مجلة الرسالة/العدد 389/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
مجلة الرسالة/العدد 389/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
(الأيام) لطه حسين
للدكتور زكي مبارك
- 6 -
جواب
دعانا الأديب محمد متولي عوف إلى الإسراع بالكتابة عن (تحرير المرأة) و (ديوان إسماعيل صبري)، وأجيب بأن عند (الرسالة) بحثين جيدين: صدر أولهما عن أحد المفتشين، وصدر ثانيهما عن أحد المدرسين. فإن وجدتُ ما يوجب الكلام عن هذين الكتابين بعد أن تنشر (الرسالة) ما ورد إليها في درس أفكار قاسم أمين وأشعار إسماعيل صبري، فسأعقِّب على ذلك الدرس بما يكمل الصور الأدبية والاجتماعية لموضوعات هذه السلسلة من الدروس، والله هو الموفق.
كتاب (الأيام)
هو قصة واقعية لحياة الدكتور طه حسين في طفولته وصباه، وهو يقع في جزأين لطيفين، بالقِطع الصغير، والمقرر هو الجزء الأول، ولكن النظر في الجزء الثاني واجب، لأنه يكمّل فكرة الطالب عن هذا النوع من القَصص الطريف؛ ويطلب الجزء الأول من لجنة التأليف والترجمة والنشر، أما الجزء الثاني فيطلب من مكتبة المعارف، وثمن الجزء عشرة قروش.
تاريخ (الأيام)
ولهذه الأيام تاريخ لم يُنشر من قبل، فمن الخير أن نشير إليه في سطور، لأنه تاريخ مجهول، ولأنه يصوّر كيف رجع الدكتور طه إلى ألفاف ماضيه لينشر منه صفحات تسير مسير الأمثال من حيث لا يقصد ولا يريد.
في مطلع الربيع من سنة 1926 ثار الأزهريون وتبعهم فريق من النواب على الدكتور طه حسين لآرائه (في الشعر الجاهلي) واشتدت الثورة ثم اشتدت، حتى كادت تزلزل مكانه ف الجامعة المصرية.
كنا في ذلك الوقت صديقين، وكنا نلتقي في كل صباح وفي كل مساء، لإعداد ما نُلقي من الدروس بكلية الآداب، وللنظر في صد الجمهور عن الثورة على آراء أدبية لم تصل إليه إلا وهي محرَّفة بعض التحريف، وإن كان فيها ما يَشُوك رجال الدين.
ظهرت بوادر الثورة في جريدة كوكب الشرق، ثم انتقلت إلى جريدة الأهرام، وكان الشر كل الشر أن تنتقل إلى جريدة الأهرام، لأنها جريدة موسومة بالرزانة والعقل، ولا يُطعن فيها على الرجال إلا حين تصبح أقدارهم أهلاً للتجريح والتزييف.
وقد انزعج الدكتور طه من حملة الأهرام أشد الانزعاج، ولم يعرف كيف يجيب، مع أنه من أقدر الناس على اللجاجة والجدال.
وكان الشيخ محمد عبد المطلب، طيب الله ثراه، بطل الحملة (الأهرامية)، فكتبتُ في الرد عليه مقالاً ضاق به صدر الأستاذ داود بركات - رحمه الله - ورجاني أن أؤجل نشره على أن يقف حملة الشيخ عبد المطلب، فصممت على أن ينشر مقالي، وله بعد ذلك أن يفعل بهجوم الشيخ عبد المطلب ما يشاء!
وظهر مقالي في صدر الأهرام، ورأى فيه الدكتور طه انتصافاً من خصمه العنيد، وشكر صنيعي بكلمات تدل على مبلغ ارتياحه لدفع قالة السوء عن مركزه المهدد في ذلك الحين.
وفي اليوم التالي حدثني الدكتور طه بعبارة حزينة أن مقالي في الدفاع عنه لم يقع من بعض المقامات موقع القبول، لأني مدرس في الجامعة المصرية، ولأن دفاعي عنه يصور الجامعة بصورة الإصرار على ما في الكتاب المغضوب عليه من مذاهب وآراء.
فما تلك المقامات؟
كان الدكتور طه في ذلك الوقت مسنوداً بثلاثة رجال: عدلي يكن وعبد الخالق ثروت ولطفي السيد. وكان هؤلاء الرجال يريدون أن تمرّ العاصفة بسلام، ولا يتمَّ ذلك إلا إذا سكت طه حسين وأصدقاء طه حسين عن دفع العُدوان بالعدوان.
