مجلة الرسالة/العدد 384/بشائر السلامة

مجلة الرسالة/العدد 384/بشائر السلامة

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 11 - 1940


أمة التوحيد تتحد. . .

قالت الأهرام في عدد يوم الجمعة الماضي: (إن هناك بحثاً يدور الآن في بعض الدوائر العربية حول تكوين حلف عربي يواجه به العرب الظروف الحاضرة التي يجتازها العالم اليوم. والمفهوم أنه إذا انتهى هذا البحث التمهيدي فستدعى الحكومة المصرية رسمياً إلى الاشتراك فيه. أما الدول التي يشملها هذا الحلف فهي: مصر وسوريه وفلسطين والعراق والحجاز. وقد يتسع نطاقه فيشمل إيران وأفغانستان)

هذا التفكير على أي شكل كان يدل على تيقظ الروح الهاجد في الجسم العربي، ويبشر بتجمع القوى الشتيتة في أعضائه، ويطمئن قلوب الأحرار الأبرار الذين تتفارطهم الهموم على مستقبل العرب والإسلام والشرق. وكان من أعجب العجب أن يرى العالم العربي الخطوب تتواثب على جوانبه، والنوازل تتفاقم في أحشائه؛ ثم تظل كل دولة من دوله سادرة في مشاعب هواها تتلهى بالنظر الغرير إلى حركات زعمائها وهم يتصارعون على المناصب ويتنازعون على الحكم؛ كأن السلامة والسلام أمران يجريان من حياتها مجرى الأمور الطبيعية كالنوم واللذة والضحك، فهي لا تشغل بهما البال ولا تدير عليهما الفكر

ولقد قلنا منذ عام حين تحلبت أشداق النازية على حدود الدول الصغيرة: إن الدويلات الضعيفة كان لها فيما مضى من الزمن السعيد حارس من سلطان الدين وحكم القانون وعرف السياسة، فكانت تعيش في ظلال الخلق الإنساني العام حره آمنة، لا تجد من جاراتها الكبرى إلا ما يجده الصغير من عطف الكبير، والفقير من عون الغني؛ فلما كفر النازيون والفاشيون بشرائع الله وقوانين الناس أخذوا العالم بسياسة السمك، ففسد النظام، واختل التوازن، واضطربت الحياة، وذل الحق، وأفلس المنطق. فليس لها اليوم من عاصم أن تنضوي إلى الديمقراطية التي تجاهد في سبيل السلام والحرية والمدنية بجانب جهادها في سبيل نفسها؛ حتى إذا انتصرت على هذا الطغيان المسلح الكافر نظرت هي في يومها وفي غدها، فتعالج ضعفها بما تعالج به الطبيعة ضعف النمل والنحل والقرود، وهو التجمع والتعاون، فيكون بين البلاد المتجاورة كشعوب الإسلام الأربعة عشر شبه ما بين الولايات الأمريكية الثماني والأربعين: من اتحاد السياسة الخارجية والدفاع العام، والدستور المشرع، والرئيس الحاكم. وإذن لا يبقى على الأرض أمة صغيره يقوم على استعمارها النزاع ويميل من جراها ميزان السلامة

إن من يستمع إلى الإذاعة العربية من بلاد المحور يرتعد فرقاً من هذا الإخلاص الإيطالي للإسلام وذلك العطف الألماني على العرب. ومن شقاء العقل أن نحمله على أن يسيغ هذه الدعاية الغريبة التي اتخذت وا أسفاه ألسنتها من بعض العرب الذين فتنهم المال الغرور لتقول: إن فيالق الدتشي وكتائب الفوهرر لم تحشد في صحراء مصر وجبال البلقان إلا لتنقذ العرب والمسلمين من عذاب الديمقراطية البريطانية!

ليت شعري من الذي حملهم هذه الرسالة وأوجب عليهم هذه التضحية؟ لسنا اخوتهم في الجنس ولا في العقيدة ولا في المنفعة حتى يكون لما يبذلون في سبيلنا من الأموال والأنفس مسوغ. ولسنا من السذاجة والغفلة بمكان القطيع الذي حالف الذئب الجائع الطامع على الكلب الحارس الأمين. إنما نحن شعب مختار حكم العالم في ماضيه، وتمرس بالشدائد في حاضره؛ فله من بصيرته الموروثة نفاذ إلى صميم الخديعة، ومن تجاربه الأليمة سداد في مزالق الفتنه؛ فلا نجهل أننا نحن الغنيمة التي يحتربون عليها، والطعمة التي يختصمون فيها؛ وكلما أرسلوا الأمواج من مذاييع باري وبرلين تحمل إلينا منهم الشوق المبرح والحدب الشديد، تضاممنا من الفزع ليتقي بعضنا ببعض سهام كيوبيد الأثيرية!

هذا التضام هو التكتل الذي يصير إلى الوحدة. والوحدة التي يقتضيها الدفاع عن النفس ويدعو إليها الخوف، أوثق وأصدق من الوحدة التي يوجبها النزوع إلى الأنس ويبعث عليها الأمن

لقد كان العرب والمسلمون فيما غبر متواكلين متخاذلين، لأنهم كانوا هم على هذه الحال يستطيعون في حمي الديمقراطية السمحة أن يعيشوا بوجه من الوجود. ولكن ماذا عساهم يصنعون وهذه الدكتاتورية الباغية تزحف شعبتاها إلى الشرق عن طريقين مختلفين: شعبة تبغي استغلال البلاد لأنها بطبيعة أرضها فقيرة، وشعبة تريد استعباد الناس لأنها بطبيعة عنصرها على زعمها سيدة. وإذا دهمك من اليمين ومن الشمال الجائع السلاب والمتكبر الغلاب فقدت وجودك المادي والأدبي السلب والغلب؛ ثم لا تدري أي شيء تكون بعد ذلك!

فاتحاد الأمم العربية أمام هذا الخطر الهاجم ضرورة خلقتها غريزة حب الحياة. وفي اعتقادي أن الأمر في هذا الاتحاد لن يقف عند مناقشة الفكرة ومواضعة الرأي؛ ولكنه سيتعداهما إلى إمضاء العزيمة وإنجاز العمل. ذلك لأن كل أمة من هذه الأمم تشعر في وسط هذه الكوارث الداجية بما تشعر به الشاة الشاردة عن القطيع. وإن أسهل على الطبيعة أن تعيد اتحاداً ألفه الله من صلة الدم ونسب الروح من أن تبدأ اتحاداً ألفه الشيطان من النازية والفاشية والشيوعية والوثنية؛ فإن هذه النحل المجرمة أضداد تنسجم في الباطل وتتنافر في الحق، ولا بد أن يدركها داء البغي فتحر ضارعة صريعة أمام قوى الخير والعدل ولو بعد حين!

أحمد حسن الزيات