مجلة الرسالة/العدد 385/عراك في معترك
مجلة الرسالة/العدد 385/عراك في معترك
أي معترك!
فصل في الرمزية
للأستاذ زكي طليمات
في مقالينا السابقين، دفعنا تهماً مصنوعة لا تقوم على حجج علمية، كما كشفنا عن مغالطات صريحة متعمدة لم يجد الأستاذ محمد متولي سواها مطية للرد علينا، ليوهم نفسه ويوهم القارئ العابر أنه سود ثلاث صفحات تلمع ببهرج الجدل الفلسفي
فعلنا هذا بعد أن جعلنا دبر آذاننا سباباً ومهاترات لفظية من جانبه تقيم الحجة على أن الأستاذ متولي لم ينزل إلى موضوعية النقد فيما نحن بصدده، بل أنحرف إلى أطراف الموضوع يشدها ويشدها، متخذاً منها أرجوحة تطوحت به إلى فضاء ما كنا نحب أن نراه يشغل فراغه!
حول الرمزية الفنية
وإذا قلنا إن متولي لا يريد أن يفهم ما نكتب، أو هو يفهمه ثم يتجاهله، لما قررنا غير الواقع!! وآية ما نذهب إليه - وقد سقنا قبل ذلك آيات بينات - أننا قررنا، فيما سبق أن كتبناه رداً على مقاله الأولى، أن متولي يخلط بين ألوان الرمزية، وأيدنا ذلك بقولة من كلام (ريبو) نفسه، مرجع متولي الأوحد في كل جدل، ثم شفعنا ذلك بتعليق آخر وارد في نفس الكتاب (صفحة 169 - 171)، وهو تأييد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكان أن طلع علينا متولي بما زاده إمعاناً في خطئه وفي حيرته، ومرد هذا أن متولي هو أول من أسمى الرمزية الميتافيزيتية، أو رمزية ما وراء الطبيعة، أو الرمزية الفلسفية عند (ريبو)، باسم (الرمزية الفنية) وهانحن أولاء نسجل جملته التي وجهها إلى الدكتور بشر فارس: (ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي كما يقول ريبو). أسمى متولي هذه التسمية عن عدم تثبت أو عن قصد مرسوم - أيهما لا أدري - فلما جاريناه تساهلاً في هذه التسمية التي هي وليدة مخيلته المبتدعة وليست وليدة مخيلة (ريبو)، وناقشناه على هذا الأساس ليفهمنا ويتبعنا، مدللين على أن متولي يخلط بين ألوان الرمزية لينفي عن مسرحية (مفرق الطريق) طابع الرمزية الأصيل، قام يتهمنا بما أخذناه عليه، وكأنه يأبى أن ينزل إلى حق أو حجة أو برهان. . .
ولكننا أوتينا الصبر والجلد، وهانحن أولاء نقدم فصلاً (في الرمزية) كما أرادها (ريبو) محاولته وليس كما أرادها الأستاذ متولي في مقاليه السابقين، وسنسوق في عرض هذا الفصل الأخطاء التي تورط فيها متولي عفواً أو عمداً.
المخيلة في رأي ريبو
يقسم (ريبو) المخيلة قسمين رئيسيين عامين كلاهما إزاء الآخر مكان الماء من النار.
1 - القسم الأول، وأسماه (ريبو) المخيلة المصورة وخاصيته وضوح الصور الجزئية وتحددها، وقربها من الإدراك، وإيهامها بأنها حقائق، وتداخل بعضها في بعض لصلات بينها موضوعية، قابلة للتعيين بدقة، ومن ضروب هذه المخيلة: مخيلة المثال والمهندس والشاعر الوصفي، وبعض أرباب العلوم والصناعات.
2 - والقسم الثاني؛ وأطلق عليه ريبو أسم (المخيلة السيالة) وخاصيته التقريب بين صور جزئية غامضة ملتبسة فياضة، ويكون هذا التقريب على هوى الاستعداد الشعوري من غير قاعدة ولغير سبب منطقي. ومن ضروب هذه المخيلة: أحلام اليقظة، وجولان الفكر، وتلفيق القصص، وبعض التصورات الدينية، وبعض ألوان الفن، مثل فن الرمزية ولا سيما (الأدب الرمزي) الذي كان في عصر (ريبو) حين صدور كتابه، أي قبل عام 1900
ويذهب (ريبو) بعد ذلك إلى أن للمخيلة أنواعاً أخرى أقل عموماً من القسمين السابقين. منها (المخيلة الصوفية). وفي رأي (ريبو) أن هذه المخيلة الصوفية تمت بسبب إلى (المخيلة السيالة) ولا سيما في شكلها الشعوري، وإن كانت لها خصائصها، وهنا يحلل (ريبو) هذه المخيلة، ويميزها عن المخيلة الدينية والمخيلة الفلسفية.