وكذلك قررت أن أدفع عنه شر خصومه في جريدة المقطم بدون إمضاء لئلا تغضب تلك (المقامات).
وهنا يجيء الشاهد: قضى الدكتور طه بقايا العام الدراسي بحنق وغيظ، فقد كانت الجرائد الوفدية تنوشه في كل وقت، وكانت المجلات الدينية تسوق إليه التهم الجوارح بلا حساب؛ ولا يملك الدفاع عن نفسه بحرفٍ واحد، وهو الرجل العِرِّيض الذي قضى صدر شبابه في التلهي بعداوات الرجال.
فماذا يصنع؟
رحل إلى فرنسا مع الصيف ليتناسى كروبه الداجية في ربوعها الفِيح!
وهنالك خطر له أن يُملي أشياء بعيدة كل البعد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين؛ فكانت تلك الأمالي وهي تاريخ طفولته بلا تزيين ولا تهويل.
وفي صباح يوم من أيام الخريف في سنة 1926 عرفت من الدكتور طه أنه كتب مذكرات عن حداثته، وأنه قدمها للأستاذ عبد الحميد العبادي ليطمئن إلى أنها مما تجوز إذاعته بين الناس.
وفي صباح يوم آخر حضر الأستاذ العبادي ومعه أصول المذكرات، وهو يقترح أن تحذف الفقرة الخاصة بالضريرة نفيسة؛ فلم ير الدكتور طه أن تحذف.
وفي ليلة شاتية جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث، فسألته عن موضوع تلك المذكرات، فوقف وقفة الخطيب المكروب وقصّ عليّ قصته يوم بدا له أن ينقل اللقمة إلى فيه بيديه الاثنتين، وكيف ضحك اخوته وبكتْ أمه وانزعج أبوه. فعرفت أن تلك المذكرات سيكون لها في تاريخ الأدب مكان.
ثم نَقل الحديث إلى شؤون الجامعة المصرية وإلى المصير المحتوم في مصر لحرية الفكر والرأي، وما نقل الحديث إلى هذا الميدان إلا ليهرب من مكاره تلك الذكريات.
مواهب طه حسين
هذا الرجل موهوب بلا جدال، ولكنه قليل الصبر على تكاليف المواهب، فهو يسطَع في اللمحة الأولى ثم يجنح إلى الأفول.
ترجَم لأبي العلاء فأفلح، ثم ترجَم للمتنبي فأخفق، لأنه لم يصحب المتنبي بقدر ما صحب أبا العلاء.
وأخرج الجزء الأول من الأيام فكان أعجوبة، ثم فتر في الجزء الثاني.
والجزء الأول من (هامش السيرة) سِفرٌ نفيس، أما الجزء الثاني فهو أيضاً (سِفرٌ نفيس).
وكان أستاذاً في الجامعة المصرية القديمة، أستاذاً عظيماً، أستاذاً يملك القدرة على إسقاط زكي مبارك في امتحانات الليسانس مرتين؛ أما في الجامعة المصرية الجديدة فهو أستاذ هيوب يستر كسله الجميل بالتغاضي عن ضعف الطلاب.
وأمره في الصداقة أعجب من العجب، فهو يؤاخيك ويصافيك إلى أن تظن أنه قطعة من قلبك، ثم يتحوّل في مثل ومضة البرق إلى عدوّ مُبِين.
وهو على الرغم من ضعفه عن الاضطلاع بتكاليف المواهب رجلٌ جذَّاب، لأنه معسول الحديث، ولأنه قد يصدُق في الحب وفي البغض، إلا أن تهديه حاسة النفع إلى أن يعادي من يصادق ويصالح من يعادي، كالذي صنع في طوافه بأركان الأحزاب.
ويشهد الدكتور طه على نفسه بأنه ضرير، وذلك فنٌّ من الإعلان، فقد صحبته نحو عشر سنين ولم أتنبه إلى أنه ضرير. وكيف أصدِّق دعواه وما رأيت رجلاً أرشق منه في تناول الشؤون التي يتناولها المبصرون؟
كنا نخرج من الجامعة المصرية حين كانت في قصر الزعفران فنثب إلى (المترو) بعد أن يتحرك ولا يشعر أحد بأنني أصاحب رجلاً من المكفوفين.
ومن يصدِّق أني لم أفكر في حلق ذقني بيديّ إلا بعد أن رأيته يحلق ذقنه بيديه؟
وهو يمشي بقامة منصوبة تزري برشاقة الرمح المسنون.
