مجلة الرسالة/العدد 387/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 387/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1940



شيء قديم

السلطنة

(مع سلام الله ورحمته وبركاته إلى فضيلة الأستاذ عبد الفتاح

خليفة، مفتش الخط المتصوف بوزارة المعارف العمومية)

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

الذين يسمعون الغناء في هذه الأيام معذورون إذا كانوا لا يعرفون ما هي السلطنة، وهم معذورون أيضاً إذا سخروا من ذكرها وحسبوها رقاعة قديمة كان المغنون القدماء يصطنعونها تهريجاً منهم وتحلية لبضاعتهم، وكان الجمهور القديم يحتملها صبراً منه، وتضييعاً لوقته الطويل الرخيص الذي لم يكن ينتفع منه بشيء. . . وهم معذورون في هذا وذاك لأن السلطنة قد انعدمت من عند المغنين في هذه الأيام أو كادت تنعدم. والجمهور اليوم يسمع عنها - إن كان يسمع عنها - فلا يتصورها إلا نوعاً من أنواع التحكم الثقيل الممقوت يفرضه المغني فرضاً على جمهوره تهياً منه ودلالاً واستكباراً، فقد قيل لهذا الجيل إن المغني القديم كان لا يرد إلى المكان الذي سيغني فيه إلا بعد أن تمضي من الليل ساعات. . .

وإنه بعد هذا كان يطلب خمراً أو شيئاً آخر غير الخمر يقلب به دماغه ويغيب به عن وجوده، وإنه بعد ذلك كان يرجو أن إنساناً حلواً يقرب منه ليشاهده وهو يغني، وهو فوق هذا وذاك كان يصر على أن يصحب معه نفراً من الناس لا هم عازفون ولا هم مغنون وإنما هم مستمعون فقط يحبهم ويؤثرهم ويجرهم وراءه من حفلة إلى حفلة، ويجرون هم وراءه من فرح إلى فرح، والواحد منهم يعدل عنده ألفاً من وجهاء الناس الذين يدعون إلى سماعه والذين يجاملونه بالتطيب الرقيق والتشجيع الناعم. . .

وإنه بعد هذا كله لم يكن حضرته يغني إلا إذا تسلطن، وهو لا يتسلطن إلا بعد أن يقضي أفراد تخته زمناً طويلاً في تصليح آلاتهم، وبعد أن يعزفوا بشرفاً، وبعد أن يغنوا توشيحاً، وبعد أن يقسم صاحب العود بعوده تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يتلوه صاحب القانون فيقسم هو أيضاً تقسيمات كثيرة أو قليلة، وبعد أن يعقبه صاحب الكمان فيقسم كذلك تقسيمات كثيرة أو قليلة، ربما بعد أن يغني واحد من أفراد التخت أغنية طويلة أو قصيرة، هذا كله وبعد طلوع الروح يبدأ حضرة المغني فيغني، فإذا نشط في غنائه قيل إن حضرته تسلطن

هذه هي الصورة التي يتصورها أهل هذا الجيل عن السلطنة، وهي صورة تنطبق على الحق وعلى الذي كان واقعاً، وإذا كان أهل هذا الجيل الذي نعيش فيه يكرهونها ويسخرون منها ولا يطيقون أن يرزءوا بها فإنما ذلك يرجع إلى أنه قد فاتهم تعليل كل ظاهرة من ظواهر هذه الصورة. . .

ولو أنهم عرفوا لأي سبب كان القدماء يحبون السلطنة من المغنين ويستجدونها منهم استجداء ويتكلفون تهيئتها لهم تكلفاً قد يرهقهم في أغلب الأحيان. . .

لو عرفوا هذا. . . إذن لأسفوا لأنهم قد حرموا اليوم ألذ متعة فنية قضى عليها جيلنا الحديث المتعجل الذي يستمع الناس الغناء فيه وكأنهم راكبون في قطار، يعدون على المغني أغانيه كما يعد ركاب القطار عليه المحطات؛ ويهرعون إليه قبل موعد الستار كما يهرع الركاب إلى القطار قبل موعد القيام، وينفضون عنه بعد الوصلة الأخيرة كما ينفض الركاب من القطار في محطة الوصول. . .

