب فأقول إنها خير ما أخرجت مصر من ثمرات، وإنها ألطف روح سكن الزمالك وتخطّر في شارع فؤاد؟

ما هفوت في حق أم كلثوم إلا مرة واحدة حين قلت إن حنجرتها مسروقة من الحمائم الموصلية، وكان الرأي أن أقول إن حمائم الموصل سرقت رخامة الصوت من الحنجرة الكلثومية

ثم تشتط أم كلثوم في المزاح الغليظ، ولكن مع من؟ مع الرجل العليم بمواقع أهواء القلوب ولو سُدل على سرائرها ألف حجاب!

هل تذكرون المصباح المغطّى بالأوراق الزرق؟

هو قلب أم كلثوم، لو تعلمون!

وبلفظة واحدة نزعت تلك الأوراق لأواجه ذلك القلب الوهاج

فما هي تلك اللفظة السحرية؟

قلت: إن حمامة الشرق تستر بمزاحها الغليظ قلباً يحترق

فالتفتت الفتاة التفاتة رشيقة وهي تستزيد، فقلت: وقد حدثتني ليلى أن الأفعى تغفو أوقاتاً طويلة ثم تستيقظ حين تجد الفرصة لتخدير الفريسة بالسم الزعاف

وبهذا الكلام تنبهت أم كلثوم من سباتها المتكلف المصنوع، وابتسمت ابتسامة لن أنساها ما حييت، فقصصت عليها قصة ليلى حين قرأت في كتب التاريخ الطبيعي أن الحيات تثور وتهتاج حين ترى إنساناً أخضر العينين، فزعمت الشقية أنها لم تكن تعرف أني أخضر العينين، فقلت: وما السر في نفرتك مني أيتها الرقطاء؟

وترفقت أم كلثوم وتلطفت بعد التأبي والتمنع، وانطلقت تتحدث بلا تكبر ولا ازدهاء، فمن قال إنه عرفها قبلي فهو كاذب، لأني أول من نزع الأوراق الزرق عن ذلك القلب الوهاج، وأنا أول من فرض على أم كلثوم أن تعرف أن الدنيا فيها أمانة وصدق وإخلاص

من حق أم كلثوم أن تكون في دنياها رجل أعمال، فنحن في عصر سخيف لا يقيم وزناً لمواهب الأدب والفن إذاً فاتهم سناد الجاه والمال

ولكن. . . ولكن دنيا أم كلثوم صدّتها عن الانتفاع بأرباب المواهب، فلو كان لأم كلثوم مستشار أمين لوصلت إلى الإعجاز في الغناء والتمثيل، فلا عفا الله عمن من صدوا هذه الروح عن الاستئناس بأذواق أهل الآداب الفنون!

وهل أنسى بشاعة الاستئثار بتصوير عصر الرشيد؟

كان يمكن أن يكون فلم (دنانير) أعجوبة الأفلام التاريخية لو كانت أم كلثوم تعرف أن في مصر رجالاً أدق ذوقاً وإحساساً من فلان وفلان، وأن الانتفاع بآراء هؤلاء الرجال قد يعود عليها بالخير الجزيل، ولكن أم كلثوم امرأة وإن كانت رجل أعمال، والمرأة لا تفلح حين تتوهم أنها أعقل من الرجال

فلم دنانير جميل جميل، ولكن تعوزه قوة الروح، ولأم كلثوم أن تغضب كيف تشاء، ولفلان أن يقتل نفسه من الغيظ، فقد أخلف الظن به كل الإخلاف

إن هذا الفلم يلخص رأينا في أم كلثوم: فهي لا تجيد إلا عند العزلة والانفراد

فأين من يجعل أم كلثوم من أزهار المجتمع؟

أين من يحوّل هذه الفتاة إلى روح لطيف يشيع في المجتمع معاني الأنس والانشراح؟

إن كانت هذه الفتاة تحب أن تكون (ابن بلد) فقد ظفرت بما تريد، أما إن كانت تحب أن تكون أعظم من أم كلثوم فلذلك حديث غير هذا الحديث ثم وصل القطار إلى طنطا فانتقلت إلى قطار المنصورة وبقيتُ أتشوف إلى الإسكندرية، وذلك آخر العهد بتلك الروح، فإن رضيت عن هذا المقال فقد نلتقي في مصر الجديدة أو في الزمالك، وإلا. . . . . .

زكي مبارك