مجلة الرسالة/العدد 382/القصص

مجلة الرسالة/العدد 382/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 10 - 1940



التطوع للعذاب

للأستاذ نجيب محفوظ

انتهى الأستاذ حسان جلال - وهو محام تحت التمرين - من كتابة المذكرة القضائية - التي شرع ينشئها منذ الصباح الباكر - في تمام الساعة الثانية عشر وكان الجهد قد نال منه كل منال فأستند إلى ظهر كرسيه في إعياء ونصب. ومد يده إلى فنجال قهوة وأرتشفه وهو ينظر إلى الأمام بعينيه يوشك أن يلتقي جفناهما. ودخل الخادم عند ذاك فأقبل على سيده وبصره بخطاب كان تركه على المكتب قبل ساعة وشاب مستغرق في عمله. فألقى عليه نظرة فاترة، وتناوله بغير اكتراث، ولكنه حين وقع بصره على الخط المكتوب به العنوان حدثت في وجدانه صدمه عنيفة مباغتة أرهفت حواسه وأثارت انفعاله وأقلقت باله، فالتمعت عيناه بنور خاطف وبدأ شخصاً جديداً. عرف الخط من أول نظرة فتأمله بدهشة وكأنما ينظر إلى وجه كاتبه في ضوء النهار، فلم يرى خطاً ولكن رأى وجهاً مستديراً كالبدر، خمري اللون، تدل قسماته الدقيقة على الأناقة والملاحة. وغشيه الانفعال ساعة لا يدري من أمره شيئاً. ثم جذبه الخطاب من العالم الداخلي الغارق فيه، ولكنه لم يطع لأول وهلة الدواعي الدفينة التي تهتف به أن يفض الغلاف، وأبقاه على يديه وجعل يديم النظر إليه في شغف ولذة وارتباك وخوف. وقد فرح به وحزن ورضي عنه وغضب. وتساءل في حيرة أيصح أن يطلع على ما فيه أم الأولى له أن يطرحه في سلة المهملات؟. . . على أنه كان يتساءل ويداه تفضان الغلاف بسرعة وتبسطان الخطاب. وما لبث أن قرأ مطلع الكتاب، وهو (عزيزي حسان) فلم يستطع أن يستمر في القراءة واستولت عليه خواطر وشجون، وأحس بخيبة لم يهون من شأنها أنه كان يتوقعها. كانت إذا كتبت إليه في ما مضى تبدأ خطابها فتقول: (حبيبي حسان) أما اليوم فأنها تتجنب هذه الكلمة الساحرة، ولعله دار بخاطرها ما يدور بخاطره الآن حين همت بالكتابة إليه فليس إبدال حبيبي بعزيزي بالشيء الهين، وإنما هو حدث من الأحداث وفجيعة من الفواجع. رباه. . . لماذا تراسله وتجذب أفكاره إلى واديها فتنكأ جرحاً في فؤاده أوشك أن يلتئم وتثير بركاناً كاد يخمد بين جوانحه؟ وتنهد من أعماق صدره وكر بعينيه الحالمتين إلى صفحة الخطاب، وألقى عليه نظرة عامة، فأدرك إيجازها (التلغرافي) وأحس بذلك بكآبة خفية وانقباض صدر، وكأنه كان يرجو لو أنها أطالت وأسهبت. ثم قرأ ما يلي: (راودت نفسي مراراً على الكتابة إليك فكانت تتمتع وتتأبى حتى كدت أسلم لليأس بعد أن تقادم الفراق، وبعد أن نالني من تغاضبك ما نالني، لولا سؤال حيرني إدراكه فرأيت أن ألقيه عليك عسى أن يكون لديك الجواب عليه. أني أسأل لماذا هذا الجفاء؟ ولماذا هذا الهجران؟ هل دعت إليهما دواع معقولة؟. . . فإني أخشى أن يظل كلانا يتعذب لغير سبب. . .)