فلا تذوق، ولا استسلام، ولا واحد من المستمعين هؤلاء يتأخذ بالغناء، ولا واحد من المغنين هؤلاء يغزو نفساً من نفوس مستمعيه. . . وإنما هو (سلق بيض) كما يقول عامتنا الحكماء. . .

كان المغني القديم لا يحافظ على ساعة محددة يحضر فيها إلى الحفلة، وإنما كان يجعل موعده ليلة الحفلة بأكملها، فيحضر إليها وقتما يحضر. قد يبكر وقد يتأخر غير متعمد تبكيراً ولا تأخراً وإنما الذي يتعمده هو أنه لا يذهب إلى هؤلاء الناس الذين جاءوا ليستمعوه إلا بعد أن يستوفي راحة بدنه على الأقل، بأي صورة ما من صور الاستجمام تريحه هو.

ثم إذا جاء إلى مكان الحفلة طلب الخمر أو غير الخمر من قالبات الدماغ، لأن الغناء عورة من عورات النفس، لا يسهل على الإنسان أن يكشفها لغيره وهو يقظ منتبه إلا إذا كان فاجراً، فإذا كان فاجراً لم يكن مغنياً، لأن الغناء فن يستلزم في النفس حناناً ورقة ورحمة وشوقاً وأملاً ولهفة ورجاء وحباً وعطفاً ورضا وتضحية، وكل هذه عواطف بعيدة عن نفوس الفجار. . .

فإذا انقلب دماغه واستخفته الخمر وغاب عن رشده وهان عليه أن يفضح نفسه وأن يكشفها عارية للناس، لم يرضه أن يكشفها لكل الناس، وإنما يرضيه أن يتعرى أمام الذي يعجبه هذا العري، والذي يرحم هذا العري، والذي يستجيب لهذا العري، والذي يكشف بالسماع من نفسه مثلما المغني من نفسه بالغناء. . .

وهذا هو الإنسان الحلو الذي كان المغني القديم يطلبه قريباً منه ليشاهده ويغني له، ولينسى به أنه قد تعرى أمام جمهور من الناس

والحلاوة في الإنسان تختلف، ولكل مغن ذوق هو ناشئ عن تكوين نفسه، فكما كانت حلاوة روحه كانت حلاوة مشهده. . .

والناس أجسام هي صور لأرواح محبيهم وعشاقهم. . .

ولا ريب أن هذه حال تشبه أن تكون موقعة بين المغني ومشهده الحلو، والمواقع لابد أن يحضرها شهود، والشهود هؤلاء ليست مهمتهم الحكم على المغني في آخر الليل بأنه انتصر أو بأنه فشل، وإنما مهمتهم أن يرقبوه وأن يرقبوا سامعه، وأن يتابعوهما بالإيحاء والتنبيه والتحريض و (تسجيل النقط) والتحميس والتطيب وغير ذلك من وسائل تفتيح النفس وإرهاف الحس وإشعال الروح. . . وهؤلاء الشهود هم أولئك المستمعون الذين يجرهم المغني وراءه من حفلة إلى حفلة، والذين يجرون وراءه من فرح إلى فرح. وهو يحبهم وهم يحبونه. أما هو فيحبهم لأنه يشعر بأنهم يتلقون خفقات نفسه ووثباتها فلا تضيع منها خفقة في الريح، ولا تذهب منها وثبة إلى العدم، فهم مسكن روحه ومأوى نفسه ونصراؤه المستجيبون له.

وأما هم فيحبونه لأنهم يرونه كأنما هو قائد لهم، إذا أن فكما كانوا يريدون أن يئنوا هم لو أن نفوسهم تفتحت تفتح نفسه، وإذا حن فكما كانوا يريدون أن يحنوا هم لو أن نفوسهم فاضت كما تفيض نفسه، وإذا هم فكما كانوا يريدون أن يهموا هم لو أن نفوسهم فزعت وارتعشت كما تفزع نفسه وترتعش. . . هم من لونه وهو من لونهم ولكنه أشدهم تميزاً في لونه، وأشدهم تمكناً من لونه وأشدهم انطباعاً على هذا اللون. . .

