مجلة الرسالة/العدد 39/في الأدب الفرنسي

مجلة الرسالة/العدد 39/في الأدب الفرنسي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 04 - 1934



بيير كورني

للدكتور حسن صادق

حياته وعلاقاته ورواياته

نتحدث في هذا المقال عن عبقرية شعت في معاصريها الحرارة والنور، عن شعلة وهاجة فيها جمالوانسجام، وفي جوهرها هدى وسلام، عن مدرسة عالية تتعلم القلوب فيها السمو والشجاعة، وتتهيأ النفوس فيها للعفة والنبل والصفاء، عن مدرسة علمت الفرنسيين نفاسة الإرادة وبطولة الواجب وجمال التضحية. وسنجعل موضوع المقالات التالية عن عظماء الكتاب الفرنسيين في القرن السابع عشر وهم: بسكال ولاروشفو ولافونتين وموليير وراسين وبوسويه وفنلون ولابروبير وسان سيمون ومدام دي سفنييه.

إذا ولد ابن ملك دقت النواقيس وأطلقت المدافع إيذاناً بمولده، وفرض على الشعب أن يبتهج إن كان شقيا، أو بعث الفرح في نفسه إن كان مجدودا سعيداً. وإذا ولد عبقري، جهل الناس أمره ولم يعرف حقيقته إلا الله الذي يسم جبينه بطابع إلهي ويعين مهمته العالية بين البشر. وبعد أن تكشف العبقرية عن نفسها ويسود مجدها، يبحث الناس في ظروف مولدها وفي حوادث شبابها عن الإمارات العظيمة التي تدل على مستقبله. وكذلك ولد بيير كورني في 6 يونيو عام 1606 بمدينة وارن. ولم يسطع في ذلك اليوم نجم في السماء جديد أو يحدث على سطح الغبراء حادث خارق يعلن إلى الناس مجيء رجل عظيم.

أحبه والداه حباً شديداً، وربياه على التقوى والفضائل، ولم يجدا فيه ما يدلهما على أن اسمه سيكون يوما في شعفة المجد الفرنسي. وما بلغ اشده ادخله أبوه مدرسة يديرها الجوزيت فتلقى فيها تربية قوية صلبة وتعليما متينا. ولم ينس قط لهذه المدرسة الأثر الجميل الذي خلقته في نفسه الغضة. ثم أراد له أهله أن يكون من رجال القانون فكان، إرضاء لهم دون ان يشعر بميل إلى ما أصاروه إليه.

نال إجازة الحقوق في 18 يونيو عام 1624 وترافع أمام القضاء، ولكنه لم يصيب غير الفشل الممض لانه كان خجولايشعر في حضرة الناس باكتئاب بطني يغمز عليه الحيرة والاضطراب، ويسلط على لسانه الحبسة والحصر. وفجاة حدثت مصادفة سعيدة أظهرت عبقرية هذا المدره الصغير. كان له صديق عزيز عليه يحب فتاة، وقد طلب منه هذا الصديق أن يصحبه في زيارته لها فأجاب سؤله. ولما تكررت هذه الزيارة أدرك كورني أن الفتاة أخذت ترنو إليه دون صديقه، فكف عن زيارته لها لانه بالطبع وفي كريم. هذا الحادث دفعه إلى كتابة قصة مسرحية فكاهية سماها (ميليت) مستمدا قواعد الفن من نفسه وذوقه، ثم سافر إلى باريس وفي جيبه فصول القصة الخمسة، ولم يجرؤ على تقديمها لممثلي (بيت بورجوني) المهرة النابهين، وهو المسرح الوحيد الذي كان موجودا في ذلك العهد. فقدمها في تواضع إلى ممثلين مغمورين فقراء، كانوا يحاولون تكوين فرقة وإنشاء مسرح صغير في شارع (بتي بوربون).

