مجلة الرسالة/العدد 385/السنوسيون

مجلة الرسالة/العدد 385/السنوسيون

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1940



للأستاذ حسين جعفر

السنوسيون هم طائفة من الإخوان المسلمين تعتقد بولاية السنوسي. ومؤسس هذه الطائفة هو السيد محمد بن علي ابن السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المهاجري، ويسمى عادة الشيخ السنوسي أو السنوسي الكبير. ولد بالقرب من مستاجانم ببلاد الجزائر، وأطلق عليه أسم السنوسي تيمناً بولي من أولياء الله موجود قبره بالقرب من تلمسان. وتاريخ ميلاده غير معروف بالضبط، والمصادر المختلفة ذكرت السنين: 1791، 1792، 1796، 1803 ميلادية

وهو ينتمي إلى قبيلة ولد سيدي عبد الله، ويتصل نسبه بالسيدة فاطمة بنت رسول الله ، وحينما كان صغيراً قضى بضع سنوات في فاس حيث درس التوحيد والفقه الإسلامي. ولما بلغ الثلاثين غادر مراكش في رحلة إلى المناطق الصحراوية الواقعة في بلاد الجزائر، داعياً إلى إصلاح العقيدة والإيمان، ومن الجزائر رحل إلى تونس ومراكش فالتف حوله كثير من المريدين والأتباع.

ثم ذهب إلى القاهرة حيث عارضه علماء الأزهر الشريف وعدوه مبدعاً في أحكام الدين، فغادر مصر إلى مكة وهناك أتصل بسيدي محمد بن إدريس الفاسي زعيم الطريقة القادرية المراكشية. ولما توفي سيد محمد بن إدريس الفاسي أصبح السنوسي رئيساً لأحد فرعي طريقة القادرية. وقد أسس أولى زواياه في سنة 1835 في أبو قبيس قريباً من مكة، وأثناء إقامته بشبه جزيرة العرب أتصل بالوهابين، وكان لهذا الاتصال أثر محسوس في النظر إليه بعين الشك والارتياب من علماء مكة. وفي مكة نفسها أكتسب السنوسي أكبر وأقوى عضد في شخص محمد شريف أمير واداي الذي تولى ملكها في سنة 1838 وهي أقوى إمارة إسلامية في وسط السودان. وحينما وجد السنوسي معارضة قوية في مكة غادرها في سنة 1843 إلى برقة وهناك بالجبل الأخضر أسس الزاوية البيضاء بالقرب من بلدة درنة. وكان على اتصال دائم ووثيق بجميع المغاربة، وأيده كثير من الأتباع الطرابلسيين والمراكشيين.

وكانت الحكومة العثمانية الحاكمة لطرابلس في ذلك العهد تنظر إلى انتشار نفوذ السنوسية بعين غير عين الاستحسان. ومن الجائر أن انتقال السنوسي في سنة 1855 إلى جغبوب وهي واحة صغيرة في الشمال الغربي من واحة سيوة على خط عرض 30 كان لرغبته في تجنب الاحتكاك بالأتراك. وهناك في جغبوب توفي إلى رحمة الله في سنة 1859 أو سنة 1860 وخلف ولدين: الأكبر محمد شريف، سمي كذلك تيمناً باسم سلطان واداي ولد سنة 1844، والثاني المهدي ولد سنة 1845. وقد خلفه في زعامة الإخوان المهدي. ويقال إن الولد الأصغر أظهر ذكاء وكفاية أكثر من أخيه، ولذلك قرر الوالد أن يختبرهما؛ وأمام جميع الإخوان في جغبوب أمر ولديه بتسلق نخلتين عظيمتي الارتفاع وسألهما باسم الله ورسوله أن يقفزا إلى الأرض، فقفز المهدي في الحال ولم يصب بسوء في حين رفض الأكبر. وإلى المهدي الذي لم يخش أن ينفذ إرادة الله انتقلت ولاية العهد التي كانت من نصيب الأكبر. ويظهر أن محمداً قبل مصيره هذا بلا تذمر، وقد تولى القضاء والتشريع في زاوية الإخوان تحت رياسة أخيه إلى أن توفي إلى رحمة الله في سنة 1895.