وهو - لتوهمه أنه ضرير - يحاول التأثير باللسان حين فاته التأثير بعينيه، ومن أجل هذا نراه أعجوبة الأعاجيب في إبراز مخارج الحروف.
ولشعوره بأن لسانه مصدر قوته يلح في الحديث وفي الإملاء إلحاحاً يترك سامعيه وقارئيه على أهبة الاقتناع بما يُملي وبما يقول.
وخلاصة القول أن طه حسين هو طه حسين، هو الرجل الذي استطاع أن يقيم البراهين على أنه من أقطاب الأدب في هذا الزمان.
ولو كنت أصدق أنه أعمى لكففت عنه قلمي، ولكني واثق بأنه مبصر، وبأنه أستاذ قدير، ومفكر حصيف، وأديب موهوب، وأنا لا أكف قلمي إلا عن الضعفاء.
وما قلت إنه أعمى إلا لأن درس اليوم يوجب ذلك، فليتناس هذه العُنجُهية القلمية، فما كنت ولن أكون إلا أعرف الناس بواجب الذوق.
وإن استطال ناس على الدكتور طه بقواهم البصرية، فلن يستطيعوا الاستطالة عليه بقوى الفهم والذكاء، وإنه لشاهد على أن الله يؤتي الحكمة من يشاء.
أسرار كتاب (الأيام)
حدثني الدكتور طه بك أنه ينتظر رأيي في كتاب (الأيام) عساه يعرف كيف فتن به الناس حتى جاز له أن يترجم إلى عدة لغات في بضع سنين.
وكلام الدكتور طه في هذه القضية ليس من التواضع المصنوع، فمن المحتمل أن تغيب عنه قيمة هذا الكتاب الطريف، لأنه بالنسبة إليه غير طريف، وإنما تظهر طرافته للمبصرين، لأنه يطلعهم على آفاق من حَيَوات العميان قد تكون عند أكثرهم من المجاهيل.
ويزيد في طرافة هذه الاعترافات أن بعضها معيب، فصدورُها من رجل مثل طه حسين يشهد بأنه فنان يقيم فنه على قواعد من الصراحة والصدق، وإلا فما الذي يضطر رجلاً في مثل مركزه إلى أن يعترف بأنه كان في طفولته يجلس من أبيه ومن سُمَّاره مَزْجَر الكلب؟ وما الذي يقهره على التصريح بأنه كان يرى الدنيا بيديه فيعبث بالنعال الموضوعة حول دكة معلم الأطفال، ثم يمعن في تقليبها واختبارها حتى يعرف بالضبط عدد ما فيها من خروق ورقوع؟ وما الذي يحوجه إلى النص على أن ذمته كانت اتسعت كما اتسعت ذمة (العريف)، وأنه كان يرشو ويرتشي بلا تحرج ولا استحياء؟
وكيف يجوز لرجل أن يهجو اخوته، وأن يعرض بجَده وبأبويه، إلا أن يكون رجلاً سما بعقله وفنه عما في المجتمع من تصنع ورياء؟
يشهد طه حسين بأنه كان يستغفل أباه في بعض الظروف، ويشهد بأن المكاره التي عاناها في طفولته وفي صباه أورثته ألواناً من الاضطراب والخبال، فهل تصدر هذه الشهادة عن رجل يستر ضعفه بتناسي ماضيه؟ أم هي حجة على أنه أكبر من أن ينكر ذلك الماضي البغيض؟
طفولة طه حسين كما صورها بنفسه لم تكن طفولة مهذبة الحواشي، ولكن من الذي يزعم أن الأطفال ينشئون مبرَّئين من الهنوات والعيوب؟
الطفل في نشأته ضعيف، وهو لضعفه يداور ويماري ويحتال، فليس من الغريب أن يلجأ طه حسين طفلاً إلى المراوغة والمماراة والاحتيال.
وهنا يظهر صدق طه حسين، فقد حدث عن نفسه أنه كان في طفولته سريع النسيان، وأنه لذلك قاسى مكاره الخجل والكسوف بضع مرات، ولو أنه أخبرنا أنه كان يحفظ كل ما يسمع، وأنه لم ينس أبداً ما كان يحفظ، لما كان في ذلك شبهة من تزيُّد أو إسراف، لأن سرعة الحفظ لا تُستَغرب من العُميان، ولكن طه حسين سما بفنه سمواً هو الغاية في الإخلاص للصراحة والصدق، وهما الدعامة الأصيلة للأدب الرفيع.