هم جمهوره. . .

فإذا جاء المغني إلى مكان الحفلة أو الموقعة، وتسلح بالخمر واستحضر شهوده، وواجه غريمه الحلو الذي ينتصر له الحاضرون جميعاً، والذي تجندت مع روحه أرواح المئات من المستمعين قاصدة تعزيزه، أو غير قاصدة وإنما تعززه بطبيعة الفضول المنساب منها إلى روح المغني يناوشه ويهاجمه ويقلقه. . .

إذا ما كان هذا استنجدت روح المغني بأرواح أفراد فرقته وهم جيشه، فما تلبث هذه الأرواح حتى تهب له ملبية، ولكنها قبل أن تبدأ الهجوم تستشير فيما بينها إن بالكلام وإن بالصمت عن موضع الضعف الذي يمكنها منه أن تبدأ الغزو فإذا لمست في الغريم ألماً وشجواً أرسلت إليه الحنين (سيكا) وإذا أحست منه استعصاء وصلابة رققته بالحجاز، حتى إذا ما اتفقت على مدخل روحه من أين هو، أرسل المغني وهو القائد أول رائد من رواده يناوش الغريم فإذا هي تقسيمات من الكمان أو القانون، هذه التقسيمات ليست إلا ومضات من الروح تعرض على السامعين وعلى رأسهم السامع المقصود بالذات، وهو كما علمنا من البدء معشوق للمغني بالفعل أو بالقوة، فبينه وبين المغني وأفراد جيشه وشهوده تلاؤم وتعارف مستكنان، وود متحفز للانطلاق، فإذا لم يقو على إطلاقه الرائد الأول بالكمان، استثاره الرائد الثاني بالقانون، فإذا لم يقو عليه هذا أيضاً نكثه الثالث بالعود، ثم كان البشرف كالنفير الذي ينفخ فيه نداء وتحفيزاً، ثم كان التوشيح كالمارش الذي يعزفه الجيش في أول الهجوم، ثم يبدأ المغني بعد ذلك يسدد طعناته طعنة في كل (ليل) يهتف بها، وفي كل (آهة) ولكل ليل معنى يتضمنه نغمها، ولكل آهة رجع مبثوث فيها، وليست هي أشكال صوتية صماء من المعنى والروح كهذه الآهات والليالي التي نسمعها اليوم فلا نعرف إن كان فيها فرح، أو كان فيها يأس، أو كان فيها رضا، أو كان فيها هم أو كان فيها غم

ويبدأ الهدف الحلو يضعف وينساق، ويبدأ المغني يعلو ويتمكن، ويجر الهدف الحلو وراءه تابعاً، ثم تابعاً وأفراد الفرقة والشهود يجذبون هم أيضاً الأتباع أفواجاً أفواجاً. . . حتى يشعر المغني بأنه لم يعد يتحرج ولم يعد يخجل من أن يكشف نفسه لأمة لا لفرد، فكل عيوب نفسه الآن فضائل ما دامت لها أصداء في نفوس الناس جميعاً وما دام هو وحده القادر على نثرها مستطابة مشتهاة. . . لا يقصد منها قضاء الوقت، ولا تحصيل الأجر، فما خلف واحد من هؤلاء ثروة. . .

عندئذ وعندما تكمل له السيطرة على هذا النحو يقال إنه تسلطن، وهو في الحق تسلطن على كل من في حضرته فما ينفذ من سلطنته إنس ولا جان. . . إلا لسلطان

وهذه حال لا يشبهها إلا حال الشيخ أو الأمام مع أتباعه. . .

ولكن أي إمام؟. . . إمام من غير المحترفين. . . قلبه يعرف الله. . .

عزيز احمد فهمي