مجلة الرسالة/العدد 384/أخلاق القرآن
مجلة الرسالة/العدد 384/أخلاق القرآن
الإحسان
للدكتور عبد الوهاب عزام
الإحسان الإتيان بالحسن من القول أو الفعل. والإحسان خلق ينزع بصاحبه إلى الحسن من كل شيء، وينفر به عن القبيح من كل شيء، ويطمح به إلى الأحسن فالأحسن رقياً في درجات الكمال
فعل الخير إحسان وتأدية الواجب إحسان؛ ولكن أكثر ما يقال الإحسان للتبرع الذي يزيد على أدنى درجات الواجب وللتفضل بأكثر مما يطلب
وذلك درجات يعلو بعضها بعضاً حتى تنتهي إلى الكمال
في كل عمل درجات من الإحسان يختلف فيها المتسابقون إلى الخير، ينال أدناها كثير من الناس، ثم يقلون كلما علت الدرجات حتى ينقطع معظم الناس دون الدرجات العلى فلا يبلغها إلا أفذاذ من الأخيار المحسنين
وفي كل صنعة درجات من الإحسان يتنافس فيها الصناع إلى أن يستأثر النابغون بدرجات يقف دونها الدهماء والأوساط
والأفراد والجماعات والأمم وتتفاوت في الضروريات كالطعام والشراب الذين يمسكان الحياة، والملبس الذي يقي الجسم عوادي الحر والبرد، بل يستوي في ذلك الأمم التي لا تزال في درك الهمجية والأمم التي بلغت في الحضارة مكاناً علياً، وإنما يتفاوت الناس في الحاجيات والكماليات تفاوتاً بعيداً، يقاس بما بين طعام الهمج وملبسهم ومعاملاتهم وبين نظائر أولئك في الأمم التي توفر نصيبها من الحضارة
وكذلك يعظم تفاوت الناس في الإحسان. الواجبات يحتمها القانون أو العرف، وفوق الواجبات ضروب من التبرع في المعاملة أو الإتقان في الصناعة يتلاحق فيها الناس إلى درجة الكمال أو ما يقرب منها
وفي الناس من يقنع بأداء الواجب، وهو الدرجة الدنيا من الإحسان، وفي الناس من لا يعرف في الإحسان حدا، ولا في الكمال غاية؛ طماح كلما بلغ درجة استشرف لما فوقها
والنفوس الكريمة تنزع إلى العلاء نزوعاً دائماً، وتتطلع إلى الكمال كل حين. تحس في سريرتها دعوة من الله العلي تدعوها إلى الرفعة وتهيب بها إلى الكمال، وترى النقص في كل درجة فوقها درجة، لا أعني درجات من الغنى والجاه والسلطان، ولكن درجات من الخير والمواساة والرحمة، وتكميل النفس في معارفها وعواطفها، درجات من النظام والجمال في عقل الإنسان وخلقه وبيئته وكل ما يتصل به. رحم الله أبا الطيب الذي يقول:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام
رحم الله النفس الطماعة اللوامة التي لا تحد طموحها غاية، النزاعة إلى الخير والكمال في غير نهاية. إنما يسير الله خلقه إلى الكمال بأمثال هذه النفوس، ويهديهم إلى المثل العليا بأفعالها وأقوالها
وقد جاء في الحديث أن الرسول صلوات الله عليه سئل:
ما الإسلام؟ فقال: (أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان) ثم سئل: ما الإحسان؟
فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). فقد جعل الرسول الإحسان تأدية العبادة على أحسن الوجوه، وأن يبلغ بها العابد أعلى الدرجات
وقد أرشد القرآن الكريم إلى هذا في قوله: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طَعِموا إذا ما اتقوا وأمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين). جعل الإحسان نهاية التقوى والعمل الصالح
والقرآن الكريم يأمر بالإحسان كله: الإحسان بفعل الحسن واجتناب القبيح، والإحسان بمجاوزة الحسن إلى الأحسن. وقد أكد الأمر به وكرره وبين مكانة المحسنين من الله سبحانه وجزائهم عنده
بين القرآن أن الله تعالى أحسن خلق الناس وأحسن خلق كل شيء. قال: (ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين). وقال: (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات، ذلكم الله ربكم فتبارك ربكم فتبارك الله رب العالمين). وإذا كان خلق الله كله إحساناً فهذا العالم أولى به الإنسان، وأقرب إلى سنته وإلى مرضاة خالقه
بل بين القرآن أن الغاية من الحياة والموت والعمران استباق الناس إلى الإحسان وتنافسهم فيه
قال: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) وقال: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً)
أمر الكتاب الكريم بالإحسان في العمل إذ قال: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) والإحسان هنا إما أن يكون فعل الحسن وإما أن يكون زيادة على العدل. فالعدل إيتاء كل ذي حق حقه، والإحسان أن يعطي الإنسان ما لا يلزمه ويفعل أكثر مما يطلب منه. ومهما يكن فهذا وذاك يأمر به القرآن ويدعو إليه ويحث عليه
وأمر بالإحسان في القول إذ قال: (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن.) وقال: (وإذا جبيتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها. إن الله كان على كل شيء حسيباً.) فالمسلم مأمور أن يحسن في فعله وقوله جهد الطاقة، حتى ينتهي به الإحسان إلى الكمال الذي هو أليق به وأقرب إلى مقاصد دينه
وهذا الإحسان الذي أمر به المسلمون عام لا يخص فريقاً دون فريق إلا من ظلم واعتدى فليس له من إحساننا نصيب. يقول القرآن الكريم: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.)