طه حسين أعمى، فيما يزعم، وهو كثير المزاعم، والأعمى يرى الدنيا بأذنيه ويديه، أما أذناه فهما طويلتان، وقد حدثنا أنه كان يمدهما مداً ليزيدهما طولاً إلى طول، عساه يستوعب ما يدور حواليه من أقوال وأخبار وأقاصيص. وأما يداه فقد قويت فيهما عضلات اللمس إلى أبعد الحدود، ألم يحدثنا أنه كان يعرف الناس بنعالهم لكثرة تقليبه في النعال؟
وخلاصة القول أن الدكتور طه قد التزم الصدق التزاماً تاماً في كتاب الأيام، وكان من آثار ذلك الصدق أن يأسر جميع من قرءوا مذكراته عن طفولته وصباه، لأن الصدق خُلقُ نفيس، وهو يزيد الأديب جلالاً إلى جلال.
يضاف إلى ذلك أن صدقه يوجب العطف عليه، ويحوّل شانئيه إلى أنصار أوفياء.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أُلاحق الفكرة التي تدور في خاطري عن كتاب الأيام، وهي تنفر وتَشرُد، فمتى أقتنص تلك الفكرة وهي نَفورٌ شرود؟
لعلي أريد القول بأن طه حسين رجلاً قد نسى أنه مسؤول عن طه حسين طفلاً، فهو يشرِّح أوهامه وآثامه بلا ترفق ولا استبقاء، وهو يتجنى عليه كما يتجنى على خصومه الألدّاء.
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يقيم الدليل على أنه يملك السيطرة على هواه حين يريد، وهل من هواه أن يَسخر بماضيه وأن يعترف بأنه كان نفعياً في طفولته وصباه؟
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد انسلخ عن ماضيه كل الانسلاخ، ولم يعد يخشى أن يقال إن طه حسين الرجل ليس إلا صورة من طه حسين الطفل، وإن بقيت في وجهه وعقله وروحه ندوب من معارك ذلك العهد السحيق.
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يدلل ويبرهن على أن الأشجار البواسق لم تكن في الحداثة إلا أعواداً أماليد لا تأمن شر العواصف إلا بالانحناء والسجود.
لعلي أريد القول بأن طه حسين من أساتذة الأخلاق، فهو يقصد إلى إفهام الشبان أن العظيم لم ينشأ عظيما، وإنما عظُم بفضل الصبر على متاعب الجهاد، ومن حق طه حسين أن يتسامى إلى الأستاذية في الأخلاق، وهو بذلك التسامي خليق، فقد سمعت أنه أحرص الناس على رعاية واجبات الوفاء.
لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد أن يخرج على نفسه مرةً واحدة فيشهد على نفسه بأشياء لا يعترف بها الرجل إلا وهو عارمٌ عَصوف.
لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد محاكاة جان جاك روسُّو وأناطول فرانس، وقد فاتته صراحة روسُّو وعذوبة فرانس، لأنه طوى أهواءه الجنسية، ولأنه نسى أن الهيام بالجَمال أشرف من الهيام بالنعال.
لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد أن يُفهمنا أنه طه حسين وتلك خدمة لن ينساها تاريخ الأدب الحديث.
صور المجتمع المصري في كتاب الأيام
كنت قضيت عاماً أو يزيد على استخلاص الصور التي رسمها الشعراني عن مصر في القرن العاشر، وهي الصور التي سجلتُها في كتاب (التصوف الإسلامي) والتي نهبها بعض الناهبين بكلية الآداب، يوم كان كتابي محفوظاً في تلك الكلية وهو مخطوط يأخذ عنه من شاء ما شاء، وعند الله جزائي، فما رُعِيَ لي عهد، ولا حُفظ لي جميل.
واهتمامي بتسجيل صور المجتمع المصري في القرن العاشر وأنا أدرس مؤلفات الشعراني جعلني أحرص الناس على تقييد ما سجل صاحب العزة الدكتور طه حسين بك من صور المجتمع المصري في القرن الرابع عشر، وهي صورٌ روائع، لأنها منقولة بأمانة ونزاهة وصدق. ويزيد في قيمة هذه الصور أنها أمست على شفا الانقراض، ولو رجع الدكتور طه إلى مسقط رأسه لعرف أنها أسقطت في غيابة التاريخ.