السنوسي المهدي

كان عمر السنوسي المهدي حين خلف والده أربعة عشر عاماً ومع ذلك كان يتمتع بجميع ما كان يتصف به والده من الشهرة والحكمة والعلم. وقد فاتنا أن نذكر أن الأمير محمد شريف سلطان واداي توفي سنة 1858، وخلفه السلطان علي الذي حكم حتى سنة 1874 والسلطان يوسف وتولى الحكم حتى سنة 1898 وكلاهما كان مخلصاً في أتباع تعاليم السنوسية. وفي عهد السنوسي المهدي انتشرت تعاليم السنوسية من فارس إلى دمشق ومن القسطنطينية حتى الهند. وكان للطريقة في الحجاز أتباع عديدون، وفي معظم هذه الأنحاء احتلت السنوسية مركزاً قوياً يفوق كثيراً من الطرق الإسلامية الأخرى. أما في بلاد النيجر وهي تقع شمال بلاد نيجريا فلم تنل السنوسية نجاحاً، ذلك لأن مسلمي هذه البلاد ما كانوا يعترفون إلا بسلطة سلطان سوكوتو، ولكن الحال كان مختلفاً في الصحراء الشرقية وفي أواسط السودان، فإنه من حدود مصر الغربية جنوبي دارفور ووادي وبرنو، وغرباً إلى بيلما ومرزوق، وشمالاً إلى شواطئ طرابلس كان السنوسي المهدي أقوى شخصية وكان له من النفوذ ما يجعله الحاكم الفعلي، ولذلك كانت الواحات المنتشرة في صحراء ليبيا تحتل وتزرع بواسطة السنوسسيين؛ وازدهرت التجارة مع طرابلس وبنى غازي واستقر النظام والأمن بين البدو الرحل قاطني الصحراء.

وبالرغم من أن والده سماه المهدي فإنه لا يوجد أقل دليل على أنه أدعى أنه المهدي المنتظر ولو أن أتباعه يعتقدون فيه ذلك.

وحينما قام محمد أحمد الدنقلاوي بثورته على المصريين في شرق السودان وادعى أنه المهدي المنتظر قلق السنوسي وأرسل وفداً عن طريق وادي إلى محمد أحمد فوصل الوفد إلى معسكره في سنة 1883 بعد سقوط مدينة الأبيض بوقت قليل. ونترك هنا للسير ريجنالد ونجت وصف ما حدث كما جاء بكتابه عن المهدية والسودان المصري الذي ظهر سنة 1891.

كان وفد السنوسي مشبعاً بتعاليم السنوسية الدينية والأخلاقية فراع الوفد المذابح والخراب البادي حول محمد أحمد أينما حل، وكان الوفد يشعر بأن هداية العالم بواسطة المهدي المنتظر تكون بتأثيره في الغير كي يحيا الناس حياة صحيحة معتدلة عمادها العمل الشريف والاعتماد على النفس. وقد شاطر السنوسي المهدي وفده هذا الشعور وقرر قطع كل صلة بالمهدي السوداني بالرغم من أن محمد أحمد أرسل إليه مرتين ليقبل أن يكون أحد خلفائه الأربعة، رامياً بذلك أن يكسب تأييد السنوسي ذي التأثير العظيم على المصريين، ولكن ظلت رسالتاه بلا رد. وفي الوقت نفسه حذر أهالي واداي وبرنو والبلاد المجاورة بأن ينفضوا أيديهم من كل ما له علاقة بأمور السودان. ويجب ألا يخفي أن الثورة التي حدثت في سنة 1888 وسنة 1889 في دارفور ضد الخليفة عبد الله التعايشي كانت تدار باسم السنوسي.

اشتباك السنوسية مع الفرنسيين

قلق الأتراك من ازدياد شهرة الشيخ السنوسي مرة أخرى. وقد لاحظ السلطان عبد الحميد الثاني أن سلطة الشيخ في كثير من أجزاء طرابلس وبنغازي أعظم من سلطة الحكام العثمانيين. ففي سنة 1889 زار الشيخ السنوسي في جغبوب حاكم بنغازي التركي على راس بعض قواته. وكان هذا الحادث سبباً في ترك الشيخ لجغبوب ونقل مركزه إلى الجوف في واحة الكفرة، وهو مكان بعيد بعداً كافياً يجعله في مأمن من أي هجوم مفاجئ

وحوالي هذا الوقت بدا خطر جديد على السنوسية، وهو أن الفرنسيين كانوا يزحفون من الكونغو متجهين إلى حدود مملكة واداي الغربية والجنوبية. وقد رأى السنوسي في سنة 1898 أن يجمع في اتحاد واحد جميع البلاد المهددة من الزحف الفرنسي، ولذلك فكر في التحالف مع رايح الزبير وسلطان بجرمي ولم يكونا من أتباع السنوسية، ولذلك كان سعيه بلا نتيجة.