ورفع رأسه عن الخطاب وقد ثقل تنفسه ويبس حلقه. وحملق إلى لا شيء بعينين مظلمتين. يا له من سؤال! أليس يحق لها أن تسأل كما يحق له أن يسأل: لماذا هذا الجفاء؟. . . لماذا يتباعدان؟ لماذا يعانيان الآم والعذاب في صمت وعناد قرابة عام طويل وثقيل؟ آواه! كم كان يحبها وكم كانت تحبه! وأن آي ذاك الحب لتبدو لعينيه خلل الذكريات كما تبدو المشاهد الغارقة في الظلماء على ضوء المغنيسيوم فأنه ليذكر إخلاصها ومودتها وشدة وفائها، وكأنه كان يرى تألق عينيها حين تراه، أو يسمع تنهدها لدى قربه وعطفه. كانا يعيشان في غمرة الحب ذاهلين عن كل شيء سوى أمالهما الناظرة، ومع ذلك قضى أن يتباعدا ويتفارقا ويذوقا مرارة الهجران والألم الجفاء؛ وكان هو البادئ ولعله كان الظالم. وعلى أي حال فقد استسلم للأوهام فلم تجد هي سبيلاً إلا أن تلوذ بالصمت والصبر. لماذا هذا كله؟. . . على أنه كان في تساؤله متجاهلاً متبالهاً. وكان بذلك عليماً فذكريات الأمس من القوة والعمق بحيث لا يمحوها اليوم ولا الغد. وقد دعت أشجانه إلى ذاكرته صورة أخرى عزيزة حبيبة طالما سكنت قلبه محوطة بالعطف والإجلال حتى أنتزعها القبر بقساوة ولم يترك له منها إلا طيفاً رقيقاً يجفل من ضوء النهار ومشاغل الدنيا ويتسلل في رفق إلى الذاكرة في فترات الأحلام والحنين. جاءته بوجهها الذابل المكال بالشيب ونظرة عينيها الحنونة، فتنهد حزيناً كئيباً وتمتم قائلاً: (أماه). . . نعم هي أمه العزيزة التي قضى حبه إياها على سعادته وآماله، وفرق بينه وبين حبيبته وترك كلاً لوحدته وآلامه. . .

وارتدت عيناه إلى صفحة الخطاب تقلقان بين أسطرها التي اقتضبها الحياء؛ واختزلها الحذر والكبرياء، فلم يجد سوى هذه الكلمات: (سأنتظرك أصيل اليوم في مكاننا المعهود بالحديقة الأندلسية؛ فإن أنت أتيت لكي نصفي الحساب - أي حساب يا ترى؟ - رحبت بك؛ وإن أنت أصررت على الجفاء فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد)