ذلك هو مجمل مذهب (ريبو) في المخيلة على أقسامها وضروبها. والآن نرجع إلى ما كتبه الأستاذ متولي في الرمزية، ونراجع استشهاداته لنتبين مدى فهمه ومقدار أمانته وهو يستند إلى كتاب مطبوع متدوال. وفيما سنورده أقوال جديدة وأخرى سبق أن رددنا بها أخطاء الأستاذ متولي في مقالاته السابقة، وقد آثرنا تكرارها لترد متراصة في صعيد واحد مع هذا الفصل، بعد إيفائها حقها من الشرح والبيان:
1 - ظن متولي أن الرمزية في توطئة مفرق الطريق محض صوفية، فخاطب صاحب المسرحية قائلا: (ألست تحدثنا بهذا النزوع الصوفي ناسياً الفرق بين الرمزية الصوفية التي تفيض عن المخيلة والشعور، والرمزية الفنية التي تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي، كما يقول (ريبو)).
والى القارئ نص (ريبو) ص 196س8 - 11 عن التفريق بين الرمزية الدينية، ورمزية ما وراء الطبيعة أو الفلسفية: (إن الرمزية الصوفية إذا اتجهت نحو الدين فإنها تعتمد على عنصرين أساسين: هما التخيل والشعور، وإذا اتجهت نحو الفلسفة أو ما وراء الطبيعة فإنها تعتمد على المخيلة مضافاً إليها عنصر عقلي واهن) فالقارئ يرى من معارضة حديث متولي بنص (ريبو) أن الناقد اعتسف الكلام إذ نسب إلى ما يسميه هو (الرمزية الفنية) ما خص به (ريبو) (الرمزية الصوفية) المتجهة نحو ما وراء الطبيعة أو الفلسفة. هذا، وأما العنصر الذي خص به (ريبو) (المخيلة السيالة) فهو الاضطراب (راجع كتاب (ريبو) المذكور ص 171س10 - 12). وقد تقدم أن (المخيلة السيالة) هي التي تتمثل في فن الرمزيين
' وهذا الفن - ومعظم كلام (ريبو) عليه في ناحية الأدب - وثمة إشارة إلى ناحية التصوير - يصبح بجرة قلم من الأستاذ متولي يحمل أسم (الرمزية الفنية)!!؟
وللقارئ أن يتأمل كيف خلط متولي الرمزية الصوفية بالرمزية في الأدب والتصوير فجعلهما شيئاً واحداً، هذا في حين أنهما عند (ريبو) منفصلان أساساً وتقع كل منهما في باب مستقل عن الآخر
هذا والمتمعن ذو النظرة العلمية السليمة في توطئة (مفرق الطريق) يلحظ أن (الاضطراب) هو من أساس الإنشاء الفني فيما نريد أن نقرره (راجع مثلاً القسم الخاص بالرقص في التوطئة المذكورة).
2 - يعود الأستاذ متولي إلى الرمزية الصوفية التي في التوطئة الفنية البليغة فيقول مخاطباً صاحب المسرحية: (ألم تحدثنا بهذا أيضاً مع أنه وصف للتخيل الصوفي الذي يؤلف بين السطور الباطنة المبهجة ويستخرج منها رموزاً يستعملها كما هي بعكس الرمز في الفن الذي يحصل من (تحليل الصور) والحركات والألوان؟).
وإلى القارئ نص (ريبو) (ص187 س17 - 30)
(إن مصدر طرافة المخيلة الصوفية أنها تحول الصور المعينة إلى صور فتستعملها على أنها كذلك لا كما هي، ونوع تعبير المخيلة الصوفية لابد له من أن يكون تركيباً.
وتختلف الرمزية الصوفية - بسبب هذا النوع وبالأدوات التي تستخدمها - عن المخيلة الشعورية
التي وصفتها آنفاً (السيالة) وعن المخيلة الإحساسية (يعني المصورة) التي (تستخدم) الصور والحركات والألوان على أنها لها قيم خاصة)
فالقارئ يرى أن متولي عكس الكلام وقلب الحقائق، إذ نسب إلى (المخيلة السيالة) ما نسبه (ريبو) إلى (المخيلة المصورة) من أن الصور والحركات والألوان (تستخدم) لديها، (لا تحلل كما توهم متولي في الترجمة!) على أن لها قيما خاصة، وقد تقدم بالقارئ أن (المخيلة السيالة) ضد (المخيلة المصورة) وهانحن أولاء نسجل نص (ريبو) في التفرقة بين هاتين المخيلتين كما هو وارد في الكتاب المذكور ص 163س1 - 2، ص 165س4
' , , '
3 - ويقول الأستاذ متولي: (ثم ما رأيك في أن (ريبو) يقصد بالرمز في الفن أن يفقد بعض الألفاظ استعماله المعقول المعروف ليدل على معنى جديد بينما أنت).
