مجلة الرسالة/العدد 382/بعد الفاجعة
مجلة الرسالة/العدد 382/بعد الفاجعة
أماه. . .
للآنسة أمينة قطب
الثلاثاء 15 أكتوبر سنة 1940. . .
أماه. . .
أتراني أقوى الآن على أن أكتب شيئاً؟ يخيل إلي أني لا أستطيع، وأن استطعت فبضع كلمات لا تعبر عما في نفسي
لقد كنتِ القوة الغريبة التي لا تُشِع الحياة في عقولنا ونفوسنا، فنفكر ونحس، ونقوى على العمل. كنت الأمل الباسم الذي ينير لنا الحياة. كنت المصباح الهادي نسير على ضوئه غير مبالين ما يعترض طريقنا من صعاب
والآن ماذا فقدنا بفقدك يا أماه؟ لقد فقدنا كل شيء. فكفت عقولنا عن التفكير، وأظلمت نفوسنا، وخمدت فيها جذوة الحياة
كل هذا ولما يمضي أسبوع على غيبتك. فيكيف تمر بنا الأيام والسنون؟
هاهو ذا القمر الذي كنت أجلس إليه الساعات الطوال أتأمل في جماله وما يسبغه على الكون من جمال وسحر. هاهو ذا الآن يسطع أمامي ويملأ الكون نوراً، فماذا أرى فيه، أنه رقمه صفراء أو بيضاء لست أدري! لا توحي إلى النفس بشيء، بل تشوه الفضاء الواسع بلونها الباهت المريض. . . أي تبدل هذا الذي تم في نفسي خلال أسبوع؟. . . ويحيى ماذا أقول؟ أسبوع فقط؟ أني لأحس به سنين وأجيالا
آه ما أقسى الحياة، حين تموت في النفس الحياة!
أماه. . .
بربك تعالي وأعيدي إلينا الحياة. أن هذه الوحدة قاسية ومؤلمة. ولن نستطيع احتمالها أكثر من هذا الأسبوع! تعالي فلن نستطيع احتمالها السنين الطوال
أماه. . .
هل أطمع في تلبية ندائي؟ هل أطمع في عودتك يوماً من الأيام؟
الجمعة 18 أكتوبر. . .
أمي. . .
أصحيح إنما مضى على رحيلك عنا هو تسعة أيام؟ إذا كيف تمر الشهور والسنون؟ تسعة أيام فقط تتبدل فيها نفسي هذا التبدل؟ أين نفسي الأولى المرحة المشرقة المتفتحة للحياة الخالقة للآمال؟ أين هي من هذه النفس الميتة الغائبة عن العالم وما فيه من آمال وأحلام، البعيدة عن كل ما في الكون من مباهج الحياة وجمال؟ أنها هاتين النفسين لتفصل إحداهما عن الأخرى سنون وأجيال!
لقد طرق سمعي من بعيد منذ لحظات صوت (أم كلثوم) في تلك الأغنية الحبيبة إلى نفسك التي كنت تطربين لها حين أغنيها لك. . . تنبهت فجأة وكأنني أحلم: أو مازال صوت (أم كلثوم) يردد في الأفاق ويسمعه الناس ويطربون له؟ أو مازال في الدنيا غناء؟!
أين أنا أذن وأين نفسي التي كانت تطرب للغناء؟ لقد جمعت شتات فكري على نغمات هذا الصوت، وأخذت أبحث عن نفسي التي كانت تسمع وتطرب، فوجدت أنها كانت هنا قبل تسعة أيام!
أمي. . .
يخيل إلي عندما أسمع صوتاً كنت أسمع أو أرى شيئاً كنت أرى هناك في المنزل الأخر قبل أن نرحل إلى هذا البيت. . . يخيل إلي أنني لو ذهبت إلى المنزل الأول لوجدتك هناك! وعند إذن أجلس إليك وأحدثك وأغني لك تلك الأغاني التي كنت تحبينها! أجل، يخيل إلي هذا فأصدقه وأعتزم الذهاب. ويومض في نفسي شعاع من الماضي الحبيب، ولكن سرعان ما يطفئه صوت الحقيقة المؤلم الحزين، وتعود نفسي إلى ظلامها وموتها
أمي. . .
هل أطيع ذلك الخيال مرةً وأذهب إلى المنزل الأخر؟ من يدري يا أماه، ربما أجدك وأجلس إليك ولو بضع لحظات؟!
أبنتك الحزينة
آنسة أمينة قطب