مثلت هذه القصة في عام 1629 ودرت على المسرح الصغير رزقاً كبيراً. ولكن الجمهور الذي اعتاد رؤية القصص التمثيلية المقتبسة أو المنقولة عن (لوب دي فيجا) الأسباني وغيره والزاخرة بالدسائس والعقد، وجد قصة (ميليت) سهلة بسيطة طبيعية، ولم ير في مؤلفها شاعراً كبيراً.

ثم وضع كورني في عام 1632 قصة فكاهية أخرى اسماها (كليتاندر) وقال عنها بعد وضعها ان كل ما هو محتمل فيها الأسلوب ليس غير.

بعد هذه القصة يئس من الحصول على نجاح يرضيه في الكوميديا وشعر في الوقت نفسه بيقظة العبقرية التراجيدية في نفسه، فاستعار من (سنيكا) الحكيم الروماني موضوع قصة سماها (ميديه) أخرجها في عام 1635، فأصابت بعض النجاح ولفتت نظر ريشيليه الوزير الفرنسي المعروف، وكان هذا الوزير يتعشق المسرح والتأليف المسرحي واليه تنسب قصص أربع غيبت كلها في تضاعيف النسيان. ويقال انه لم يكتسب هذه القصص وإنما كان يضع خططها ويشرف على كتابتها.

وبهذه المناسبة نذكر أن مجد ريشيليه الأدبي هو في إنشاء مجمع العلماء (الأكاديمي فرانسيز): ففي عام 1629 اتفق جماعة من الأدباء على أن يجتمعوا مرة في الأسبوع عند أحدهم للبحث والمناقشة في الموضوعات الأدبية. هذه النواة المكونة بادئ ذي بدء من تسعة أشخاص، كبرت سريعا إذ انضم إليها أخصاء الكردينال ريشيليه. ثم اتصل خبرها بهذا الوزير فرأى في الحال بمهارة رجل الدولة الفائدة التي تجنى من إنشاء هيئة تضم رجال الادب، يجيزها أمر ملكي وتكون تحت رعايته، فيضع بذلك يده القوية على جميع العقول الكبيرة في فرنسا كما كاد يضعها على النبلاء والعظماء. وقد تم له ما أراد وصدر الأمر الملكي في عام 1635.

اتجه نظر ريشيليه إلى كورني كما قلنا، ورآه جديراً بالعمل معه في تصنيف قصصه المسرحية، فعرض عليه رغبته في الانضمام إلى (جماعة المؤلفين) وكانت مكونة من أربعة أشخاص يكتبون باسم الوزير. قبل كورني ذلك لانه شعر بالحاجة إلى عضد قوي يعبد له الطريق، واندمج في هذه العصبة الصغيرة، ولكنه كان حريصا على الاحتفاظ بكنوز عبقريته لنفسه.

وفي أحد الأيام طلب إليه الوزير أن يضع الفصل الثالث لإحدى قصصه وفقاً للخطة التي رسمها له فلم ويوافق كورني على هذه الخطة، ودهش الوزير من جراته واسترد منه شرف العمل معه، وقال عنه: (ليس فيه روح العمل برأي غيره!) أي ليس فيه روح الخضوع والذلة.

نالت هذه الصدمة من نفس كورني منالاً كبيراً فعاد إلى روان ليجد بين أحضان أسرته متلمسا من ألم الفشل، واعتزم العدول عن التأليف المسرحي وهجر الشعر. ثم قابله ذات يوم مصادفة كاتب سر قديم للملكة (ماري دي مدسيس) يسمى (شالون) فنصح له بأن يدرس بإمعان شديد المسرح الأسباني، ولفت نظره إلى موضوع (السد) وكان قد عولج في أغان وطنية إسبانية وفي قصتين من نوع التراجيدي: أحدهما (لدون جوان ديامانت) والأخرى (لجيلهم دي كاسترو).

قرأ كورني القصتين، وخلال غرابة التركيب وضعف الأسلوب استخلص حدثاً درامياً، ومواقف رائعة، وأفكار خلابة: استخلص من التراب تبراً نقياً، فوضع أول قصصه الخالدة وهي (السيد) المشهورة، اول درة في تاج المسرح الفرنسي في عام 1636.

