مجلة الرسالة/العدد 39/البؤساء
مجلة الرسالة/العدد 39/البؤساء
لفكتور هوجو
في سنة 1862 اخرج فكتور هوجو روايته الخالدة (البؤساء) وكان قد لبث مدى ثلاثين عاما يفكر في أن يكتب كتابا في صنوف البؤس التي يعانيها الشعب ويستجمع له شوارد نظرياته الأخلاقية والسياسية فلم ينضج مشروعه إلا بعد أعوام طويلة من التأمل والبحث، وكان مشروع كتابه الأول يتألف من أربعة أقسام بسيطة هي:
قصة قديس (وهو الراهب ميريل) وقصة رجل (وهو جان فالجان) وقصة امرأة (وهي فانتين) ثم قصة دمية (وهي كوزيت).
ونظم فكتور هوجو هذه الأقسام الأربعة في سلك رواية طويلة متناسقة ساحرة البيان والمعنى، تثير في كل موقف من مواقفها وكل صفحة من صفحاتها أسمى العواطف الانسانية، وتبعث فيه كوامن الإشفاق على جان فالجان الذي دفعه البؤس وحده إلى سرقة رغيف من الخبز، والذي ينبض فيه قلب رجل خير كريم مخلص، والإشفاق على فانتين تلك الفتاة المسكينة التي أغويت ثم نبذت والتي تبيع حتى شعرها وأسنانها لتطعم ابنتها، ولا تبيع شرفها إلا نزولا منها على حبها الأموي، والإشفاق على تلك الصغيرة المسكينة التي تعاني على يد أسرة تاردييه أمر ضروب الاضطهاد والذلة، ثم الإشفاق والحب نحو البؤساء والمساكين الذين يمثلهم القس ميريل، وصلابة الواجب الذي يفهم على غير وجهه في شخص الشرطي جافير.
وهيكل القصة الأولى مؤثر، فهو يتلخص في مكث جان فالجان بالمنفى وفي تحريره، وفي توبته وعيشته رجل خير محب للإنسانية في معمل الزجاج، ثم موت العاملة فانتين، ودخول ابنتها كوزيت في أسرة تاردييه، ثم قضية شان مايتو واتهام جان فالجان لنفسه وتسميه باسم مادلين، ثم أعادته إلى المنفي حيث يفر فيطارده الشرطي جافير ويلتجئ إلى محلة (بتي بكبيس). وتسير القصة بعد ذلك في نسق رواية بوليسية يتخذ معظم أشخاصها أسماء مستعارة وتكثر فيها المفاجئات الغريبة وتأخذ القارئ أخذا عنيفا بمواقفها الشائقة.
وقد عنى فكتور هوجو بأن يلزم جانب الحقيقة دائما في قصته وان يقدم فيها لقارئه أشخاصا حقيقين وأوصافا دقيقة، وحوادث معقولة، فأما القس ميريل فهو يمثل شخصية حقيقية عاشت وعرفها فكتور هوجو ودرسها منذ سنة 1829 وهي شخصية المونسنيور ميوليس أسقف (ديني). المونسنيور ميوليس قد آوى ذات يوم مجرما بائسا يدعى بيير موران وحمله على التوبة وانتهاج سبيل الخير. وقد وقعت معظم الحوادث التي يقصها فكتور هوجو حقيقة في أسقفية (ديني)، سنة 1806، وهي حوادث يلخصها الواعظ إنجيلان فيما يأتي: - (في ذات يوم من أيام سنة 1806، دخل بيير موران وهو مجرم افرج عنه، مدينة ديني نحو الساعة الخامسة مساء بعد أن قطع يومه سائراً، وكان في السادسة والعشرين من عمره، فلما رده جميع أصحاب الفنادق، وأنهكه الجوع والتعب، قصد بناء على نصح سيد عجوز، باب الأسقفية وطرق الباب طرقا عنيفاً، فلبث الأسقف هادئا، ونزلت خادمته روز شاحبة مضطربة وهي تقول - رباه! من ذا الذي يطرق بهذا العنف؟ ودخل بيير موران، ولم يكن في هيئته ما يطمئن؛ ومع ذلك فقد كان يبدو عليه الوجل والحيرة وعذاب المسبغة، وكان وجله يتعارض مع كتفيه العريضين ووجهه القوي، وكأنهم جبينه ينضح عرقا؛ فراعه محيا القس الوديع وغمغم بعبارات لا تفهم، فهدأ القس روعه وخاطبه بتلك البساطة التي تذهب إلى أعماق النفس؛ وقدم إليه العشاء وهيئت له غرفة للنوم. . .) وشعر بيير موران انه قد تغير وغدا شخصا آخر، فدخل ممرضا بمستشفى متنقل؛ وكان قويا متين البنية مثل جان فالجان، فكان يؤدي عمله كالابطال، وحمل بين يديه ضابطا جريحا، ثم عاد بعد ذلك إلى منزل القس واحب ابنة أخته وخادمته روزالي، ولكنه لم يجرؤ على طلب يدها، فأختفى وقتل في موقعه واترلو ولم يقتصر فكتور هوجو على أن يتحرى الحقيقة بالنسبة لأبطال روايته، ولكنه ذهب إلى تحريها في أوصافهم وأخلاقهم وفي الأوساط والبيئات التي عاشوا فيها مستندا في ذلك إلى وثائق دقيقة. وتبدو عنايته الشديدة بالبحث والدرس حينما يقص حوادث موقعة واترلو، فقد زار مسرح الموقعة الشهيرة ودرس خططها وأماكنها واوضاعها، ورجع في حوادثها إلى تواريخ العصر وسيره ووثائقه.
والحقيقة ان (البؤساء) اكثر من رواية واعظم من قصة؛ (فالبؤساء) بموضوعها وأوصافها قصيدة رائعة للبؤساء، ترتفع إلى السمو، وتشدو فيها العواطف البشرية، ويمثل شدوها في صورها؛ هي تنبؤ بليغ حي، هي نوع من الوعظ الدنيوي يضطرم بنبرات رسول؟