فعلى طلبة السنة التوجيهية أن يتأملوا تلك الصور، وأن يوازنوا بينها وبين ما يعرفون من أوهام العوامّ في الحواضر والأرياف، لأن في بعض أوهام العوام صوراً شعرية، ولأن خرافات اليوم لها نسبٌ صحيح إلى عهد الفراعين. . . وما أحب أن أزيد! انتقال مزعج
تمضى في قراءة (الأيام) وأنت لاهٍ عابث، لأن الكاتب لاهٍ عابث، ثم تصطدم فجأةً بانتقال مزعج، هو الصورة المروعة لإحساس أبويه بقسوة الثُّكل في يوم عيد، وما تكاد تفرغ من الجزع لهذه الصورة حتى يفاجئك بصورة أعنف وأفظع، هي صورة أخيه الذي مات وهو مطعون.
فلو قلتَ إن الصفحات التي صوَّر بها طه حسين أحزانه وأحزان أهله لهاتين الفاجعتين تُعَدّ من أروع ما صوّرت به المآسي الإنسانية لكنت قريباً من الصواب.
وطه حسين في هذه الصفحات كاتبٌ قدير، لأنه يفجِّر الدمع في جوامد الشئون، ولقد هممت بأن أرسل إليه برقية عزاء، مع أن الأعوام التي مضت على هاتين الفاجعتين كادت تشارف الأربعين.
أما حديثه مع ابنته وهو يقص أخبار (أوديب) بعد أن فقأ عينيه، فهو حديثٌ يذيب لفائف القلوب، ومن واجب الدكتور طه نحو القَدَر المكتوب أن يذكر أن الله ترفق به كل الترفق، فجعله رجلاً من أكابر الرجال.
جلسنا مرة نسمُر بداره يوم كان يقيم بمصر الجديدة فأطلعته على خبر لطيف في جريدة (لابورس)، خبر يبشر بأن أحد الأطباء قد اهتدى إلى علاج يرتدّ به العميان مبصرين، فهتفت زوجته: (إن صحَّ ذلك فسأبيع آخر قميص لأردَّ إليك بصرك، يا طه!)
وأغلب الظن أن الدهر سيبخل على الدكتور طه بالعودة المنشودة لنور عينيه، وسيبخل على مدام طه بلذة البيع المنشود لآخر قميص، ولكن العمى لن يمنع الدكتور طه من التبريز في كثير من الميادين.
ولعل لله حكمة فيما وقع، فالدكتور طه هو حجتنا على أن مصر أخصب البلاد، وإلا فأين العميان الذين استطاعوا ما استطاع في هذا الجيل؟ ولولا خوف الإسراف لقلت إنه أشجع من أبي العلاء، لأنه رفض أن يعيش رهين المحبَسين، ولأنه وهو أعمى قد مهَّد السبيل لمئات أو ألوف من المبصرين. وأستغفر الله من الإشارة إلى عَمَى الدكتور طه، فتلك أول إشارة تصدر عن قلمي، ولم تصدُر أبداً عن لساني، وإنما استوجبها البحث، والبحث قد يستبيح ما لا يباح.
الأسلوب
للدكتور طه أسلوبان، أسلوب حين يُملي، وأسلوب حين ينظم؛ أما أسلوبه حين يُملي فلا يخلو من ركاكة واضطراب لأنه رهين بما في الإملاء من سرعة وإبطاء، كالذي يكتب لمجلة الثقافة من أسبوع إلى أسبوع.
أما أسلوبه حين ينظم - وله أبحاث ينظمها نظماً - فهو آية في السلاسة والعُذوبة والصفاء، ومن هذا الفن أسلوبه في كتاب الأيام، وهو بهذا الأسلوب من أقدر الناس على التصوير والتلوين، وله ألفاظ وتعابير هي العَجب العُجاب.
أما بعد فهذا طه حسين، كما صور نفسه، وكما صوره قلمي، فإن كان أساء إلى نفسه بعض الإساءة فقد أحسنت إليه كل الإحسان، بلا منّ عليه، لأنه من كتَّابنا ومفكرينا، ولأنه عانى من الصراحة بعض ما أعاني.
والمهم هو أن ينظر الطلبة إلى كتابه كما نظرت إليه، فما كان كتاب الأيام ألفاظاً ضُمَّ بعضها إلى بعض، وإنما هو جروح أضيفت إلى جروح، هو دماء تفجر بها قلبٌ حزين، هو لوعةٌ دامية لرجل طال شقاؤه بالوجود، منذ اليوم الأول لشهوده الوجود.
لقد أبكاني طه حسين وهو يقص بعض مآسي طفولته وصباه، أبكاني وأنا خَصمٌ لدود، فكيف يصنع إذا نفض هموم صدره إلى رجل يحمل بين جنبيه قلب الصديق الشفيق.
زكي مبارك