مجلة الرسالة/العدد 382/تاريخ مصر ونهضتها القومية
مجلة الرسالة/العدد 382/تاريخ مصر ونهضتها القومية
للأستاذ عبد المجيد نافع
في نهاية القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين أثارت طائفة من فلاسفة الغرب وعلمائه وكتابه، حملة شعواء ظالمة على التاريخ كعلم من العلوم الإنسانية، وبلغت تلك الحملة أشدها حين طغت موجة العلوم العلمية على العلوم النظرية، وجرف تيار الروح المادي كافة المثل العليا التي تغنت بها الإنسانية طوال السنين أو كاد، وأسرف بعض الفلاسفة في توجيه النقد فنادى بأن التاريخ لا يعدو أن يكون (مجموعة أكاذيب) لا ينبغي للشعوب أن تشغل أذهانها بها، ولا يحل في شريعة التربية الوطنية أن نسمم عقول النشء بحشوها في ثناياها؛ وأبى بعض أولئك الفلاسفة أن يسمو بالتاريخ إلى مرتبة العلم الجدير باسم علم، إذ لم تكن له المبادئ الثابتة والمقاييس والضوابط والحقائق التي تنطوي عليها علوم الرياضة والهندسة والفلك وما إليها من العلوم المضبوطة، وإن من ضياع الوقت الضرب في مجاهل التاريخ بدل الإلمام بالكيمياء
والميكانيكا والجيولوجيا والبيلوجيا والفزيولوجيا وغيرها من العلوم العلمية. وذهب بعضهم إلى حد القول بأن الذي جنى على الحضارة الإنسانية شر الجنايات إنما هو التعلق بالخيالات، واطراح الحقائق العلمية ظهرياً ونعي أحدهم على التربية في عصره العناية بالنظريات، والتنكر للحقائق العملية إلى حد أن يجهل الناشئ جهلاً مطبقاً أعضاء جسمه، على حين أنه يلقى عن ظهر غيب تاريخ ميلاد الملوك ووفياتهم وحروبهم، ولو لم يكن لأولئك الملوك أثر بارز في التاريخ، ولو لم تغير معاركهم الحربية مجراه في كثير أو قليل، كأنما التاريخ بات ثبتاً بمواليد الملوك ووفياتهم، وقائمة حمراء بالمعارك الدموية! وعلى الجملة فقد قام أولئك العلماء ينشدون (الإنسان الآلي) ويضلون عن الإنسان المركب من جسم وروح وعقل!
كان يمكن أن ترجح وجهة نظر دُعاة المذهب المادي لو أن التربية إنما تعني بالجسم والعقل دون الروح، ولكن التربية الحقة في ضوء العلوم النفسية، وعلى هدى التجارب التي تمليها نهضات الشعوب، ينبغي لها أن تعني بالجسم ثم بالروح ثم بالعقل، بحيث يحصل التوازن فلا تطغى قوة على أخرى والإنسان تسوقه العاطفة أكثر مما يسوقه العقل.