وإلى القارئ نص ريبو (ص170) عند الكلام على أساليب الكتاب الرمزيين الذين يعمدون إلى الإيحاء في التعبير ويترجمون بالألفاظ عن اضطراباتهم أكثر مما يترجمون عن تمثلاتهم: (الأسلوب الأول أن تُستعمل الألفاظ الجارية مع تبديل مدلولاتها المتعارفة، أو أن يؤلف بينها بحيث تفقد معانيها المحددة، وأما الأسلوب الثاني فاستعمال ألفاظ جديدة أو ألفاظ مهجورة، وأما الأسلوب الثالث - وهو الأقطع هنا - فإن تجعل للألفاظ قيمة اضطرابية فحسب).
فأنت ترى أن السيد متولي أستشهد بجزء من كلام (ريبو) ليؤيد نظره المغرض، وإلا فكيف يبرر وقوفه عند الشطر الأول من الأسلوب الأول لكتاب الرمزيين، ثم تركه الشطر الثاني من هذا الأسلوب، ثم الأسلوبيين الآخرين؟!
سبب هذا الترك المتعمد، ثم هذه الترجمة البتراء، أنه جاء في توطئة (مفرق الطريق) أن مؤلفها يبعد الرمز عن التشبيه والكتابة ومختلف ضروب المجاز - وهو ما قصد إليه (ريبو) في الشطر الأول من الأسلوب الأول - وعلى ذلك فقد زين اعتساف النقد المغرض لمتولي أن يسقط من كلام (ريبو) ما لا يصح أن يكون عكازاً له!!
4 - وهناك خلط آخر، والعجب ممنوع مقدماً. . .
وقف القارئ في عرضنا لمذهب (ريبو) على أن ريبو يدخل تحت (المخيلة السيالة) بعض التصورات الدينية وبعض ألوان الفن. ويشرح ريبو كيف تدخل هذه وتلك تحت المخيلة المذكورة. وقد عني بأن يفصل بينهما في السياق، فجاء كلامه على كل منهما قائماً بذاته (أنظر صفحة 166 - 171) ثم إنه ضرب مثلاً على التصورات الدينية المخيلة الهندية التي تعمل عن طريق الرمز فتمثل الآلهة بعدة أرؤس وأذرع وأرجل لتدل على الفطنة والعزة اللتين لا حد لهما.
وهذا الأسلوب في التمثيل والتعبير معروف، وهو الرمز بشيء إلى شيء آخر، وهو أولي فطري، ولا صلة - من حيث الجوهر - بالرمزية في الأدب (والتصوير)، وهي الرمزية التي ضربها ريبو مثلاً على بعض ألوان الفن كما مر بالقارئ. وقد شرح ريبو هذه الرمزية، وبين أغراضها وطرائقها على حسب مظهرها ومخبرها قبل عام 1900، فدل على أنها تقصد إلى الإيحاء فتبسط الإبهام على الأشخاص والأشياء حتى إنها تطلقها من قيود الزمان والمكان، وربما لم يعين الأشخاص بأسماء فيقال: (هو) و (هي). . . (ص169)
ذلك مجمل حديث (ريبو). . . أفيدري القارئ ماذا صنع السيد متولي؟ خلط رمزية المخيلة الهندية - وهي من باب الرمز بشيء حسي إلى معنوي - بالرمزية في الأدب التي تطلب الإيحاء من باب بسط الإبهام!! ودليل ذلك أنه أستشهد بهذه وبتلك، وهو يتكلم على ما يسميه (الرمزية في الفن) عند ريبو فجعل مصدرها واحداً، أي (فن الرمزيين) ليأخذ على صاحب المسرحية أنه الرمزية في توطئته تعدل عن الرمز بشيء إلى شيء آخر، إلى (استنباط ما وراء الحس من المحسوس وإبراز المضمر وتدوين اللوامع والبواده)!! والآن ألا يصح أن نقول لمتولي - وقد أخذ علينا مزهواً متطاوساً أننا لا نحمل شهادة ماجستير - إننا نحمد الله على هذا المكروه الجميل ما دام لم يسلمنا إلى ما هو غير جميل، وأن نهمس في أذنه بأن الألقاب العلمية، مهما كبرت، فإنها لا تخلق الرجل المخلص والأديب الحق، وأن هذه الألقاب إنما تزهي بحاملها، وإلا فهي تيجان من ورق على رؤوس من خشب!!
أعتقد أن هذا تساؤل مشروع، ما دام (الصديق) محمد متولي لم يتعوذ باللًه وبالفن من التكلف لما لا يحسن والعجب بما يحسن، ولم يتعوذ بالأدب من السلاطة والهذر!
زكي طليمات