الطريقة المثلى والدين الأحسن في شرعة القرآن أن يؤمن الإنسان بالله ويخلص له ويفعل الحسن. بين هذا القرآن في قوله: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن). وفي قوله (ومن يسلم وجه إلى الله وهو محسن فقد أستمسك بالعروة الوثقى)، وقوله (من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
هذه هي الطريقة المثلى والخطة التي تكفل للإنسان سعادته واجتماع القلوب عليه وتجنبه الشقاء والبغضاء والشحناء مما يجعل الحياة شراً والأرض سعيراً. في الكتاب المبين: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة. أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وهذا مطلب عظيم يحتاج إلى رياضة النفس على الخير وصبرها على المكاره. لذلك يقول القرآن بعد هذه الآية (وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) وقال في آية أخرى: (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار) وبين القرآن أن الإحسان يكون في كل عمل وفي كل قول. فالاعتراف بالحق والإيمان به إحسان. حكى القرآن عن جماعة من القسيسين أنهم آمنوا وقالوا فيما قالوا: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) وقال عقب هذا: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين). فقد عد قولهم المنبئ عن الإيمان إحساناً. وفي آية أخرى يعد العفو عن المسيء والصفح من الإحسان قال: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وعد استجابة المسلمين لدعوة الرسول إلى تعقب المشركين بعد ما أصاب المسلمين في أحد - عد هذا إحساناً في قوله: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم من بعد ما أصابهم القرح، للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) وعد احتمال المشقة في سبيل الحق إحساناً فقال في المجاهدين: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله، ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين)
النفس الكريمة الطيبة تنزع إلى كل عمل حسن وتنفر من كل قبيح ولا تقف في الإحسان عند حد، فهي تواقة إلى الأحسن فالأحسن؛ تحسن في كل فعل وفي كل قول وتطمح في كل في كل درجة إلى ما فوقها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والمحسنون مقربون إلى الله سعداء بقربه ومحبته، لا يفارقهم إحسانه ورحمته. يقول القرآن: (وأحسنوا إن الله يحب المحسنين. ويقول إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. ويقول: (إن رحمة الله قريب من المحسنين)
وأما جزاء الإحسان فقد قال فيه القرآن: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان). وقال: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) جزاء الإحسان أن يحسن الله إلى المحسن في الدنيا والآخرة. جزاؤه في الدنيا صلاح النفس وتزكّيها وفتح أبواب المعرفة عليها واستمتاعها بالحياة على أحسن وجه وتمكنها في الأرض وسيادتها وبلوغ الكمال الذي أراده الله للمحسنين. جاء في سورة يوسف: (ولما بلغ أشدَّه آتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين) وقال في السورة نفسها: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين). جزاء الإحسان في هاتين الآيتين إيتاء الحكمة والعلم والتمكن في الأرض والرحمة. وأعظم به من جزاء
وأما في الآخرة فحسبك هذه الآية من آيات: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار)
ذلكم الإحسان الذي يدعوا إليه القرآن، وذلكم جزاؤه في الدنيا والآخرة. على الإنسان أن يحسن ما استطاع ولا جناح عليه بعد إحسانه أن يستمتع بالطيبات من الرزق في هذه الحياة. وأن يبلغ من هذه الدنيا ما يشاء! وقد تلوت أنت هذه الآية:
(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)
وهذه آية أخرى جامعة:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين)
ذلكم هدى القرآن في الإحسان، وقد جاء في السنة حديث جامع: (إن الله كتب عليكم الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) يعني إذا لم يكن بد من قتل إنسان قصاصاً فليقتل قتلة حسنة لا مثلة فيها ولا تعذيب؛ وإذا ذبحتم الحيوان فاذبحوه بأحسن وسيلة، الوسيلة التي تؤدي إلى المقصود دون تعذيب كذلك
وبهذا الهدى سار المسلمون الأولون، فأحسنوا أقوالهم وأفعالهم وأحسنوا إلى الناس وبالغوا في الإحسان والإنفاق فنالوا جزاء المحسنين من السيطرة على الدنيا بالحق والسعادة بها وحسن الجزاء في الآخرة
وإن فيهم لأسوة حسنة للمتخلفين من بعدهم، فليجدوا في الإحسان ولينافسوا فيه. ليحرصوا على الإحسان في العلم والمعرفة والقول والفعل وفي كل صنعة وكل نظام تستقيم به أمور الناس على هذه الأرض، فقد دعا الإسلام إلى الإحسان كاملاً عاماً شاملاً. ومن أخلق من المسلمين بإجابة هذه الدعوة؟
عبد الوهاب عزام