وقد أثارت هذه القصة في نفس ريشيليه الغيرة والحسد، ولكن كورني تعزى بتصفيق الإعجاب الذي ناله من فرنسا كلها، وبلغ من نجاح هذه القصة أن اصبح الناس يقولون: هذا جميل كالسيد. وانتشرت هذه الجملة حتى عدت من الأمثال العامة. وقد سخر (بوالو) الشاعر والناقد الفرنسي في ذلك الوقت من حسد ريشيليهفقال: (عبثا يثور وزير على السيد، فكل باريس تنظر إلى شيمين بعيني رودريج (شيمين بطلة القصة ورودريج بطلها، وكان بينهما حب شديد رائع). ولكي يطفئ ريشيليه غلة حسده أوعز إلى مجمع العلماء ان يسفه القصة، فأعلن مكرها إن موضوع القصة تافه، وهذا مديح افلت من فم المجمع خلسة، لان كورني استطاع بعبقريته أن يجعل من الموضوع التافه قصة رائعة استدرت إعجاب الناس في عصره واستهوت نفوس الأجيال المتعاقبة.

وقال اكثر خصوم كورني لؤما إن الجمال الذي يعجب به الناس في القصة لا يد لكورني فيه، وإنما هو (لدى كاسترو) الأسباني. وقد نال هذا القول من نفس كورني اكثر مما نال منها رأي مجمع العلماء الذي دحضه وسحقه نجاح القصة في طول البلاد وعرضها. فبحث في التاريخ القديم عن موضوع يخلق منه قصة هامة، فعثر في (تيت ليف) المؤرخ الروماني المشهور على تاريخ الموقعة التي حدثت بين آل هوارس وآل كورياس. واخرج من هذا الموضوع قصته العظيمة (هوارس) في عام 1640. وفي السنة عينها اخرج قصة (سنا) أو رحمة أغسطوس التي نالت اكبر قسط من النجاح، وفي عام 1643 اخرج (بولكيت) و (بومييوس) و (الكذوب) وكلها قصص خالدة أبلغته قمة المجد والعظمة. وعقب قصة (السيد) منح الملك لويس الرابع عشر والد كورني لقب الشرف ووثائق النبل، ثم دخل الشاعر مجمع العلماء في عام 1647.

استمر بعد هذه القصص التي ذكرها والتي بنت مجده على أسس متينة، يصف القصص التمثيلية واخرج كثيرا منها، ولكنها لم تبلغ الدرجة العلية التي بلغتها القصص السابقة وفي عام 1652 اخرج للناس قصته (برتاريت) فلم تنجح.