وفي واداي كان خلف السلطان يوسف وهو السلطان إبرهيم الذي تولي الملك سنة 1898 يهمل نصائح الشيخ، متشجعاً في ذلك بهزيمة الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان. وكان رد السنوسي على هذا أن حرم على أهالي واداي تدخين التبغ وشرب المريسة (البيرة الوطنية) فأرسل السلطان إبراهيم إلى السنوسي بأن شعبه يحارب ويموت في سبيل المريسة، وأنهم قد ينبذون تعاليم السنوسية ليشربوها. وكان السنوسي المهدي حكيماً في تنازله عن رأيه، معلناً أن الله أجاب على صلاته بأنه جل شأنه قبل أن يستثني أهالي واداي من هذا التحريم. ولما توفي السلطان إبرهيم سنة 1900 وقع خلفاؤه تحت سلطان السنوسي المهدي مرة أخرى

وفي سنة 1900 غادر السنوسي واحة الكفرة إلى دار جوران على الحدود الغربية من سلطنة واداي، وهناك في جيرو على قمة التل الصخري أنشأ زاوية وحصنها تحصيناً قوياً رامياً بذلك أن يصد أو على الأقل يعوق تقدم الفرنسيين الذين قتلوا - في نفس هذه السنة - رابح الزبير في معركة واحتلوا بلاد بجرمي. ورأى الشيخ أيضاً أن يمنع الفرنسيين من احتلال قانيم وهي بلاد تقع في الشمال الشرقي من بحيرة تشاد على الحدود الصحراوية. وبذلك للمرة الأولى بدأ احتكاك السنوسية بالقوات الأوربية.

وقد كان هناك اعتقاد بين بعض الرحالة الفرنسيين والإنجليز أن السنوسيين ربما يعلنون حرب الجهاد وأنهم بذلك ينالون مساعدة جميع المسلمين في شمال وغرب أفريقيا، وهذا الاعتقاد كان بعضه مؤسساً على تعاليم السنوسية ذاتها والبعض الآخر على التخيلات المبالغ فيها من قوة السنوسيين.

وكان عدد محاربي السنوسية الذين يدينون بالطاعة للسنوسي مباشرة عدة آلاف قليلة. ولذلك كان السنوسي يعتمد على سلطته الروحية وتأثيره في هؤلاء الذين قبلوا تعاليمه بأن يأتمروا بما يريد ويستدل من تاريخ السنوسي الثاني على أنهما كانا دائماً في صف المدافع.

والسنوسي المهدي في تعرضه للفرنسيين لم يكن في الحقيقة يقوم بحرب هجومية، وقد أضعف مركزه أنه لم يجتمع تحت إمرته من القبائل عدد عظيم.

فاخذ يحارب في قانيم مع أتباعه من البدو متلقياً مساعدات قليلة كان يقوم بها أهالي هذه المدينة، وفي أثناء ذلك أنشأ زاوية في بيرعلالي، وهي ملتقي تجارة طرابلس بالبلاد الموجودة حول بحيرة تشاد، وحصنها تحصيناً قوياً واستؤنفت الحرب واستمرت ما يزيد على السنة، وبعد قتال شديد سقطت بير علالي في يد الفرنسيين في يناير سنة 1902.

وقد تأثر السنوسي المهدي بهذه الهزيمة ومات بعدها بقليل في 30 مايو سنة 1902 في جيرو ودفن في زاوية التاج ولكن البدو يعتقدون حتى الآن بأنه ما زال حياً وأنه غادرهم في مهمة سرية

وكان أبناء المهدي السنوسي صغاراً قاصرين، فانتقلت زعامة الإخوان إلى أبن أخيه السيد أحمد الشريف وهو رجل طموح ذو مقدرة فائقة ولكن تعوزه حكمة من سلفوه. وأستمر سيدي أحمد في سياسة عمه وهي مقاومة الفرنسيين، ولكن رغم جهوده وبعد كفاح طويل دام من سنة 1904 حتى 1911 سقطت واداي في أيديهم، وبذلك أنهار سلطان السنوسية في أواسط السودان.

وكان السنوسيون يحتفظون لمصر وللسلطات البريطانية فيها بأجمل الود. ولما رأى سيدي أحمد نشاط الفرنسيين أستحسن الانتقال إلى الجوف في واحة الكفرة. وهناك وعلى واحات أخرى في صحراء ليبيا كان السيد المطلق، ولم يكن لاعتراف فرنسا بأن الصحراء واقعة في دائرة النفوذ البريطاني أي أهمية لديه

وكان عدد أتباعه في مصر دائماً في ازدياد، وفي الإسكندرية كان يعيش السيد محمد الإدريسي أكبر أبناء المهدي السنوسي وسط أملاكه مستقبلاً أتباع السنوسية من جميع أنحاء البلاد.

(البقية في العدد القادم)

حسين جعفر

المهندس الزراعي