والعواطف الملتهبة الجياشة التي تبلغ حرارة اليقين وغليان الإيمان، وتترفع إلى الرضا بالاستشهاد في سبيل ما يعتقد المجاهدون أنه الحق، هي التي غيرت وتغير وجه التاريخ، لا برودة العقل والبحث العلمي المجرد. والأمم في جريها وراء تحقيق المثل العليا تشعر في أعماق نفسها بقوة تحفزها للنهضة والتقدم إلى الأمام. وما كان لحفنة من العرب أن يخرجوا من جزيرتهم الجرداء القاحلة غير مزودين بعدة أو عدد، أن يهدموا إمبراطوريتي الرومان والفرس ويقيموا على أنقاضهما الإمبراطورية العربية الضخمة، وينشئوا الحضارة الإسلامية، وهي أبقى على الزمن الباقي من الزمن، لولا الإيمان الذي يغمر قلوبهم، واليقين الذي يدفعهم إلى تحقيق مثلهم الأعلى
وفي الحروب أفلا تراهم يتحدثون عن الروح المعنوية، وأنها هي التي ترجح كفة النصر. ثم ألا ترى أن الدعاية القوية هي التي تقود خطوات الشعوب. ولعله لا يكون من الإسراف أن نحمل طائفة من مؤرخي الألمان وفلاسفتهم وعلمائهم النصيب الأكبر في تبعات الدماء التي سالت والأرواح التي أزهقت في حربين لم تكد تخبو نار أحدهما حتى تأججت نيران الأخرى أشد ما تكون ضراماً في فترة واحد وعشرين عاماً، ولا يعلم إلا الله ماذا تلتهم ومتى تخمد! ومن ذا يستطيع أن ينكر أن تريتشكه ونيتشه يساهمان بنصيب كبير في الروح الحربية الروسية، وأن عقول وأقلام راتينا وكيزرلنج وتوماس مان وشبنجلر ومولر فإن دن بروك وفيدر وروزنبرح وغيرهم من غلاة المذاهب الفلسفية المتطرفة هي التي صاغت ألمانيا النازية التي تتحدى اليوم العالم بمن فيه وما فيه! لقد نفخ هؤلاء وأولئك في روح الألمان أنهم من طينة كثير من الأمم، وأنهم خلقوا للتسلط والسيادة، وأن الحرب إنما هي صدام بين إراديتين، وإنما يعقد النصر بلواء الأقوى فيهما وأنه لابد لألمانيا من أن تصفي حسابها مع الغرب، أن لم يكن اليوم فغداً، ليتسع لها المجال الحيوي، ولتأخذ مكانها في الشمس، ولتأخذ مكانها من سيادة العالم، وتطالع الدنيا بنظام جديد ينهض على القوة والرقي بدل النظام الذي كان يقوم على الضعف والانحلال!
إنما تنكر بعض الفلاسفة والعلماء للتاريخ وأكبروا أن يرتفعوا به إلى مرتبة العلم، لأنه كان قائماً على مجرد سرد الوقائع وذكر الأرقام، وليس هذا من التاريخ في شيء. فإذا اصطبغ بصبغة الأدب فهو أدنى إلى القصص التاريخي منه إلى التاريخ الحق. إنما المؤرخ الجدير بهذا اللقب، هو الذي يعتبر المجتمع الإنساني مثل الجسم الإنساني يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر من عوامل التطور، ودواعي الصحة والمرض، والقوة والضعف؛ ويساير الأمة منذ نشأتها، ويدرس البيئة وما يحيط بها من عوامل مؤثرة، ويحلل المؤثرات التي تنتاب الشعوب، ويعلل الظواهر الاجتماعية، ويلقي شيئاً من الضوء على ما أبهم في حياة الأمم ويضيء الجوانب المظلمة في التاريخ الإنساني، ويجلو الغامض في المسائل التاريخية التي أحدثت الانقلابات أو جرت إلى التحول والانتقال، ويطالعنا كيف ارتفعت بعض الأمم إلى الذروة، ثم هوت إلى الحضيض، وعلى الجملة يكون في تحليله وتعليله مثل العالم في معمله، والفلكي في مرصده