ويلي ذلك الإمضاء المحبوب: حسان. ج. وكان أول ما فاه به بعد تلاوة هذه الكلمات أن قال باضطراب: (أصيل اليوم في مكاننا المعهود) وأحس بدنو الموعد فاهتاج شعوره واضطرم صدره، ثم أستقر بصره على هذه العبارة: (فسيكون هذا آخر ما بيننا إلى الأبد. فجفل منها وذعر، وأنقبض صدره؛ ألم يجعل فراق سنة هذه العبارة حقيقة واقعة!؟ أولم يكن يظن أنه نفض منها يديه إلى الأبد!؟. . . بلى، ولكن ذاك الخطاب رده إلى ماضيه بسرعة فانبعثت فيه حرارة كما تنبعث فيه حرارة كما تنبعث الكهرباء في المصباح بعد سريان التيار إليه. وضاق عند ذاك بمقعده بالمكان، فاعتزم مغادرة المكتب الذي يتمرن فيه وطوى الخطاب وارتدى طربوشه ومشى إلى الخارج. وفي الطريق أرتد خياله إلى الماضي يتعقب حوادث الأمس المنطوي. . . لا يدري بالضبط متى تعرف بإحسان وإن كان يشعر أنها تملأ ماضيه جميعاً، ذلك أنه لم يعتد مطلقاً عادة كتابة المذكرات، فسجلت ذاكرته الحادثات بنسبة تأثرها بها لا على حقيقة وقوعها، ولكنه يذكر بغير ريب أنه في صيف العام الماضي سكنت أسرة إحسان في عمارة رقم 10 بشارع البستان بالسكاكيني، وأنه تعرف بالفتاة قبل أن يمضي شهر على نزولها بالحي الجديد. وقد جعلت المقادير حجرة نومها تجاه حجرة نومه، فتهيأت لكل منهما الفرص لتذوق صاحبه وتقدير مزاياه. وجذبته بادئ الأمر ملاحتها وأناقة قسماتها، فانجذب إليها ينشد الحب واللهو والعبث، وما يدري إلا وقد بهره ذكاؤها ورقة روحها وأنوثتها الناضجة، فأحبها الحب الصادق، وتعاهدا مخلصين أن يكون لها وأن تكون له ما أمتد بهما العمر. وشاركا المحبين حياتهم الهنيئة التي تطرد في هدوء بين المناجاة واللقاءات والوعود والآمال كأنها جدول صاف يشق حقلاً من بدائع الورود والرياحين إلى أن كان يوم عادت أمه فيه من إحدى الزيارات تكيل الذم لفتاة التقت بها لأول مرة في بيت جارتها. فدفعه حب الاستطلاع إلى السؤال والتحري فإذا بالفتاة فتاته دون غيرها، وإذا بأسباب غضب أمه عليها أنه دار حديث بين السيدات عن أعمارهن. ولما سئلت أمه عن سنها قالت: (كنت أبنه عشرين أيام الحرب) وكانت تعني الحرب الكبرى ولكن إحسان تساءلت بخبث تعقب على قول السيدة - وهي تجهل أنها أم حبيبها -: (حرب عرابي يا تيزة) وضحك السيدات طويلاً وضحكت إحسان كذلك ولم تكن قالت ما قالت إلا بدافع الميل إلى الفكاهة، ولكن أمه لم تحتمل هذر الفتاة، وأحست بطعنة أليمة نغصت عليها صفوها

واستمع حسان إلى قصة والدته باستياء وغيظ وأسف وكان ينوى قبيل ذلك أن يعلن خطبته فاضطر إلى التريث مغلوباً على أمره، وعهد بإسكات ذاك الغضب إلى الزمن، ولما ظن أن ما كان من الأمر قد نسي وعفا أثره تقدم إلى والدته يحادثها في أعز أماني قلبه، ولكنه وجد منها ازوراراً وإباء، وكبر عليها جداً أن تستأثر بابنتها غداً التي أهانتها بالأمس، فرفضت الإصغاء إليه وأصرت على أن مثل تلك الفتاة غير جديرة به ولا كفء له وذهبت كل محاولته وتوسلاته لاسترضائها أدراج الرياح، وعجب حسان لغضب أمه أكان حقاً لتلك الدعابة المرة، أم لإشفاقها من احتمال تحول قلب أبنها الوحيد عنها إلى امرأة أخرى؟ أم كان لهذين معاً؟. . . ومهما يكن من الأمر فقد أسقط في يده وتوزع قلبه ألماً وحزناً بين أمه وحبيبته، وكابد فترة من الحياة مليئة بالقلق والعذاب، موزعة بين الألم والضجر واليأس والخنق. ثم أعلن ما كان سراً وافتضح ما كان خافياً، فصار عداوة صريحة بين أمه وخطيبته تحدثت بها ألسنة الحي جميعا. ً وأنها لعلى شدتها وقوتها إذ أحست بالمرض فجأة فلزمت الفراش ثلاثة أيام ثم انتقلت إلى جوار ربها في اليوم الرابع، ووقع عليه الخبر بعنف وشدة؛ ففزع وهلع وتقطع قلبه ألماً. كان يحب أمه حباً كبيراً؛ وقد هاج الفراق الأبدي الحب المتغلغل فاختنق بالعبرات وأظلمت الدنيا في عينيه. . .