اشتد عليه هذا الفشل الأليم وهو الشاعر الكبير الملحوظ المنزلة فلزم الصمت سبع سنوات قضاها في روان مع زوجه (وكان قد تزوج في عام 1641) وأولاده الثلاثة. ثم شاءت المصادفة أن يزور (موليير) الشاعر وفرقته روان ويمثلون فيها بعض كوميدياته. ولما شاهد كورني التمثيل انتعش في دخيلته الحنان إلى المسرح. فعاد إليه في عام 1659 أمام جيل جديد من النظارة بقصته (أوديب) فقوبلت مقابلة حسنة. ثم اخرج بعده عدة قصص ولكنها فشلت كلها. ويقال إن سبب الضعف الذي ظهر في قصصه الأخيرة يرجع إلى إفراطه في العمل وإجهاده القريحة والعجلة في التأليف، لانه كان في حاجة شديدة إلى المال بعد ما استنفذت تربية أولاده كل موارده المالية. ولكن الحقيقة انه كبر ومالت قوة ذهنه إلى الاضمحلال والركود. يدل على ذلك قوله: (شعري ذهب مع أسناني) نعم استطاع هذا الشعر أن يستريح بعد كثير من الآثار الخالدة التي تقص على القرون غرام رودريج وبطولة هوارس ورحمة أغسطوس واستشهاد وبوليكت. وفي الوقت الذي بدء فيه نجم كورني بالافول، كان نجم راسين يعلو ويسطع ويزدهي الناس إعجاباً وطرباً. وفي عام 1670 عرضت هنرييت أخت زوج لويس الرابع عشر على كورني ان يضع تاريخ (برينيس) في قصة تمثيلية. وكان راسين فيالخفاء يراجع هذا الموضوع وهي تعلم ذلك. وأخرج الشاعران القصة في وقت واحد فنجحت قصة راسين نجاحا كبيرا وسقطت قصة كورني سقوطا مروعاً وفي عام 1683 باع كورني منزله في روان إذ استبد به العسر. وكان لويس الرابع عشر قد قرر له معاشا سنويا قدره 2000 دينار بعد وساطة الشاعر شابلان ذي الحظوة لدى الملك. ودفع هذا المعاش بغير انتظام ثم الغي. وقد شعر (بوالو) بحالة كورني فقابل الملك ورجا منه أن يدفع المعاش للشاعر المسكين بانتظام فقبل رجاءه. ومن حسن حظه انه مات في ليلة أول أكتوبر عام 1684 بعد أن ذاق مرارة الفاقة في شيخوخته، والشقاء هو الفدية الضرورية للعبقرية.

وقد قام مجمع العلماء بنفقات دفنه، وكان مديره إذ ذاك القسيس (دي لافو) ولا تنتهي مدة عمله إلا في أواخر أكتوبر من ذلك العام. وجرت العادة ان يؤبن مدير المجمع، العضو الذي يموت. وكان راسين هو الذي سيعين مكان القسيس ولذلك حدثت بينهما مشادة إذ كان كلاهما يريد أن يحظى بهذا الشرف. وتمت الغلبة في النهاية للقسيس. ثم عين (توما كورني) عضواً في مجمع العلماء بعد موت شقيقه، فأهتبل راسين هذه الفرصة وأثنى أجمل الثناء على ذكرى منافسه العظيمة. وان خطبته في ذلك المقام لهي فخر لعبقرية الميت وكرم الحي. وسنذكر نبذة من هذه الخطبة القيمة عند الكلام عن حالة المسرح الفرنسي قبل كورني.

مكانته ومواهبه ومذهبه

كان حساد هذا الشاعر العظيم كثيرين. فلما مات لم يروا فيه غير الشاعر العبقري الذي خلق أروع القصص، وجاءهم بآيات في البلاغة بينات، ووضعوه في مكانة أعلى من المكانة التي كان يشغلها أيام مجده. ومن الغريب أن مدينة روان لم تقم تمثالا لأشهر أبنائها إلا في عام 1834!

وكان معاصروه من كبار الأدباء لا يستطيعون إنكار قوة ذهنه وعذوبة شعره ومتانة قصصه. ومنهم لابرويير وبوالو ومدام دي سيفنييه. وهذه كانت تصيح في كل مجلس قائلة: (ليحيى صديقنا القديم كورني! إن كتبه آثار أستاذ لا يجارى ولا يقلد! إنها الذوق السليم نفسه!). وكان هو نفسه يؤمن بعبقريته ويتحدث بها في عزة الرجولة وصراحة كريمة تفضل التواضع المصطنع الذي لا يخدع أحدا ولا يخفى ما وراءه من زهو خلق. وقد بقي وفيا لخلقه المزيج من البساطة والكرم والخجل والشجاعة والوداعة والسمو، حتى استوفى أنفاسه.

ونستطيع أن نقول أن كورني قلب كبير ونفس جميلة. والدليل القوي على ذلك هو ما تركه لنا من الآثار الجليلة، وكل العواطف السامية التي يجدها القارئ في قصصه، مصدرها قلبه ونفسه ليس غير.