توفرت على دراسة كتاب (مصر القديمة) للعالم الأثري الكبير الدكتور سليم بك حسن، فأوحى إلي فيما أوحى بتلك الخواطر جميعاً. والحق أنه جعل التاريخ المصري القديم مادة حية تغذى نهضتنا الحديثة الغذاء الروحي والعلمي والعقلي الصالح، ووصل ما أنقطع بين مصر العصرية ومصر القديمة
لقد ظل تاريخنا القديم السنين الطوال حرماً مقدساً لا يغشاه إلا الغربيون، وكنا إذا شئنا أن نجيل الطرف في مجدنا التليد عمدنا إلى مصنفات الفرنج نقلب صفحاتها، ومن لم يكن ملماً بلغة أجنبية ضرب بينه وبين تاريخ بلاده حجاب، وكنا إذا أردنا أن نرتوي من عظات الماضي نهلنا من موارد الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان، فأكبر عالمنا الجليل أن تظل تلك الوصمة عالقة بنهضتنا، وهذه الشائبة، تشوب صحيفة ثقافتنا، وذلك النقص يعتور حضارتنا، فأقبل يستلهم الآثار النقوش، ويستهدي المحاجر والمقابر، ويبحث وينقب، ويبوب ويرتب، ويتابع، ويراجع ما كتبه الفرنج وغير الفرنج، ويساير البيئة المصرية منذ نشأتها ويرقب تطورها وتحولها، ويراقب العوامل التي أثرت فيها والملابسات التي أحاطت بها، ويرقب النتائج على المقدمات، ويفصل بين أصدق الآراء في معترك الآراء ويجلو الغامض والمبهم، ويمزح علم التاريخ بعلم الاجتماع، ويقدم من مجد الماضي مادة لتغذية الوطنية المصرية المتوثبة، ويكشف عن مواطن الأدواء التي انحدرت إلينا من الماضي السحيق، ويضع مشرطه على مكمن العلة في غير تهريج علمي، ولا نعرة وطنية كاذبة، بل في تواضع العلماء، فوفق إلى إبراز التاريخ المصري في حلة قشيبة يجدر بكل من شرب ماء النيل وأظته سماء مصر أن يرجع البصر في ذلك التاريخ الحي كرتين
لقد ساهم العالم الفرنسي الكبير شمبليون بقسط كبير في خدمة قضية المدنية والعلم حين كشف عن الكتابة الهيروغليفية المنقوشة على حجر رشيد؛ وما احسبني مسرفاً أو مغالياً حين أقرر أن الدكتور سليم حسن قد خدم النهضة المصرية بمؤلفه الجديدة أجل الخدمات
ولعلي لا أعد محلقاً في أجواء الخيال إذ أجاهر بأن لفنجستون وستانلي قد كشفا عن مجاهل أفريقيا فخدما العلم والحضارة، وأن عالمنا المصري قد كشف عن مجاهل التاريخ المصري فتوج النهضة الحديثة بأبهى التيجان وأغلاها
لم يكن التاريخ المصري غامضاً فحسب، بل كان لفرط تشابهه يبعث السأم في النفوس، فانصرف عنه الشبان الذين يؤثرون تغذية الروح على تغذية العقل. ولكن عالمنا قد نفخ فيه من روحه وأسبغ عليه من فيض حماسه، وأضفى عليه من وافر إخلاصه ما جعل النفوس التي على ظمأ تتشربه تشربا
على أنه قد عف عن التهويش العلمي، وتورع عن أن يجعل كتابه مصطبغاً بالصبغة الأدبية البحتة ليكون سائغاً للنفوس، بل جعله بين ذلك قواماً في أسلوب علمي هادئ وبحث أدبي رصين
إلى عهد غير بعيد كانت معرفة التاريخ المصري القديم تعتبر ضرباً من ضروب الترف العقلي ولوناً من ألوان الزينة العلمية، ولكن اليوم ونحن أمة تبتغي أن تأخذ مكانها بين الأمم الناهضة وتطمح لأن تساهم بنصيب في خدمة قضية الحضارة، ينبغي لنا أن نعد الإلمام بتاريخ وطننا ضرورة قومية