ووسوس له قلبه بخاطر زاد من ألمه، قال عسى أن تفرح إحسان لموت أمه وقد كانت تعدها عثرة في سبيل سعادتها؛ فما من شك في أنها سعيدة مغتبطة وإن تظاهرت بمشاركته حزنه. وألمه هذا الخاطر ألماً عميقاً وزاد من وقعه أن سمع من حوله يتهامسون به فانطوى على الحزن والغضب ورأى قبر أمه العزيزة يقوم حائلاً منيعاً بينه وبين الفتاة. . .

فهجرها فجأة وامتنع عن الرد على رسائلها وانغمس في الكآبة والأحزان ومكابدة الآلام والأشواق زائغ البصر بين ذكرى أمه وذكرى سعادته حتى تعود على الألم وألف التصبر والتجلد وظن أنه يتناسى الماضي بهمومه وآلامه أو أنه نساه بالفعل

ازدحمت هذه الذكريات برأسه في طريق العودة إلى البيت ولكنها لم تصحب بعواطف في مثل مرارتها وحزنها إذ كانت الذكريات تمر برأسه أخيلة مجردة عن عواطفها واحساساتها.

أما وجدانه فكان كله مستغرقاً في أثر الخطاب والموعد. لذلك انصرفت نفسه عن الغذاء، وعز النوم على جفنيه وحامت أفكاره حول فتاته فتمثلها أمامه بقدها الممشوق ووجهها البدري وكأنه كان يسمع رنة صوتها، ويشم رائحة (سوار دي باري) التي تتعطر بها، فانفعل انفعالاً شديداً نبا به عن الطمأنينة. ولم يكن قر رأيه على شيء ولا بت في المسألة برأي، بل كان يحاذر من مواجهتها مواجهة حتى لا يقطع فيها برأي ينغص عليه أحلامه أو يميل بها إلى حل يثير كوامن أحزانه. حتى إذا وافى الأصيل وجد نفسه يغادر البيت ويقصد إلى قصر النيل مستسلماً لتيار عنيف لا يتنكب عن طريقه ويأبى أن يقر بالاستسلام. ولكنه ألفى نفسه أمام ما يحاذره حين عبر الجسر، وطالعته الحديقة الأندلسية بخمائلها المعشوشبة ومدرجاتها السندسية، هنالك أحجم عن التقدم وانعطف إلى يمينه يساير النيل مضطرباً حتى حجبه سورها الحجري ثم أستند إليه متريثاً وقد لفته الحيرة والاضطراب ولبث في جمود تام، وكانت أفكاره تنجذب بشدة نحو تلك التي لا يفصلها عنه سوى السور الحجري. وسرى في ملمسه من الحجر البارد تيار حار متدفق، فخفق قلبه بعنف وكاد يتحول إلى الباب مندفعاً وفي تلك اللحظة الفاصلة أرتد خياله - فجأة - إلى بعض حقائق الماضي الأليمة، فبردت حماسته وهبطت حرارته وانتكس انتكاساً غريباً أحس من جرائه يخجل واستحياء وألم فجعل يتساءل مغيظاً محنقاً: كيف حملتني قدماي إلى هنا! ولم يلبث أن احتدم بقلبه الغضب وخال أن إقدامه على الذهاب إلى هناك عيب حقيق بأن يجعله ضحكة للضاحكين والشامتين

وهز منكبيه باستهانة وانحدر في الطريق الضيق مبتعداً عن الحديقة، ولم يعتوره التردد سوى مرة واحدة وقف عندها قليلاً والتفت وراءه ثم أستأنف المسير بعزم وبأس، ولم يكن يملأ فراغ خياله حينذاك سوى صورة أمه. . . وهكذا خان عهد سعادته ليكون وفياً لذكرى أمه، وكثيرون هم الذين يعانون الآلام والمتاعب في سبيل ما يتمثل في نفوسهم من الأوهام

نجيب محفوظ