مجلة الرسالة/العدد 39/آذار أغنية الربيع

مجلة الرسالة/العدد 39/آذار أغنية الربيع

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1934



(مهداة إلى سر شوقي)

لشاعر الشباب السوري أنور العطار

هَلمَّي انظري قٌبلاَتِ الربيع ... على مِعطفِ السَّهل والرَّابيَهْ

سَرَتْ في السموات أنفاسهُ ... فعطَّرَت الحقلَ والسَّاقيَهْ

وآذارُ يلعبُ فوقَ المروج ... كما تلعب الطِّفلةُ اللاهِيَةْ

يُعانقُها وهو جمُّ الحنين ... فتُغريه بالمقلة الرَّانِيهْ

ويلقي عليها وِشاحَ الخلود ... وألوانَهُ العذبةَ السَّابيهْ

ويَبعثُ فيها شُعاعَ الهوى ... فتهتزُ من وَهْجِهِ صابِيَهْ

تألَّقَتِ الأرضُ من وَشيْهِ ... فلم تَبْقَ زاويةٌ خاليَهْ

وقد زيَّنَ الغابُ أفياءه ... باحلى مَطارفِهِ الكاسيَهْ

خمائله من نسيج النعيم ... تأرَّجُ بالنَّفحدةِ الذاكيهْ

جِواءٌ من الطَّيْرِ طفَّاحَةٌ ... تُنغِّمُ رائحةً الذاكيهْ

كأنًّ النَّسيمَ أخو سَكْرةٍ ... تَعَايَا من الخمرةِ العانِيَهْ

تَعاشِيبُ ناهلةٌ بالطُّيُوبِ ... مَفضَّضةُ الثَّوْبِ والحاشيَهْ

كأنَّ على الأرضِ عُرْساً يُقامُ ... فتمشي إليه الدُنَا حابِيَهْ

تعالَتْ إلى الله أفراحُه ... تَمَايَدُ حافلةً حانَيهْ

وهبَّتْ مواكبُهُ الضاحكاتُ ... تجدَّدُ أعيادَها الباهيهْ

رياحينُها قد ملأنَ الفضاء ... ولم تخْلُ من عِطْرِها ناحيهْ

ففي الجِّو ذابت أغاني الطيور ... بهَيْنَمةِ النَّسمْةِ السَّاليهْ

وفي الحقل ثار ضجيجُ القطيع ... حنيناً لِزَمّارَة الرَّاعيهْ

تذوب من الحب أنغامُها ... فتخفت من ناره الصَّاليهْ

بَرَاها الهوى وطوت سَّره ... فبان من النغمة الفاشيهْ

فيالك عُرسا بهيَّ الإطار ... جديد الرُّؤَى والمنى الهانيهْ

هلَّمي افتحي كوة للربيع ... لنشرب فرحتهُ ثانيهْ فقد ملت الروح عبء الظلام ... وحنَّت إلى البسمة الضاحيهْ

أكان سجوُّكِ غير الرقادِ ... تغلغل في المقلة الساهيهْ

وأغفل بين شعاب الجفون ... تصاوير من مهجةٍ باكيهْ

يبين على صفحتيها الأنين ... وتخشعُ فيها الرُّؤَى جاثيهْ

توهجُ من ماسها في العيوُن ... روايات أحزانها الطاغيهْ

هلميِ اقرأي خافيات الحظوظ وما تضمرُ العيشةُ الباغيهْ

وَنُوحي على حُلُمُ مورِقٍ ... تبددَ في السكرةِ الغاشيهْ

سيمضي الشَّبابُ كأنْ لم يكُنْ ... سوى ذكرةٍ حُلوةٍ ساجيهْ

تُجددُ أحلامُهُ الغابرات ... وترجعُ نشوتهُ الماضيهْ

كأنَّ لهُ ملعباً سامراً ... تناستهُ أيامُهُ الخاليهْ

تَموجُ بأفيائه النُّعميَاَتُ ... وتلمعُ فيه المنى الغاليهْ

بَدَا والحياة على جانبيهِ ... تتيهُ بأحلامها الغاويهْ

محِفَّةُ آذارَ تلقي عليه ... أزَاهيرَها الثّرَّةَ الغانيهْ

تعاَلى نُوثَّق عهود الهوى ... ونسرُدْ حكاياتها النائيهْ

ونوقظْ لياليَها الغالياتِ ... ولولا الهوى لم تكن غاليهْ

أقاصيصُ ملء الرّبا والوِهادِ ... تناثْرنَ من أكبُدٍ شاكيهْ

ارِجْنَ وعَطَّرنَ هذا الفضاء ... كما تأرَجُ الزهرةُ الناميهْ

ولقِّنَ منه معاني الحياةِ ... وأدركن من دائه ماهيهْ

رُويدَكِ ولنْستمعْ سرَّهُ ... فأن له ألسُناً حاكيهْ

وإن له سِيرَاً جمةً ... تناقُلها الأنفُسُ الصاغيهْ

تعالى إلى الصدرِ تلقىْ به ... شكايات أضلاعه الحانيهْ

وأوجاعَ خافِقهِ المستهام ... وإرنانَ أفيائه الواهيهْ

فلا البثُّ يُهدئُ تَحنانَهُ ... فيرتاحَ من شجوهِ ثانيهْ

ولا الحبُّ يُوليه بعضَ المنى ... فيفرحَ بالمِنحة الراضيهْ

ويشدْوُ الأغاريد ضاحكةً ... فتحيا بها المهجُ الداميهْ ولما اقتسمنا دموعَ العيونِ ... تفردتُ بالدَّمعة القاسيهْ