كانت الأخلاق في عصره هابطة، والبطولة نادرة؛ فلما جاء عمل على إيصال القليل من حرارة الشعلة التي تحركه إلى خمود معاصريه، فتنبهت قلوبهم وهبت تخفق على توقيع ألحانه.

يقال دائما أن الشاعر لا يصور إلا معاصريه، وان كورني استمد موضوعاته من العادات والأخلاق التي كانت تحت بصره. هذه قاعدة صحيحة بالنسبة للاخرين، ولكنها لا تنطبق على كورني لانه كان يصور الناس كما يجب وكما لا يجب ان يكونوا، أي كان يصورهم على طراز نفسه العالية.

ومن يقرأ كتب هذا الشاعر يجد أن الرغبة في جعل الإرادة تتغلب على كل الصعاب والعقبات من عناصر البلاغة الخاصة بكورني، ويجد أن أبطاله سواء أكانوا يريدون قهر أنفسهم أم قهر غيرهم، يبذلون جهدهم في إقامة الدليل الذي يبرر إرادتهم وعملهم. وهم يشرحون حساسيتهم في شعر له نغمات الناي الساحرة، ويعبرون عن أرادتهم في لهجة خطابية. ولذلك يلذ لهم الحوار الطويل والمنطق السليم الذي يؤرث إرادتهم الخائرة، والبرهانات القاطعة التي تنتصر على ترددهم. وهم فوق ذلك وفي كثير من الأحايين يريدون ان تقر ضحاياهم أعمالهم وتوافق عليها. وكذلك نجد (رودريج) في قصة السيد يريد أن يجعل صاحبته (شيمين) تؤمن بأن قتل أبيها الكونت (دي جورماس) كان واجبا عليه. ونجد في قصة هوارس انه أراد أن يجعل (كورياس) يؤمن بان من واجبه قتله. وكذلك في (سنا) تحاول (راميلي) صاحبه (سنا) أن تجعل الإمبراطور (أغسطوس) يعتقد ان واجبها يأمرها بتدبير مؤامرة لاغتياله.

قلنا إن كورني كان عييا في حضرة الناس، ولكنه كان خطيبا بلسان أبطاله وفي كل قصة نجد ان الحوادث هي نتائج قرارات الأبطال ومشيئتهم. ففي هوارس وسنا مثلا لا يحدث حدث إلا برغبة أبطال القصة، فالإمبراطور أغسطوس بعد أن عرف إن صديقه سنا يأتمر به ليقتله كان في مقدوره إذا أراد، أن يعاقبه بدلا من الصفح عنه، فالإرادة في مسرح كورني هي نابض الحركة الوحيد، لانه كان يعتقد إننا في الحياة سادة حظوظنا. وهذا ما يجعل لهذا المسرح قيمة خلقية فريدة، وان جعل الفعل الدرامي معلقا على مشيئة الابطال، لهو في الحقيقة تخفيض لنصيب الظروف أي تبرئتها مما نتهمها به. وليس هذا حقيقة خالصة، ولكن كورني أراد بذلك أن يرغب الناس عن التواكل والاستسلام ويربي فيهم الاعتماد على الإرادة ولكي نحكم حكما صحيحا على كورني، يجب ان نضع نصب أعيننا دائما انه المؤسس الحقيقي للتراجيدي الفرنسية. كثير غيره جاءوا بعده، متزودين بدروسه ومنهاجه، فماثلوه أو بذوه، ولكنه بقى أستاذ هذا النوع. انه هو الذي ابتكر استعطافا جديدا يقوم لا على الفزع والشفقة، ولكن على الإعجاب، الإعجاب بالمواقف، والإعجاب بالخلق، والإعجاب ببطولة الواجب وروعة التضحية. وهو الذي حدد شكل التراجيدي الفرنسية وجعلها (قضية أخلاقية توضع بواسطة العرض، ثم تحصل المناقشة فيها بواسطة انقلابات الحال ثم تحل في الختام) وعبقريته هي التي جعلت الترجيدي تحليلا نفسيا لشهوة من الشهوات تتدرج في طريقها حتى تصل إلى العنف والحدة ثم إلى النتائج الأخيرة.