الكبرياء رذيلة للأفراد، ولكن الكبرياء القومي فضيلة اجتماعية للشعوب، والكبرياء القومي والعزة الوطنية لا يتوفران لشعب إلا إذا شعر شعوراً صادقاً وعميقاً بمكانة وطنه في الماضي والحاضر، وإذن فليس يكفي القومية المصرية أن تشهد نهضة حقة في الحاضر، وإنما ينبغي لها أن تعرف أن الأمة التي بلغت ذروة الحضارة في الماضي البعيد بينا كانت أمم الغرب لا تزال تأوي إلى المغاور والكهوف لهي أمة خليقة بأن تكون في طليعة الأمم المتحضرة
ما أحسب الذين يدينون بمبدأ العنصرية القائل بجعل الأجناس بعضها فوق بعض درجات إلا مريدين به أن يكون حافزاً لشعوبهم لتحقيق غاية التسلط والسيادة، ولنا أن نسأل: إذا كان المصري قد بلغ ذاك الشأو من الحضارة في الماضي فما الذي يقعد به عن أن يكون في مقدمة المتحضرين اليوم
ذهب بعض علماء الاجتماع إلى أن المدنيات نشأت أول ما نشأت في الأمم التي تتوافر فيها وسائل العيش وتسهل، في الأمم التي لا تكون الطبيعة فيها قاسية لا تعرف الرحمة، ولهذه الاعتبارات نشأت المدنيات في مصر وآشور والهند والصين، فلما أشتد ساعد الإنسان فوق الأرض، واستطاع مكافحة عوامل الطبيعة ومغالبتها انتقل مركز المدينة. ولكن الرد على تلك النظرية هين ميسر، فالذين بنوا الأهرام ونحتوا أبا الهول في الصخر، وضربوا في العلوم بسهم وافر، وأنشأوا النظم على اختلاف أنواعها، خليق بأبنائهم أن يأتوا في هذا العصر بالمعجزات
لقد كانت مصر القديمة مهبط وحي الأديان جميعاً. فالله، والروح، والبعث، والعقاب، كل أولئك قد اهتدى إليه آباؤنا المصريون. وأين نبتت فكرة الخلود إلا في الأرض المصرية؟ ولعله ليس من العجيب أن يؤلهوا ملوكهم، فعبادة البطولة كانت ولا تزال متأصلة في أعماق النفس البشرية
كان لأجدادنا المصريين حكومة منظمة بكل ما تحمل هذه اللفظة من معنى، يوم كان الغربيون يهيمون على وجوههم في الآجام، ويسكنون المغاور والكهوف، وكانت إدارة مصالح الحكومة تسير على أحسن وجه، وأكمل صورة، يوم كان الأوربيون لا يدركون حتى مدلول تلك الكلمة، وكانت لهم علوم وفنون، يوم كان غيرهم يعيشون على الفطرة
وآمن المصريون القدماء بأن العدل أساس الملك، فوضعوا التشريع المدني والجنائي، ونظموا الهيئات التي توزع العدالة بين الناس
وفطنوا إلى أن الثروة عنصر من عناصر قوة الأمم فاستغلوها على خير وجوه الاستغلال
وأدركوا أن عزة الشعوب ومنعتها في قوة جيوشها التي تحمي استقلالها وتصد المغيرين عن كيانها، وأن الحروب هي القانون القاسي الذي فرض على تلك الإنسانية البائسة، وأن السلام ليس إلا هدنة بين حربين، وأن الجار المتوثب لا يكبح جماحه إلا السلاح، أدرك المصريون كل أولئك فجيشوا الجيوش وغزوا البلاد وقلموا أظافر المعتدين وضعوا نظاماً صالحاً للأسرة إذ آمنوا بأنها الأساس الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي
وأحاطوا بكل عناصر المدنية، فأوغلوا في العلوم والفنون والآداب، ومازالت أثارهم تنادي بالتقدم الذي بلغوه يوم كان العالم لا يزال يضرب في ظلمات الجهالة
إذا كانت السياسة هي فن حكم الشعوب، فلا مندوحة لمن يطمح لحكم شعب أن يلم بعلم التاريخ عامةً وتاريخه خاصةً
وسط ضجيج الحرب عمل الدكتور سليم في صمت، فطالع الأمة بذاك الأثر الخالد، فما أجدى المصريين أن يجعلوه مصباحاً يضيء لهم طريق المجد والمدنية.
عبد المجيد نافع