فلا هي تسكنُ شِعب الجفونِ ... فتخفى ولا هي بالهاميهْ

أطلتِ رُنُوِّكِ نحو السماء ... وأطرقت راهبةً خاشيهْ

فهل تبحثين عن الغائبين ... ومن غاص في اللجة الطاميهْ

فرابتْكِ ضفَّة هذي الحياة ... وخِفْتِ من الضِّفَّة التاليهْ

فنُحتِ وصحتِ النجاةَ النجاة ... وأين النجاةُ من الهاويهْ

هنالك لا النور ضافي الجناح ... ولا الطير صادحة شاديهْ

خَلَتْ من بهارج هذا الوجود ... وأحلامه الحلوة الزاهيهْ

سوى موجةٍ من بنات السماء ... تحومُ بأرجائها عاريهْ

يُشِعُّ على جانبيْها الخلودُ ... وما ضَمَّ من صُوَرٍ ساميِهْ

كأن عليها إطارَ النَّعيم ... وغِبْطَتَهُ اللذَّةَ الشَّافِيَهْ

حنانَيْكِ لا تسبْحَي في الدموع ... ولا تَرْهبي الراحةَ النَّاجِيَهْ

فما إنْ تَقِي من إسارِ الرَّدَى ... إذا حُمَّ يومُ النوى واقِيَهْ

وليسَ تَرُدُّ عليكِ الدموعُ ... سوِى حزُقْةٍ مُرَّةٍ وارِيًهْ

ورُبَّتَ أُمْسيَّةٍ بَرَّةِ ... ترِفُّ بها الذِّكَرُ القَاصيَهْ

جلسْتُ على جَنَباتِ الغدير ... أُشَيِّعُ أموَاهَه الجاريهْ

أُرَدِّدُ أشعاريَ النَّائياتِ ... واستَقبلُ الفكَرَ الآتيهْ

وتشدُو الطيورُ أغاريدَها ... فألقطُ من فمِها القافيهْ

وَدِدْتُ من الغَيب كُلَّ الوداد ... لو أنيَّ لأشعارها راويهْ

ويُوحى المَساءُ إلى خاطري ... هوَاجسَ غامضةً خابيَه

موَشَّحَةً بِطُيُوفِ العَفَاءِ ... كأنَّ بها جِنَّةً بادِيَهْ

فأُصغِي إلى همْسِهِ المستَطَاب ... وأسمعُ ألحانَهُ الخافِيَهْ

أعُبُّ لذَاذاتِه الطَّافحاتِ ... وأكْرَعُ سَكْرَتَهُ الصَّافيهْ

وأنسى مَتاعبَ هذا الوجود ... وعِيشِتَه الوَحْشَةَ الجافيهْ

وغيبوبة مثل كهف النُّسور ... تضيع بها الأنفسُ الرائيهْ توشِّحُها مائجات الغيومِ ... وأطياف أجْنُحِهَا الضافيهْ

رقيتُ أعاليَها مُفْرَداً ... ورُوحيَ سَبَّاقة حاديهْ

وخَلَّفْتُ جسمي في الهامدات ... تُطيف به الصورُ الفانيهْ

وأطلتُ من فرجات الضباب ... على عالم الرمّم الباليهْ

تجردتُ من صفة الهالكين ... وَمُتعتُ بالصفة الباقيهْ

وقد غبتُ عني كأنْ لم أَكُن ... سوى نفحة سمحةٍ عاليهْ

وأنسيتُ أني ابنُ هذا التَّرابِ ... وَضجعته الُمَّرة الطاغيهْ

بكاءً على أملٍ لامعٍ ... تَطايَرَ في الفنية الصَّاحيهْ

وغلغل في عالم غامضٍ ... أمانيه ساخرةٌ هاذيهْ

هَلمي افتحي كوَّةً للضِّياءِ ... لننسى بها الكوَّةَ الدَّاجيهْ

فليس لنا أملٌ في الرَّبيع ... وَنفحته العذبة السَّاريهْ

وما العُمْرُ غيرُ ربيع الشبابِ ... ربيع الهوى والرُّؤى الوافيهْ

تجوسُ به الذكريات العذابُ ... وَيغمُرُهُ الحبُّ والعافيهْ

إذا طاحَت مسالي الوُجودِ ... وغابت مفاتنه الحاليهْ

وَصار إلى عالم موُحشٍ ... كصحراء خاليةٍ خاويهْ

أسيتُ لِعمرٍ تولى سناهُ ... كايماضة الشعلةِ الوانيهْ

فيا لك من عمرٍ ضائعٍ ... كما تُنثرُ الباقةُ الذاويهْ

هوى النجمُ من شرفات الحياة ... فأمست على إثرْه هاويهْ

. . . أفاتَك أني جمُّ الجروح ... أعيشُ على يَدِكِ الآسيهْ

فوليتِ عني وخلفتني ... احنُّ إلى الساعة القاضيهْ

. . . أموت وقيثارتي ما تزال ... تنوح على مهجتي الصاديهْ

أنور العطار