اثر كريني في التراجيديا والادب

كانت الترجيديا قبل كورني محاورات طويلة. وكان واضعوها يصورون الوالد والولد والزوج في ظروف شخصية خاصة محدودة. ولكن كورني صورهم بطريقة عامة أي صور المثل الأعلى للوالد والولد والزوج.

قال (سانت بيف) بحق (إن كورني هو الشاعر الجدير بأن يعاصر الفيلسوف (ديكارت). كان الفيلسوف يبرهن على وجوده بالفكر فيقول: (أني أفكر، إذن أنا كائن، وكان الشاعر يبرهن بالفكر على الحساسية المحركة والحياة، فكل شخص في قصصه يقول أني أفكر، إذن أنا شاعر حي).

وكل ما يعاب على كورني انه لم يصور المرأة في قصصه تصويرا طبيعيا. وذلك لانه لم يحب قط، ولم يسبر غور القلب النسوي، وكل أبطاله النساء لا تمت إلى الطبيعة إلا بصلة ضعيفة لانه خلقهن من إدراكه لا من تجربته وملاحظاته.

كان كل همه أن ينتج الإعجاب بالفضائل. وقد بلغ غايته بجعل الواجب يناضل الهوى ثم ينتصر عليه. أي انه بلغ غايته بتصوير البطولة احسن تصوير. وهذه الغاية أرغمته في بعض الأحايين على أن يبالغ في قوى أشخاصه ويعلو بهم فوق الضعف الإنساني ليحيلهم إلى أبطال.

وقد اعجب (فولتير) في القرن الثامن عشر بكورني إعجابا شديداً، حتى انه تبنى بنت أخته وزودها بمهر ثم زوجها. ونشر كتب كورني وشرحها، وقال في المقدمة: (الشرح الوحيد لكتب كورني يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات في اسفل كل صحيفة: جميل. جليل. إلاهي!).

وطبعي أن ينهض كورني بالمسرح الفرنسي لانه جاء في عصر زاهر مهيأ لهذا النهوض. إن المسرح من انفع وأنبل ما ابتكر العقل الإنساني لتهذيب العادات وصقل الخلق. لا يمكن أن يصل إلى كماله إلا عند ما تبلغ الجماعة نفسها قمة مدنيتها. ولهذا يتكون الفن الدرامي دائما في بطء بينما يظهر الشعر الحماسي والغنائي في طفولة الأمم بقوة اكثر مما يظهر في عصر نضجها. لان شعراء الملاحم والغناء يستطيعون أن يسلموا أنفسهم إلى جرأة عبقريتهم، وبهذه الجرأة يسبقون القرون. أما شعراء الدراما، ومهمتهم كما نعلم تهذيب الجماهير وإشعال الحماسة في نفوسهم، فأنهم مرغمون على أن يلائموا عبقريتهم مع عادات العصر الذي يعيشون فيه. ولذلك نرى أن الجماعة التي تبلغ شأوا بعيدا في المدينة، لا يشغل المسرح من أدبها إلا مكانا ثانويا. فإذا اقتربت من نضجها، اخذ المسرح مكانه في الصف الأول من مدرسة الإدراك. وهذا ما حدث في فرنسا في القرن السابع عشر، وما حدث في بلاد الإغريق قبل أن يأتيهم سفوكليس وأوربيدس واريستوفان واسنحيلوس. فقد كان للفرنسيين جودل وبايف وهاردي قبل ان يكون لهم كورني وموليير وراسيين.

