مجلة الرسالة/العدد 389/مختار الصحاح
مجلة الرسالة/العدد 389/مختار الصحاح
وقيمة العناية به
للأستاذ حسن السندوبي
يحلو لمشيخة في وزارة المعارف، بلغوا فيها بمضي الزمن المراتب ذات الألقاب الملحوظة، أن يشيروا على الوزارة بطبع بعض كتب المتقدمين ليضعوا عليها أسمائهم بعد أن ينظروا فيها ويقوموا أودها ويصححوا أغاليطها، وأن يكون من ذوي الشأن في الوزارة المبادرة إلى إجابة طلبهم مع منحهم الأجر الحسن، وإخراج تلك الكتب في معرض من الطبع الجميل.
وقد قام بعضهم بمراجعة طائفة من هاتيك الكتب وتصحيحها ونالوا أمنيتهم في وضع أسمائهم عليها بعد أن استولوا على المكافأة المرضية والثناء الحسن. غير أن الكثير من هذه الكتب قد صدر دون أن يكون حظها بالقائمين عليها مقارناً للتوفيق، ودون أن يكون القائمون عليها قد أدوا الأمانة العلمية، فلم يحسبوا أن إبلاغ الإخلاف تراث الأسلاف خالياً من الشوائب بريئاً من المعايب، من أفضل الخلائق الكريمة.
وحسب القارئ أن يعلم أن من هذه الكتب كتاب (مختار الصحاح) فقد أصدرته وزارة المعارف بعناية بعض رجالها فجاء عيبة الأغاليط وجعبة الأباطيل. لم يعن فيه العناية الكافية في قيد الكثير من كلماته حتى تصحف منها ما تصحف، وتحرف من عباراته ما تحرف. وإذا علمت أنه كتاب لا يستغني عنه طالب، وكثيراً ما يفتقر إليه الدارس، علمت أي جناية تجنى على اللغة العربية تحت سمع وزارة المعارف وبصرها. وما ظنك بكتاب هو عدة المعلم وعمدة المتعلم في تحرير الكلمات، وضبط الألفاظ اللغوية، يخرج إلى الناس في هذا التشويه والإهمال! ولا يكون همّ القائمين عليه إلا الإسراع في عرضه بالطبع لينساب المال إلى جيوبهم دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة المراجعة والمعارضة، أو يتمثلوا بشيء من مثل التقوى في العمل والإخلاص في حسن القصد!
تفضل صديقي العلامة الأستاذ أحمد العوامري بك بإهدائي نسخة من هذا الكتاب في طبعته الرابعة لسنة 1938، وقد كتب عليها بالطبع أنه عنى بتصحيحها وتنقيحها وإكمال ضبطها وتعليق بعض حواشيها سنة 1916، أي منذ أربع وعشرين سنة، وهو إذ ذاك في سن القوة وعهد الفتوة. والظاهر أنه لم يراجع طبعات الكتاب منذ ذلك التاريخ، ولذلك شاع فيه التحريف، وعمه التصحيف. وأعجب من هذا ما علمته من أن وزارة المعارف، لكي تيسر إعادة طبعه المرة بعد المرة، قد كلفت بعض الصناع بحفر صفحاته في رواشم (كليشيهات) زنك!!
وقبل عرض أمثلة من أغاليط هذه الطبعة من الكتاب، يحسن أن أعرض كلمة ألخص فيها التعريف بمؤلفه عن كتاب لي أضعه الآن في تاريخ المعجمات العربية ومؤلفيها، وهذه الترجمة لا أعلم أنها نشرت بمصر إلى الآن:
قال صدر الدين القونوي المتوفى سنة 673 هـ - 1874م: الشيخ العالم العامل الفاضل سيد العلماء، قدوة الفضلاء، محيي السنة، ناصر الشرعية، زين الدين أبو عبد الله محمد بن شمس الدين أبي بكر بن عبد القادر الرازي. جاء إلى مصر وأقام بها زمناً، وجال في ربوعها وأخذ عن بعض مشايخها، وأخذ عنه بعض طلبتها. وذكر المقريزي أنه وصف بركة الحبش التي بالقاهرة بهذين البيتين من الشعر:
إذا زين الحسناء قرط فهذه ... يزينها من كل ناحية قرط
ترقرق فيها أدمع الطل غدوة ... فقلت لآل قد تضمنها قرط
وهو من شعر العلماء الذي لا يعرج عليه الأدباء. ومن الغريب أن السيوطي لم يذكره فيمن وفد على مصر من العلماء أو من الأدباء أو من الحنفية. ثم ذهب إلى الشام وطوف في أنحائها، ومنها دخل بلاد الأناضول وأقام في قونية وبها صحب الشيخ العالم المحقق صدر الدين القونوي وعليه سمع كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير الجزري الموصلي إلى سنة 666 والظاهر أنه توفي أواخر القرن السابع.
وقد ترك من المؤلفات: شرح مقامات الحريري، والذهب الإبريز في تفسير الكتاب العزيز، وتحفة الملوك والسلاطين في الفروع، وحدائق الحقائق في الأخلاق والمواعظ، وأنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، والأبيات التي يتمثل بها في الأدب، وروضة الفصاحة في علم البيان، وضعه باسم السلطان المؤيد المنصور نجم الدين أبي الفتح غازي بن قرا أرسلان الأرتقي صاحب ماردين المتولي سنة 691 والمتوفى 712. ومختار الصحاح الذي نحن بصدد من شأنه، اختصر فيه صحاح الجوهري ووضعه على ترتيبه وضم إليه الكثير من الفوائد أخذها عن التهذيب للأزهري، وديوان الأدب للفارابي، والمجمل لابن فارس، والمصادر للبيهقي، والمفصل للزمخشري، والفصيح لثعلب، والمغرب للمطرزي، والغريب لأبي عبيد، والغربيين وشرحهما للهروي وقد كتب بخطه في نسخته من المختار، بعد استشهاده بهذا البيت:
ألا يا أسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
يقول: تم الكتاب المسمى مختار الصحاح بعون الله وحسن توفيقه على يد مؤلفه وكاتبه بيده محمد بن أبي بكر الرازي عفا الله عنه وغفر له ولجميع المسلمين، ووافق فراغه عشية يوم الخميس غرة شهر رمضان المبارك ليلة الجمعة الغراء سنة 660 الخ.
هذا، وفي المقال التالي نعرض إن شاء الله لذكر أمثلة من الأغاليط التي أشرنا إليها فيما سبق.
حسن السندوبي