وإلى القارئ نبذة من خطبة راسين التي استقبل بها (توما كورني) لما صار عضوا في مجمع العلماء تلخص رأي هذا الشاعر في حالة المسرح الفرنسي قبل كورني ورأيه في كورني نفسه: (أي اضطراب وأي شذوذ يسود المسرح قبل كورني! كان الذوق مفقودا ومعرفة الجمال المسرحي مجهولة. وكان الجهل المعيب يجمع بين المؤلفين والنظارة. وكانت جل الموضوعات تحمل سمة الهوس، وعارية من الصدق. وكانت الألفاظ نفسها اكثر قبحا من الحوادث. وخلاصة القول، إن قواعد الفن حتى قواعد النزاهة والأدب كانت فريسة الفتك والعدوان، في هذه الطفولة أو على الأرجح وسط هذا العماء الذي كان يخيم على الشعر الدرامي في بلادنا، جاء كورني. وبعد أن جاهد وناضل الذوق الدميم مزوداً بسلاح العبقرية ومعتزاً بقراءة القدامى، أظهر على المسرح العقل تحف به أبهة اللغة وروعة البيان، فطغى صوته على صوت منافسيه فأخفاه. ولما يئسوا من بلوغ مكانته عمدوا إلى تسفيه كتبه، وحاولوا أن ينالوا بالنقد الطائش من جدارته، ولكنهم فشلوا وحاق بهم مكرهم السيئ. السيد وسنا وهو راس، ملأت الأسماع وهزت أوتار النفوس وترجمت إلى عدة لغات، ستظل حية على مر العصور في أفواه الناس، كورني فن وقوة وبراعة، وخصوبة ونبل وعظمة).

هذا كلام راسين الذي كان ينافس سلفه، وهو قول حق. وعند ظهور كورني، كان قد مضى على الناس ما يزيد على مائة عام وهم يعالجون التفكير ويتألفون الشعر والنثر دون أن ينجحوا النجاح المرجو. وعبثا نهبوا مؤلفات الأقدمين ومسخوها، وعبثاً سرقوا من لوكريس وفرجيل وهوراس وسنيكا أو من الإيطاليين والأسبان. وعبثا انتحل كتاب النثر لأنفسهم من سيسرون وبلوطارخوس. ثم جاء كورني وديكارت فحررا اللغة والفكر الفرنسي من ربقة الإغريق والرومان، فهما أول من أعطى للأدب الفرنسي صبغته الخاصة وطابعه القومي. فالسيد و (رسالة في المنهج) لديكارت يعينان عهدا جديداً في تاريخ الأدب والفكر الفرنسي. فقد كسرا أغلال اللغة وكانت أسيرة في أطلال اللاتينية، وأنقذا الفكر من محنته وكان يريد ذلك ولا يستطيعه. وبفضلهما وجد في أوربا كلها بين كل الذين يقرأون ويكتبون أداة عامة جديدة للتفاهم. هي لغة ديكارت وعلى الأخص لغة كورني التي سادت من عام 1648 تحرير معاهدات التحالف والصلح، وأصبحت آخر الآمر اللغة الوحيدة تقريبا للأدب والفلسفة والعلم. وكما يفخر الرومان بان عصر أغسطوس انتج هوارس وفرجيل، كذلك يفخر الفرنسيون بان عصر لويس الرابع عشر اكبر ملك حكمهم، انتج اكبر شاعر لهم هو كورني.

ونختم هذا المقال بكلمة نابليون: (القصة التمثيلية تشعل النفس، وتسمو بالقلب، وتخلق دون ريب أبطالا. وإني اجهر بأن فرنسا تدين لكورني بجزء كبير من أعمالها المجيدة. إن القصص التمثيلية مدرسة عالية لعظماء الرجال، ومن واجب الملوك تشجيعها ونشرها. ولو كان كورني حيا في زمني لجعلته أميراً).

وما قيمة اللقب الرسمي في جانب اللقب الذي ناله من الشعب وهو كورني العظيم؟! ولماذا وهبه الشعب هذا اللقب؟ لانه جاءهم بقصته السيد، وهي الحب في اجمل اثوابه، وبقصته سنا، وهي السياسة في أسمى اشكالها، وبقصته بولكيت، وهي الدين في أروع مظاهره، والحب والسياسة والدين هي (ثالوث) القلب الإنساني.

حسن صادق